إشاعة تسبَّبَت بطردي

يوم دعاني نبيل لِشرب فنجان قهوة سويًّا، شعرتُ بالفخر والسعادة، لأنّ ذلك الزميل كان وسيمًا للغاية. للحقيقة، لَم أتصوّر أنّه مُهتمّ بي، فأنظاره كانت مُوجّهة لفتاة أخرى في الشركة، وقد حسَدتُها سرًّا. لِذا، قبِلتُ الدعوة بسرعة، وانتظرتُ أن تأتي فرصة نهاية الأسبوع بفارغ الصبر لتبدأ ما تخيّلتُها قصّة حبّ جميلة.

إلّا أنّ لقاءنا لَم يكن كما تصوّرتُه على الاطلاق، بل ظلَّ نبيل يتكلّم عن نفسه وقدراته ليس فقط المهنيّة، بل أيضًا الغراميّة. وبدا لي الوضع وكأنّه بحاجة إلى مُستمِعة لإنجازاته وليس لفتاة يُغازلها أو يتكلّم معها عن أمور رومانسيّة. هو لَم يسألني ولو سؤالًا واحِدًا عن نفسي، مع أنّني كنتُ قد تحضّرتُ لأُخبره بضع أمور مُهمّة عن حياتي وأفكاري وتطلّعاتي. إنتهى الموعد كما بدأ، وتركتُ المقهى وأنا أشعرُ بملَل عميق وخَيبة أمَل كبيرة. وحين انتهَت فرصة نهاية الأسبوع، تصرَّفَ نبيل في الشركة وكأنّ موعدنا كان ناجِحًا وعرَضَ عليّ أن نلتقي مُجدّدًا. ومع أنّ حماسي كان في أدنى درجاته، فقد قرّرتُ إعطاءه فرصة ثانية كَي لا أظلمه... ولأنّه كان بالفعل وسيمًا.

لَم يتغيّر شيء بتاتًا في ذلك اللقاء، بل زادَ نبيل تشاوفًا، فتركتُه يتكلّم لوحده بينما أخذتُ هاتفي وتفرّجتُ على فيديوهات، ولَم يُضايقه الأمر أبدًا! عدتُ إلى البيت مزعوجة للغاية، وقرّرتُ أنّ لا فائدة مِن مُتابعة رؤيته خارج الشركة. ولِذلك قلتُ له حين هو طلَبَ موعدًا جديدًا:

ـ إسمع يا نبيل، أنتَ شاب مُمتاز لكنّني لَم أشعُر أنّ هناك مِن أمور مُشتركة بيننا، فمِن الأفضل أن نبقى زملاء. عليكَ البحث عن صبيّة أخرى.

 

ـ ماذا؟!؟ هل تعنين ما تقولينَه؟!؟ لا أحَد كلّمَني هكذا مِن قَبل!

 

ـ لا داعٍ للانفعال، أقولُ لكَ إنّني لا أرى مِن سبب للخروج سويًّا مُجدّدًا. لَم يحصَل شيء بيننا لتستاء هكذا، صدّقني.

 

ـ أنتِ إنسانة مُتشاوِفة! أنظري إلى نفسكِ قليلًا! لستِ جميلة بالفعل، بل عاديّة للغاية! أنا أستحقّ أفضل منكِ.

 

ـ حسنًا... الحقّ معكَ... تستحقّ أفضل منّي، فاذهب وجِد غيري إذًا، المسألة حُلَّت.

 

ـ أنا آسِف... لَم أقصد ما قلتُه. تعالي نخرج سويًّا.

 

ـ قلتُ لكَ كلّا!

 

ـ حسنًا! ستندمين على ذلك، أيّتها الأفعى! فلا أحَد يرفضُني!

 

نظرتُ إليه بشفقة وضحكتُ في سرّي، لكنّني لَم أكن أعلَم أنّه يعني ما قالَه.

في البدء لاحظتُ أنّ البعض يتفاداني في العمَل، وأنّ زميلاتي المُقربّات صِرنَ مُحرجات للتواجد معي، خاصّة في فترة الاستراحة. لَم أفهَم السبب، لكنّ عقلي ابتكَرَ تفسيرات عديدة لا علاقة لها بأيّ أمر خطير. بعد ذلك، وجدتُ نفسي مُنعزِلة بطريقة شبه تامّة، إلى حين ناداني مُديري إلى مكتبه قائلًا:

ـ لستُ مسرورًا بعمَلكِ، يا آنسة.

 

ـ لماذا يا سيّدي؟ أقومُ بواجباتي على أكمَل وجه كما فعلتُ منذ قدومي إلى الشركة. ومِن فترة ليست بعيدة، تلقَّيتُ مِن جانبكَ تهاني حارّة ووعود بالترقية.

 

ـ لَم يكن الأمر كما اليوم، فلقد...

 

ـ أكمِل.

 

ـ لقد علِمتُ أمورًا عنكِ لا تُعجِبُني على الاطلاق، وأُفكِّر بالتخلّي عنكِ.

 

ـ تُريدُ فصلي؟!؟ لماذا؟!؟

 

ـ لأنّ أخلاقكِ لا تتماشى مع سياسة شركتنا.

 

ـ أخلاقي؟!؟ مِن حقّي أن أعلَم بما تتّهمُني!

 

ـ حسنًا... يُقال إنّكِ... أعني... إنّكِ تهوين الفتيات... أعني أنّكِ سحاقيّة.

 

ـ ماذا؟!؟ ما هذا الكلام الباطِل؟ وكيف تُصدِّق هذا الخبَر؟!؟ ومَن أطلقَه؟

 

ـ ليس مِن مهامي أن أُحقِّق بتفاصيل حياة موظّفِيّ الحميمة...

 

ـ لكن هذا ما تفعله سيّدي!

 

ـ ... إلّا أنّ مِن واجبي حماية سُمعة الشركة. أنتِ مطرودة.

 

خرجتُ مِن مكتبه باكية، وعندما رأيتُ نبيل يبتسِم بطريقة شنيعة، فهمتُ أنّه مَن أطلَقَ تلك الشائعة عنّي.

بدأتُ أجمَع أغراضي مِن مكتبي، حين دخلَت إحدى زميلاتي المُقرّبات وسألَتني عمّا يجري فأخبرتُها كلّ شيء. هي حزِنَت مِن أجلي وقالَت:

ـ نبيل هو الذي أخبَرَ الجميع أنّكِ سحاقيّة.

 

ـ طبعًا، ليُبرِّر رفضي له.

 

ـ للحقيقة، مِن الصعب رفض رجُل كنبيل، فأيّ فتاة طبيعيّة تتمنّاه!

 

ـ هذا لو كانت سخيفة وسطحيّة مثله! أبحثُ عن شاب مُثقّف ومُحِبّ وعاقِل، وإن كان أيضُا وسيمًا فذلك أفضل طبعًا. هذه هي جريمتي الوحيدة وأنتِ خذَلتِني كما فعَلَ باقي موظّفين الشركة. تصرّفتم وكأنّكم لا تعرفوني على الاطلاق. وبسبب صمتكم فقدتُ وظيفتي.

 

ـ مَن يرفض نبيل لو لَم يكن... أعني...

 

ـ الصبايا العاقِلات!

 

خرجتُ وأنا أبكي مِن الغضب ولَم أنظُر ورائي. لَم أقُل شيئًا لأهلي، لأنّ ذلك الموضوع لَم يكن ما نتناقَش به عادةً في العائلة. أخذتُ استراحة شهر قَبل أن أبدأ بالتفتيش عن وظيفة أخرى، وكانت تلك الفترة مُفيدةً لي حقًّا.

وجدتُ عمَلًا صدفةً في شركة كبيرة جدًّا ومُنافِسة للتي عمِلتُ فيها وطُردتُ منها، ومواصفاتي وخبرتي كانتا بغاية الأهمّيّة للمسؤولين فيها. لكن حين أجروا لي المُقابلة، سألَني المسؤول عن الموارِد الإنسانيّة لماذا توقّفتُ عن العمل لدى الشركة السابِقة. فأجبتُ بكلّ بساطة، عالمةً تمام العِلم أنّ باستطاعته الاتّصال بمديري السابِق وسؤاله. فقلتُ:

ـ لأنّ زميلًا لي شعَرَ بالامتعاض حين رفضتُه، فأطلَقَ عليّ إشاعة بشِعة وهي أنّني لا أهوى الرجال، بل النساء. والواقع أنّني لا أُريدُ مواعدة إنسان سخيف.

 

ـ يا لكِ مِن صبيّة قويّة لتقولي لي هذا!

 

ـ إنّها الحقيقة.

 

ـ حسنًا... لنُكمِل...

 

ـ قبَل أن نُكمِل يا سيّدي... أُريدُ معرفة موقفكم مِن تلك الشائعة التي أُطلِقَت حولي، فلستُ مُستعِدّة لتحمّل التنمّر مِن قِبَل أحَد.

 

ـ لا أظنّ أنّكِ مِن النوع الذي يسمَح لأحَد بالتنمرّ عليكِ، وأنا مُعجَبٌ بشخصيّتكِ وبسيرتكِ الذاتيّة إذ أنّكِ مُتعلِّمة وذات خبرة في مجال عمَلنا بالذات. إسمعي يا آنستي... هنا، لا نتدخّل في حياة موظّفينا الشخصيّة، بل نُركِّز على أدائهم ونتائجهم. سياستنا هي تقبّل كلّ الميول والأعراق والأديان وحتّى الإعاقات.

 

ـ مُمتاز... إلّا أنّني لستُ كما أُشيعَ عنّي يا سيّدي!

 

ـ هذا ليس مِن شأني. متّى تستطيعين بدء العمَل؟

 

إتّضَحَ أنّ العمَل في تلك الشركة كان مُثيرًا لوجود تحدّيات عديدة أحبَبتُها، لأنّها شكّلَت بالنسبة لي اختبارًا لِمهاراتي. كنتُ سعيدة لدرجة لا توصَف وأنا مُحاطةً بزملاء لا يتدخّلون بأمور بعضهم، بل يؤلّفون فريق عمَل مُتجانِس ومُتّحِد. حاوَلَ مُديري القديم استعادتي بعد أن علِمَ أين أعمَل، إلّا أنّني أجبتُه: "أنا آسِفة سيّدي، لكنّ أسلوبكَ ومناخ الشركة لا يتماشيان مع سياسة حياتي".

مرَّت حوالي السنة قَبل أن يُناديني المسؤول عن الموارِد الإنسانيّة إلى مكتبه ليسألَني:

ـ لقد تلقَّينا طلَبًا للتوظيف مِن شابّ كان يعمَل في المكان نفسه حيث كنتِ، وأوّد أن أسألكِ عنه وعن سيرته.

 

ـ ما اسمه، يا سيّدي؟

 

ـ إسمه نبيل م. وسيرته الذاتيّة مُمتازة ونحن بحاجة لموظّف مثله.

 

ـ يا إلهي!

 

ـ ما الأمر؟

 

ـ إنّه... إنّه الشابّ الذي رفضتُه وأطلَقَ تلك الشائعة ضدّي.

 

ـ ولهذا السبب سألتُكِ عنه.

 

ـ أعذرني سيّدي، لكن لو أنّه توظّفَ لدَيكم، سأضطّر لتقديم استقالَتي.

 

غادَرتُ مكتب الرجُل غاضِبة وبدأتُ أٌفكِّر جدّيًّا بِتَرك العمَل. كنتُ آسِفة حقًّا لأنّ وظيفتي الحاليّة أعطَتني كلّ ما إنتظرتُه وتمنَّيتُه، وكان مِن الواضح أنّ مواصفات نبيل تنطبِق على مُتطلبّات الشركة. ألن أتخلَّص مِنه أبدًا؟!؟ يا لَيتني لَم أقبَل دعوته لشرب القهوة في ذلك اليوم اللعين!

بعد حوالي الأسبوع، طُلِبتُ إلى مكتب المسؤول عن الموارِد الانسانيّة، وكَم تفاجأتُ بوجود نبيل عنده! جَلستُ بالقرب منه مِن دون أن أنظُر إليه بسبب غضبي العارِم، وإذا بالمسؤول يقول:

ـ لا داعٍ لأُعرِّفكما على بعضكما، أليس كذلك؟ أستاذ نبيل، أنتَ تسبّبتَ بطرد زميلتكَ في العمَل لِدوافع شخصيّة. لا تنكُر، فلقد تحقّقتُ مِن الأمر لدى زملائكَ الذين عرفوا الحقيقة بعد أن تفاخَرتَ أمامُهم بأنّكَ قادِر على الانتقام بِشراسة. أجل، لدَيّ طرق وسبُل عديدة لمعرفة ما أريدُه، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بالشركات المُنافِسة.

 

ـ لا أدري عمّا تتكلّم!

 

ـ وتنوي المجيء إلى هذه الشركة عالِمًا تمام العِلم أنّ ضحيّتكَ تعمَل فيها، لماذا لَم تختَر شركة أخرى؟ أم لأنّكَ واثق مِن أنّكَ تستطيع تحطيم حياة زميلتكَ حين تشاء؟ وهل تتصوّر أنّنا نريد موظّفًا مثلكَ؟!؟ أرجو ألّا تكون قد تركتَ وظيفتكَ قَبل أن تأتي إلينا، لأنّكَ غير مرغوب بكَ هنا.

 

نظَرَ إليّ نبيل بغضب وقال: "أيتّها الفاجِرة!"، وخرَجَ بسرعة. بقيتُ صامِتة طوال الوقت، لأنّني لَم أتوّقَع حصول ما جرى على الاطلاق. شكرتُ الرجُل وعدتُ إلى عمَلي وبسمة عريضة على وجهي، لأنّني فهِمتُ أنّني وجدتُ مكانًا يحميني ويُقدّرني، ويُعطيني فرصة لأتحسنّ وأكبر.

طُرِدَ نبيل مِن الشركة التي يعمَل فيها بعد أن وصَلَ خبَر للمُدير أنّه أجرى مُقابلة مع شركة مُنافِسة... وأظنُّ أنّني أعرِفُ مَن أطلعَه على الأمر!

نصيحتي لكم جميعًا، لا تواعِدوا أحدًا في مقرّ عملكم!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button