لم أتصوّر أنّ قلّة النوم ستسبّب لي هذا الكم مِن العوارض أو حتى تورّطني بمصيبة كبيرة. أعمل كسائق اجرة، ولأستطيع تأمين عيش كريم لعائلتي، قرّرتُ أن آعمل دوامَين متتاليَين. لِذا طلبتُ مِن المكتب الذي كنتُ أتعامل معه أن يؤمّن لي أكبر قدر مِن الركاّب وذلك في أيّة ساعة كانت. واعتقدتُ كباقي الناس في سنّي أنّني بكامل قواي الجسديّة وبإمكاني تحمّل هذا القدر مِن العمل. في البدء، لم أشعر بأي انزعاج وأتذكّر أنّني قلتُ لزوجتي:" بعد سنتَين أو ثلاثة على هذا النمط، سنستطيع الإنتقال إلى شقّة أكبر وإرسال إبننا إلى مدرسة إبتدائيّة خاصّة. كنتُ أحبّ سعاد مِن كلّ قلبي، وكنتُ أعلم أنّ غياباتي عن المنزل تشعرها بعدم الآمان، ولكنّها كانت إمرأة عاقلة تقدّر تعبي وتعي حاجتنا إلى حياة أفضل.
ولكن بعد فترة، بدأتُ أشعر بالتعب ولكنّني أصّرَيتُ على المتابعة رغم الدّلائل التي صارَت واضحة للعيان: أصبحَتُ قليل الصّبر أقاتل نفسي والركّاب وحتى سعاد التي كانت تتحمّل طباعي البشعة بصمت.
ومِن ثمّ فقدتُ التركيز خاصة في القيادة، وكنتُ أوقِف سيّارتي جانبًا بعد كلّ هفوة كانت ستؤدّي إلى اصطدامي بِسيّارة أخرى أو حتى بِحائط. وكان يجدر بي أن أرتاح وأدَع جسدي يستعيد عافيته، ولكنّني حسبتُ نفسي أقوى منه.
وبدأَت الهلوسات. كنتُ أرى ركاّبًا غير موجودين حقّاً أو إشارات سير تنقلب تلقائيًّا إلى الأخضر حين أصل إليها. كانت تلك إنذارات لم أشأ الإستماع إليها لشدّة عنادي.
وتعكّر جوّ البيت بشكل ملحوظ ، بعد أن صِرتُ أصرخ بزوجتي وبصغيري لأيّ سبب، وبتُّ أفضّل البقاء خارج المنزل حتى خلال استراحتي القصيرة.
ولكن كلّ ذلك لم يكن شيئًا مقارنة بالذي حدَث لي لاحقًا بسبب إرهاقي.
ففي ذات ليلة، أخذتُ راكبًا مِن أمام فندق صغير وأقلَّيته إلى شارع مظلم خارج المدينة. لم يتفوّه بكلمة واحدة، ولكنّه أخذ هاتفه وخابر أحدًا:" سأصل بعد دقائق... هل أنتِ جاهزة؟ سنحلّ مشكلتنا الليلة." ومِن ثمّ عاد إلى صمته.
ووصلنا إلى العنوان المذكور وترجّلَ بعد أن دفَعَ ما عليه. وفي تلك اللحظة بالذات، صعدَت مكانه إمرأة تفاجأتُ كثيرًأ بالسرعة التي جلسَت بها على المقعد الخلفي، وقالت لي:" إمشِ... بسرعة!"
وفعلتُ كما طلبَت منّي بدون أن أعلم أين تريدني أن أوصلها. وبعد حوالي الدّقيقة، سألتُها عن وجهتها ولكنّها لم تجب. فنظرتُ في المرآة ورأيتُها تلهث ويدها على بطنها. وبالطبع أدركتُ أنّها تعاني مِن أزمة صحيّة حادّة فاتجهتُ فورًا إلى المشفى. وفور وصولنا، ركضتُ أنادي المسعفين الذين أسرعوا بإدخالها على حمّالة وطلبوا منّي البقاء لإعطائهم تفاصيل ما جرى لها وملء استمارة الدّخول.
ولكن بعد دقائق قليلة، جاء اليّ طبيب وبرفقته رجل أمن وأخذاني إلى مكان منفرد وبدأ الطبيب بطرح جملة أسئلة عليّ لم أفهم نصفها. ولم أسمع سوى كلمتَين:" سكين" و" طعن". ولكثرة إرباكي، وقعتُ أرضًا وأخِذتُ للمعاينة. وقال لي الطبيب:
ـ أنتَ مصاب بإرهاق حاد... هل تتعِب نفسك كثيرًا؟
ـ أجل يا دكتور... أعمل على مدار الساعة.
ـ وما قصّة تلك المرأة؟ لقد اتصلنا بالشرطة.
ـ بالشرطة؟ لماذا؟ المسكينة شعَرَت بتوعّك وجلبتُها إلى هنا.
ـ لا بل طُعِنَت بسكّين وحالتها حرجة.
ـ ماذا؟ متى حصل ذلك؟
ـ عليكَ أنتَ أن تخبرني بذلك... أو تخبر الشرطة، فهذه تُعتبَر جريمة."
وأتى رجال الشرطة وبدأوا بالأسئلة، مّا زاد مِن إرباكي. فصِدقًا لم أكن أعلم ما حصل لتلك السيّدة. كلّ ما أتذكّره أنّها صعدَت معي فور نزول الراكب، ولا أذكر أنّهما قد تبادلا الحديث او حتى أنّهما كانا يعرفان بعضهما. ونسيتُ كليًّا أنّ الرجل أجرى إتصالاً هاتفيًّا مع امرأة.
وبِغياب أيّ دليل على براءتي، أخذوني إلى التحقيق ريثما تصبح الضحيّة قادرة على الإدلاء بشهادتها. ولكنّ المسكينة وقعَت في غيبوبة لِذا وضعوني في السجن.
وكادَت زوجتي أن تجنّ عندما سمحوا لي بالإتصال بها لطمأنتها وإخبارها بالذي جرى والطلب منها أن تجد لي محاميًا. وعندما حقّقوا معها، إضطرَّت إلى أن تقول للشرطة أنّني كنتُ أتصرّف بغرابة في الأواني الأخيرة ممّا عزّز اعتقادهم بأنّني حاولتُ قتل الراكبة لغرض السّرقة أو سبب آخر مجهول منهم.
وتعرّفتُ في السجن إلى الحياة القاسية والبشعة فقد كنتُ محاطًا بشتى أنواع المجرمين: السارقون منهم وتجار المخدّرات... وأظنّ أنّني كنتُ مِن الأبرياء القلائل هناك. ولكن كان للسجن مفعول إيجابي عليّ، وهو أنّني ارتحتُ مِن العمل وبدأتُ أستعيد عافيَتي. فقضيتُ وقتي بالنوم، وكانوا يوقظوني لأجتمع مع المحامي الذي وجَدَته لي سعاد.
وفي تلك الأثناء، إتصل المحقّق بمكتب الأجرة الذي أعطاه عنوان الرّاكب الأخير الذي أقليته قبل السيّدة، وحين سألوه عمّا حصل في تلك الليلة أنكر طبعًا أن يكون قد رأى أيّة إمرأة تصعد مِن بعده في سيّارتي. ولم يكن لدَيهم أيّ سبب للشك في حديثه، فقد كان رجلًا محترمًا ولدَيه عائلة وعمل جيّد في إحدى المؤسّسات الحكوميّة. وكان قد استقّل سيّارة أجرة في تلك الليلة بسبب عطل بسيّارته الخاصة. وحين سألوه عمّن كان يزور، أعطى إسم صديق له الذي أكّد بِدوره أقوال الراكب.
وبدأتُ أشك بنفسي. هل يعقل أن أكون قد طعَنتُ المرأة؟ ففي الأواني الأخيرة كما ذكرتُ، كنتُ قد بدأتُ أفقد التركيز، وكانت تتراءى لي أمور غير موجودة.
وعندما جاءَت سعاد لِتزورني في السجن، أخبَرتُها بأنّني قد أكون مجرمًا وأنّه مِن الأفضل أن تأخذ إبننا وتعود إلى اهلها بعدما عرضت عليها الطلاق. ولكنّها رفضَت بقوّة قائلة:
ـ لا! هذا لن يحدث! لستَ بمجرم! أعرفكَ جيّدًا وأنا متأكّدة من أنّكَ بريء! لن يهدأ لي بال حتى تُثبَت براءتكَ حتى لو تطلّبَ الأمر سنوات... ولن أقبل أن تطلّقني... أنتَ زوجي وحبيبي... صحيح أنّ مزاجكَ كان صعبًا في الأواني الأخيرة، ولكنّني لم أواجهكَ يومًا عالمة تمام العلم أنّ السبب كان إرهاقكَ مِن كثرة العمل... إرهاق جلَبتَه لنفسكَ مِن أجلنا... لن أتخلّى عنكَ".
وكبر قلبي بعد أن سمعتُ هذا الكلام وبدأتُ أؤمِن بنفسي مجدّدًا.
وتذكّرتُ المكالمة التي أجراها الراكب بامرأة مجهولة وأخبرتُ المحامي بذلك. عندها دقّقَت الشرطة بحياة الضحيّة الشخصيّة، وعلِمَت مِن صديقتها أنّها كانت على علاقة برجل متزوّج وأنها أرادَت فضحه بعد أن اكتشفَت أنّه لن يُطلّق زوجته ليتزوّجها هي كما وعدها بأن يفعل. وتمّ ربط الأمور ببعضها، وجلبوا الراكب واستجوبوه مِن جديد. ولكنّه بقيّ مصرًّا على إفادته الأولى ولم يعترف بشيء.
وأظنّ أنّني كنتُ سأحصل على الحكم المؤبّد إن ماتَت الراكبة، أو السّجن لسنين طويلة إذا لم تستفق مِن سباتها. ولكنّها فتحَت أخيرًا عينيها. وعندما أصبحَت قادرة على التكلّم اخبرَت قصّتها للشرطة.
كانت فعلاً ستفضح عشيقها الذي خاف من أن تعرف زوجته بالأمر وتقطع عنه مساعدة أبيها له لبلوغ مركز مهمّ، فأعطاها موعدًا في تلك الليلة. وفور نزوله مِن سيّارتي، طعنَها ورماها في المركبة واختفى آملاً أن تموت وهي معي.
وأُخليَ سراحي، وعدتُ إلى عائلتي الصّغيرة التي عانَت في غيابي. وبالطبع سُجِنَ المجرم وحوكِمَ وتعافَت تلك السيّدة ولم تنسَ فضلي عليها لأنّني أسرعتُ بها إلى المشفى قبل أن يفرغ جسدها مِن الدّم. لِذا قدّمَت لنا مساعدة غيّرَت حياتنا: عمل كسائق خاص عند عمّها بدوام مريح وراتب مرتفع. وهكذا تركتُ سيّارة الأجرة والمكتب واستطعتُ التفرّغ لزوجتي وإبني.
وفهمتُ أنّ الراحة الجسديّة والنفسيّة أهمّ مِن كل مال الدنيا، فإنْ فقَدنا صحّتنا فقَدنا نفسنا وكلّ أحبابنا.
حاورته بولا جهشان