لحظة حملتُ إبني أنوَر بين ذراعيّ، علمتُ أنّه ليس منّي. نظرتُ إلى سلوى زوجتي بحثاً عن تأكيد ولكنّها كانت في قمّة السعادة ولم أشأ أن أنكّد عليها فرحتها. أرجأتُ الموضوع إلى وقت آخر ونظرتُ إلى ذلك المخلوق الصغير الذي لا ذنب له بمشاكل الراشدين وحزنتُ من أجله.
لم أفاتح زوجتي بالأمر، لأنّني أحببتُ أنوَر من كل قلبي ومع مرور الوقت لم يعد يهمّني فعلاً إن كان إبني أو لا. للحقيقة إن كانت سلوى قد حمَلت من غيري، فكان هذا ربّما بسببي، لأنّني في تلك الفترة كنتُ أغيب كثيراً عن المنزل لأقوم بعملي وكانت قد طلبَت منّي مراراً أن أمضي وقتاً أطولاً معها. ولكنّني لم أفعل، لأنّني أردتُ أن أنجح فيما أفعله وكان هذا أهمّ شيء في نظري. وبعد أن رأت زوجتي أنّني لا أكترث كثيراً لمشاعرها، قرّرَت تركي والعودة إلى أهلها.
لم أمانع لإعتقادي أنّ الحياة من دون قيود، أفضل وتركتها ترحل. ولكن بعد فترة شعرتُ بالشوق الشديد لها وعلمتُ حينها أنّني أحبّها أكثر من أيّ شيء. وفي هذه الأثناء كانت سلوى قد بدأت علاقة مع رجل آخر وعندما طلبتُ منها أن تعود إلى المنزل وقعَت في حيرة من أمرها، لأنّها كانت على وشك أن تتزوّج مرّة منه. ولأنّها تحبّني كثيراً، قبِلَت أن تتركه مِن أجلي. ولم أعد أعطي إهتماماً مفرطاً لِعملي وتابعنا حياتنا حتى أن قالت لي بعد فترة قصيرة أنّها حامل. لم تكن الفرحة واضحة عليها وبالكاد نظرَت إليّ وكأنّها تخجل من الأمر، فعملتُ أنّه ولد ذلك الرجل. كان بإمكاني مطالبتها بالإجهاض أو الرحيل ولكنّني لم أكن مستعدّاً أن أخسرها مرّة أخرى. أمّا بالنسبة للطفل، لم أكن أعلم حقاً ما كانت ستكون ردّة فعلي عند ولادته، فقرّرتُ الإنتظار. ومرّت الأيّام ونسيت أنّه ليس من لحمي ودمي، حتى أن أصبح في سنّ الثامنة عشر وشعرتُ بتغيّر في طباعه الهادئة عادة. فبدأ يغضب بسرعة ويتفادى الجلوس معنا وعندما فاتحتُ سلوى بالموضوع قالت لي:
- هذه سنّ المراهقة... أنسيتَ نفسكَ عندما كنتَ في سنّه؟ لا تقلق عليه...
ولكنّني لم أقتنع بهذا التفسير لأنّ المراهقة لا تبدأ فجأة في هذا السنّ بل قبل ذلك. فقرّرتُ الذهاب إلى غرفة أنوَر والتكلّم معه لمعرفة ما يدفعه لهذا التصرّف. في البدء لم يشأ التكلّم معي وتحجّج بالدرس ولكنّني أصرّيتُ على موقفي، فأقفل كتبه وقال لي:
- ما الأمر؟ ماذا تريد؟
- يا بنيّ... لطالما كنتَ فتى عاقل ومسالم... ولكن مؤخّراً تغيّرَت طباعكَ وبات كل شيء يثير غضبكَ... يمكنكَ أن تقول لي ما يزعجكَ فأنا أبوك...
- هذه هي المشكلة... أنتَ لستَ أبي!
ومع أنّني كنتُ على علم بهذا ولكنّني لم أحصل يوماً على التأكيد وشعرتُ وكأنّ أحداً كان قد صفعني بقوّة. أجبتُه:
- لماذا تقول هذا؟ بالطبع أنا أباكَ!
- ليس هذا ما قالته لي أمّي منذ أقل من شهر... قالت أنّ أبي رجل كانت ستتزوّجه عندما تطلّقَت منكَ...
- ولماذا قالَت لكَ هذا؟ ما الهدف؟
- تريدني أن أعرف الحقيقة لأنّني أصبحتُ راشداً...و أنا أريد أن أرى أبي الحقيقيّ...
- أنا هو أبوكَ! ألا تفهم هذا؟
- أريد معرفة الرجل الذي أحمل صفاته وخلقه ودمه...
- أحببتكَ وكأنّكَ إبني...
- كنتَ تعلم بالحقيقة؟؟؟
- أجل وأحببتكَ لحظة وقعَت عيوني عليكَ... لا تبحث عن أحد فأنا هنا... أرجوك.
ولكنّه أصرّ على المضي في خطّته. ذهبتُ فوراً إلى زوجتي وتشاجرنا أوّلاً لأنّني أصبحتُ رسميّاً على علم بأنّ أنوَر ليس إبني وثانيّاً لأنّها أخبرَته بالحقيقة. أجابَتني:
- هل تظنّ فعلاً أنّني لم أعلم أنّكَ إكتشفتَ الحقيقة؟ سكتتُ لأنّكَ لم تفتح الموضوع وإلّا أخبرتكَ بما تريد معرفته... وكان مِن واجبي إطلاع أنوَر على ما خبّأته عليه طوال السنين... من حقّه أن يرى أباه ومن حقّ أباه أن يعلم أنّ لديه ولد. هكذا سترجع الأمور إلى مكأنها الصحيح. عندما قبلتَ بأنوَر، قبلت أيضاً أن تبحث عن سعادته وأن تضحّي من أجله. هكذا يفعلون الآباء.س
كانت على حق ولكنّني خفتُ أن أخسر الولد الذي عشقتُه والذي بات سبب وجودي وهدف حياتي كلّها. ذهبَ النوم منّي ولم أعد أستطع التركيز على عملي، فطلبتُ إجازة وذهبتُ إلى بيت أهلي في الجبل لأختلي بنفسي وأفكّر بما يحصل. في هذه الأثناء، أعطَت سلوى لأنوَر إسم وعنوان أباه البيولوجيّ وحين بدأت الفرصة الصيفيّة، ذهبَ للقاء والده. قضيتُ أيّاماً عصيبة لوحدي في ذلك البيت الموحِد، أتخيّل كيف سيتعانق الرجلان ويجلسان معاً للتعويض عن الوقت الضائع. بكيتُ كثيراً ومشيتُ ساعات في الأحراج وعلى ضفاف النهر. وبعد أسبوعين، حان وقت العودة إلى البيت وفي قلبي غصّة. لم أكن أعلم ما حدث في غيابي، لأنّني أقفلتُ هاتفي ومنعتُ أي أحد من زيارتي، فعندما فتحَت لي سلوى الباب عانقَتني بقوّة قائلة:
- كم إشتقتُ إليكَ!
- وأنا أيضاً... أين أنوَر؟ هل عاد أم بقيَ مع ذلك الرجل؟ لا أستطيع تسميته بغير هذه الكلمة... أنا والد أنوَر ولا أحد سواي!
- هدّئ من روعكَ وأدخل... ستعرف كل شيء بعد قليل.
أخذَتني من ذراعي وأدخلَتني إلى المطبخ حيث وجدتُ أنوَر يتناول الطعام. لم أعلم إن كان عليّ معانقته أم لا، فجاءني الجواب عندما ركض هو إليّ وقبّلني بقوّة قائلاً:
- كم أنا مسرور لرؤيتكَ... يا أبي.
أنّهالَت دموعي عند سماع هذا وجلستُ على الكرسي لشدّة تأثّري. مسكَت سلوى يدي وأنوَر الأخرى وبدأ يخبرني عمّا حصل في غيابي:
- أخذتُ حقيبة مليئة بالثياب وأشياء خاصة بي، فكنتُ بصراحة أنوي العيش حيث أنا ذاهب... لا تغضب منّي ولكنّني كنتُ في حالة حماس قصوى... قرعتُ باب والدي وفتح لي. لم يعرفني ولم أكن أتوقّع أن يفعل، فهو لم يراني يوماً لذا عرّفته عن نفسي وقلتُ له أنّ أمّي تركته قبل أن تخبره أنّها حامل منه. ولكنّني فوجئتُ كثيراً عندما قال لي أنّه لم يكن ينوي الزواج مِن ولدتي وإرتاح منها عندما تركَته وأنّه كان على علم بمسألة الحمل. أضاف أنّه لا يعتبرني إبنه، لأنّه لم يردني يوماً وأنّها أشياء تحصل سهواً. وعندما قال كلمة "سهواً" علمتُ أنّني لا أعني له شيئاً، فهو لم يحاول يوماً البحث عنّي أو معرفة كيف أبدو وكيف تسير أموري. لم يحاول أن يتأكّد إن كان زوج أمّي يعاملني معاملة حسنة أو لا ولم يدعوني حتى إلى داخل منزله، فكل حديثنا جرى ونحن على الباب.
ثمّ نظر إلى الحقيبة وقال: "ماهذه؟" عندها أجبته: "لا شيء... أنا ذاهب عند صديق لي وفكّرتُ أن أمرّ عليك في طريقي لألقي التحيّة عليكَ." ثمّ ودّعته وأقفل الباب بوجهي. وعدتُ في النهار ذاته لأنتظر عودتكَ وأقول لكَ كم أنّكَ عظيم... لقد أحببتَني كما لو أنّكَ مَن أعطاني الحياة ولم أشعر يوماً بأنّكَ تعرف الحقيقة... أعطيتَني كل شيء رغم أنّكَ لم تكن مجبراً على ذلك... أنتَ بطلي... أحبّكَ كثيراً وأعدكَ بأن أكون أفضل إبن في العالم وأن أبقى إلى جانبكَ أنتَ وأمّي حتى النهاية... كم أنا محظوظ...
وكان هذا أجمل نهار في حياتي. بكينا نحن الثلاثة ثمّ مسحنا دموعنا وحضّرنا أنفسنا لحياة جميلة سويّاً.
حاورته بولا جهشان