لن أنسى وجه تامر عندما علِمَ أنّنا اختَرناه ليكون ابننا. كان المسكين قد أمضى سنواته الخمس الأولى في مؤسّسة تُعنى بالأيتام، وسمِعَ مِن رفاقه أنّ فرصَه بأن يتبنّاه أحد تتلاشى مع مرور الوقت. فمعظم الناس يُفضّلون الأطفال الرضَّع على مَن هم أكبر، ربّما كي لا يروا على وجوههم ملامح أهلهم الحقيقيّن. لم نُمانع أن نستقبل في عائلتنا ولدًا كبيرًا، بل العكس، فكنّا نعلم أنّ هؤلاء يكونون بحالة يأس عميقة.
جُلنا على الأولاد، وخجلتُ مِن نفسي وأنا أختار واحدًا بينهم، فقد كان الأمر وكأنّنا في سوبر ماركت للبضاعة الحيّة، وكنتُ أعلم أنّ بعد أن يتمّ اختيارنا سيحزن الباقون ويعودوا إلى غرفهم ليبكوا. يا ليتنا كنّا قادرَين على أخذهم جميعًا إلى البيت...
إختَرتُ عن قصد أقلّهم جمالاً، لأنّ فرصَه كانت ضئيلة ولأنّني كنتُ سأحبّه مهما كان شكله. فتوقي للأولاد كان بلَغَ ذروته بعدما فقَدنا الأمل بالإنجاب. حاولنا كلّ الطرق التقليديّة والعلميّة مِن دون نتيجة حتى رضخنا للأمر الواقع: عقمي كان أمرًا محتومًا. عشنا سنوات ندّعي أنّنا سعيدان هكذا، وكنّا نكذب على بعضنا وأنفسنا. كان لا بدّ لنا أن نجلب ولدًا بأيّ طريقة، والتبنيّ كان فرصتنا الوحيدة والأخيرة.
كانت المعاملات طويلة ومتعبة ومُقلقة، فلَم يكن مِن المؤكّد أن نفوز بالموافقة. وأتذكّر أنّنا كنّا مشدودَي الأعصاب طوال الوقت. لكنّنا نسينا كلّ شيء يوم قصَدنا الميتَم لنجلب تامر معنا إلى البيت. كنّا قد رتّبنا له غرفة جميلة، وزيّناها بالألوان الزهيّة وملأناها بالألعاب الجميلة والملابس الأنيقة. فالجدير بالذكر أنّنا كنّا مكتفيَين ماديًّا ولم يكن المال مشكلة لدَينا.
عندما رأى صغيرنا غرفته بدأ بالبكاء، وركَضَ يُعانقنا ويشكرنا بحرارة، ومِن ثمّ استلقى على سريره الجميل وبدأ يلعب بألعابه. بعد دقائق، أغمضَ تامر عَينَيه ونام نومًا عميقًا لم يستفِق منه سوى بعد ساعات طويلة.
كان تامر ولدًا هادئًا، ولم نواجه مشاكل معه إلا حين بلَغَ سنّ المراهقة، الأمر الذي كان طبيعيًّا. فبمثل هذا السنّ، يبدأ الطفل مرحلة الانتقال إلى تحديد شخصيّته وفرض نفسه في عالم الكبار. علِمتُ ذلك مِن صديقاتي اللواتِي مرَرنَ بمواجهات عديدة مع أولادهنّ، وطمأنتُ زوجي الذي بدأ يرى في ابننا منافسًا على سلطته.
إلا أنّ تامر لم يهدأ بل بقيَ يتصرّف بتحدٍّ ومعاندة، وتراجعَت نتائجه في المدرسة وصِرتُ أشعرُ بغضب كبير ينبع مِن كلامه معنا ومِن نظراته إلينا. ماذا فعَلنا له لنستحقّ موقفًا مماثلاً؟ أحبَبناه وكأنّه فعلاً ابننا ولم ندَعه يشعر يومًا بأنّه غريب. حتى أقاربنا وأصدقاؤنا اعتبروه مِن دمنا، وأقسمُ أنّ ما مِن أحد وجّه له يومًا ولو ملاحظة صغيرة أو تلميحًا مبّطنًا. كان تامر يعيش فعلاً حياة جميلة وكريمة معنا.
تفاقَم الوضع بشكل جدّيّ حين شهَرَ تامر سكّينا على زوجي خلال إحدى شجارتهما وكادَ أن يجرحه. وإذ أدركَ ما كان على وشك أن يفعله، ركَضَ إلى غرفته ليبكي نادمًا. عندها قال لي زوجي شيئًا لن أنساه أبدًا:
ـ لم يكن يجدر بنا اختيار تامر بعدما علِمنا أنّ أباه مات في السجن، بعد أن طعنَه سجين آخر، وكانت أمّه تتعاطى المخدّرات وتوفّيَت مِن جرعة زائدة... الولد غير موزون، فلا بّد أنّه ورِثَ طباع أبيه وتأثَّرَ مِن تعاطي أمّه حين كان في بطنها. يا ليتنا جلبنا ولدًا غيره...
ـ توقّف عن التلفّظ بالسّخافات! إبننا إنسان لطيف ومهذّب! ولستُ نادمة لاختياره. لا أريد سماع هذا الكلام بعد الآن! هذه ليست طريقة لحلّ المشاكل، نحن أناس مثقّفون وعلينا تدارك الأمور بطريقة علميّة.
أدركتُ أنّ الوقت حان ليرى ابني طبيبًّا نفسيًّا لعلّه يُساعده في إخراج كل مشاعره العدائيّة واستعادة سلامه الداخليّ.
في البدء لم يقبل تامر بالذهاب إلى أخصّائيّ، إلا أنّني وعدتُه بتنفيذ رغباته لو فعل، وهكذا بدأ يزور عيادة ذلك الطبيب الشهير.
كان تامر يُعاني مِن غضب تجاه تخلّي والدَيه عنه، ومِن خوف عميق مِن أن نحذو حذوَهما، ولَم يكن يستطيع التعبير عن مخاوفه سوى بالعدائيّة. لم أفهم تلك المخاوف، فوالدا تامر كانا قد ماتا، وكنتُ وزوجي بصحّة جيّدة جدًّا، فكيف له أن يُفكّر بموتنا منذ الآن؟ شَرَحَ لي الطبيب أنّ المخاوف النفسيّة لا ترتكز على المنطق، لِذا مِن الصعب تفسيرها وتحليلها، على الأقل بالنسبة إلى أناس غير أخصّائيين مثلنا.
وبعدما أعطاني الطبيب النفسيّ التعليمات اللازمة، بدأتُ أعمل على طمأنة ابننا بموازاة الجلسات المهمّة التي كان يُتابعها. وهكذا، بدأتُ أراه يهدأ، وعُدتُ ألمَح بسمته الجميلة التي أحببتُها منذ اللحظة الأولى.
بعدما فهِمَ زوجي أسباب تصرّفات ابننا، ساعدَني كثيرًا على تقبّل نوبات غضب تامر، إلى أن انقطعَت بشكل ملحوظ. كنتُ سعيدة لأنّنا اجتَزنا كعائلة مرحلة صعبة للغاية.
لكنّ حالة تامر النفسيّة لم تُحَل كلّيًّا، فبالرّغم مِن هدوئه، كان الخوف لا يزال مسيطرًا على قلبه. صارَ يرتعب كلّما مرضتُ أو أبوه حتى بزكام بسيط، ويجلس بالقرب منّا مُمسكًا بِيَدنا وفي عَينَيه نظرة همّ كبير. كان هاجسه أن يفقدنا وأن تعود إليه المشاعر التي سكنَته عندما كان في المَيتَم.
مرَّت السنوات وتخرّجَ ابني مِن الجامعة وبدأ بالعمل، لكنّه كان يقضي وقته بين الشركة والبيت. لم يكن له أصدقاء، ليس لأنّه غير ودود أو مثير للاهتمام، بل لأنّه لم يكن يُريد تركنا.
إنشغَلَ بالي عليه كثيرًا، فهو لم يقع في الحبّ كسائر الشبّان. وبدأتُ أبحث له عن عروس تعطي قلبه بعض الدّفء. وبعد محاولات عديدة باءَت بالفشل، أُعجِبَ تامر أخيرًا بصبيّة جميلة وهادئة وخطبناها له وسط فرحة عارمة. ساعَدنا تامر في العثور على شقّة صغيرة وحدّدنا موعد الزفاف. لكنّ زوجي المسكين أُصيبَ بنوبة قلبيّة وتوفّيَ على الفور.
حزني لم يكن شيئًا أمام حزن تامر الذي انهارَ تمامًا، فموت أبيه كان قد أكَّدَ له مخاوفه، وأدارَ ابني عاطفته كلّها عليّ. لِذا قرَّرَ أن يأتي للسكن معي وزوجته بعد الزفاف كي لا يتركني لوحدي. عارَضتُ طبعًا، فلَم أشأ أن تستاء العروس بعدما وُعِدَت بأنّها ستعيش مع تامر في مكان خاصّ بهما، لكنّ تامر بقيَ مصرًّا، فرضختُ لرغبته.
حاولتُ جهدي ألا أكون حمىً متطفّلة، وقرّرتُ إعطاء العروسَين حرّيتهما قدر المستطاع، إلا أنّ تامر بقيَ مصرًّا على إقحامي في كلّ شيء يخصّهما، الأمر الذي ولَّدَ مناخًا مشدودًا بيني وبين زوجته. وبدأَت الأمور تسوء في زواجهما، خاصّة بعدما أطلَعَ ابني زوجته على عدَم نيّته بالإنجاب. كان يرفضُ رفضًا قاطعًا جَلب أولاد إلى الدنيا قد يعيشون أيتامًا في حال ماتَ وزوجته. عملتُ جهدي لإفهامه أنّ كلّ الآباء والأمّهات لا يموتون باكرًا أو سويًّا، لكنّ خوفه كان أكبر مِن أيّ منطق. وبعد أقلّ مِن سنة، غادَرَت زوجته البيت ولم تعد.
ظننتُ أنّ ذلك الرحيل سيُحزِن ابني، إلا أنّه بدا مرتاحًا جدًّا، وقال لي في إحدى المرّات التي جلستُ فيها معه للتكلّم عن الأمر: "هكذا أفضل بكثير... هكذا سنكون سويًّا أنا وأنتِ إلى الأبد."
أثَّرَت تلك الجملة بي إلى حدّ كبير، فكان مِن الواضح أنّ تعلّق ابني بي كان مرَضيًّا، وعرضتُ عليه معاودة رؤية الطبيب لكنّه لم يقبل. سعادته كانت تكمن بالعَيش معي ولم يكن مستعدًّا للتخلّي عمّا يُسعده. أسفتُ مِن أجل ذلك الشاب الذكيّ والناجح والمحبّ، وأمِلتُ أن يجد حبًّا أقوى مِن حبّي ليعيش حياة طبيعيّة.
إلا أنّ ذلك لم يحصل، وبقيَ تامر يُلازمني كالطفل، وأنا اعتَدتُ الفكرة وصرتُ أعامله وكأنّه لا يزال ولدًا صغيرًا.
حين علمتُ مِن طبيبي أنّني مصابة بداء السرطان، لم أفكّر بنفسي بل بابني. كنتُ أعلم أنّ الخبر سيُدّمره، ففكرة فقدانه لي كانت لا تُطاق. فعلتُ جهدي لإخفاء الأمر عنه، لكن عندما اضطرِرتُ لبدء جلسات الكيمياء، علِمَ بما يحدث، فإنهارَ كليًّا وبدأ يصرخ ويبكي في آن واحد، وأنا كنتُ التي واسَته وليس العكس. أخَذَ ابني إجازة مِن عمله وبقيَ معي طوال الوقت. عانَيتُ مِن العلاج وأكثر مِن رؤيته يبكي طوال الوقت مردّدًا: "يا إلهي، لا تأخذ أمّي منّي!".
بعد فترة، تحسّنتُ بشكل ملحوظ بعد أن تراجَعَ الورَم الخبيث. ترَكَ ابني عمله ووجَدَ آخرًا يُمكنه القيام به مِن البيت كي لا يتركني وحيدة، وهكذا صرنا برفقة بعضنا على مدار الساعة.
ما لم أقُله لتامر، هو أنّ المرض قد يُعاودني وقد لا أعيش طويلاً. لستُ خائفة مِن الموت، بل أخاف على ابني لأنّني أعلم أنّ وفاتي ستدمّره نهائيًّا. على كلّ حال، سرطان أم لا، سأموت يومًا، وستكون النتيجة هي نفسها.
أفكّر دائمًا بحالة هؤلاء الأيتام الذين يعيشون بقلق دائم، ربّما ليس بحدّة قلق تامر، ولكنّ في خوف مستمرّ مِمّا قد تخبّئه لهم الحياة مِن مآسٍ. أطفال أبرياء تُرِكوا لوحدهم في برد نفسيّ وفراغ لا يسدّه شيء. كم أنّ الانسان ضعيف وهشّ أمام مصائب الحياة!
حاورتها بولا جهشان