يوم تلقَّيتُ اتصالاً مِن صديقتي نوال، كانت فرحتي لا تُقاس، فهي كانت في ما مضى بمثابة أخت لي. إلا أنّها اختَفت فجأة مِن حياتي حين غادَرت وأهلها إلى العاصمة بسبب عمل أبيها. ومنذ تلك الفترة، لم أسمَع منها أيّ خبر، يعني ذلك منذ أكثر مِن عشر سنوات، كنتُ خلالها قد دخلتُ الجامعة وتخرّجتُ منها وتزوّجتُ مِن زياد، زميل لي في الدّراسة، وسكنّا في العاصمة.
تعرّفتُ فورًا إلى صوت نوال على الهاتف، وبدأتُ أسألُها مئة سؤال عن أحوالها والذي فعلَته خلال غيابها عنّي. هي لم تشأ الإجابة بل فضَّلت زيارتي للجلوس معي مطوّلاً، فحسب قولها كان لدَيها كميّة كبيرة مِن الأخبار تريد أن تقصّها عليّ. إتّفقنا على موعد، وأعطَيتُها عنواني بعد أن سألتُها طبعًا كيف حصلَت على رقم هاتفي. "مَن يبحث يجد" كان جوابها.
لكنّ نوال لم تأتِ بمفردها، بل جاءَت مع ولد في الثالثة مِن عمره ركضتُ ألاعبُه لكثرة ولَعي بالأطفال. لم أكن أمًّا بعد، فزواجي مِن زياد لم تمرّ عليه السّنة وكنتُ أنوي تأليف عائلة كبيرة معه.
أخبرَتني صديقتي أنّها تابعَت دراستها لكنّها لم تدخل الجامعة بسبب ظروفها الماديّة، واضطرَّت للعمل في أماكن عدّة لمساعدة أهلها. ومِن ثمّ تعرّفَت إلى زوجها ورُزقا بولد بعد سنة. لكنّ نوال لم تكن سعيدة. هي لم تقل ذلك، إلا أنّني كنتُ أعرفُها جيّدًا، وشعرتُ بالحزن الذي حاولَت إخفاءه عنّي. إحترمتُ رغبتها بالتكّتم عمّا يُتعسها، وعرضتُ عليها أن تبقى وابنها على العشاء حين يعود زياد مِن عمله. رفضَت نوال بتهذيب، ووعدَتني بأن تعاود زيارتي بأقرب وقت. ودّعتُها وقبّلتُ إبنها بحرارة، وحين أغلقتُ الباب وراءهما، أحسستُ بشيء مِن الإرتباك لم أستطع تحديده.
أخبرتُ زوجي بأنّ صديقتي القديمة جاءَت مع ابنها إلى البيت، وفرِحَ مِن أجلي لأنّ أصدقائي كانوا قلائل. وعدتُه بأن أعرّفه إليها بأقرب وقت، وتمنَّيتُ أن يُصبَحَ زوجها صديق زوجي أيضًا لنتمكّن مِن الخروج سويًّا وتمضية أوقات ممتعة نحن الأربعة.
بعد أيّام قليلة على زيارتها الأولى، جاءَت نوال مرّة أخرى مع ابنها، وكنتُ قد اشترَيتُ له ألعابًا أحبَّها كثيرًا. كان الحزن لا يزال بائنًا في عَينَيّ صديقتي، وتجرّأتُ على سؤالها عمّا جرى أو يجري لها. وهذا ما قالَته لي:
ـ لم تكن حياتي هنيئة خلال السّنين التي ابتعدتُ عنكِ فيها، فكما ذكرتُ لكِ إنّ قلّة المال كانت همّنا الأوحد. صحيح أنّنا لم نكن يومًا أثرياء، إلا أنّ انتقالنا إلى العاصمة لم يكن موفّقاً. العمل الذي وُعِدَ به أبي كان أسوأ مِن الذي سبَقَه، وإيجار الشقّة باهظًا، ناهيك عن ارتفاع الأسعار التي أكلَت راتب والدي. وفي ما يخصّ إبني، فأنا... يا إلهي لا أدري كيف أقول ذلك... أنا لم أتزوّج مِن أبيه، ليس لأنّني لم أرد ذلك، بل لأنّه فرّ حالما علِمَ أنّ عليه تسوية الوضع. أحببتُ ذلك الرجل كثيرًا وخلتُه يُحبّني أيضًا، إلا أنّه كان يمضي وقتًا ممتعًا معي فقط.
ـ أنا آسفة مِن أجلكِ يا نوال... لم أكن أعلم أنّ وضعكِ سيّىء لهذه الدرجة. وهذا الطفل البريء يكبر مِن دون أب و...
ـ ومِن دون أوراق ثبوتيّة، أجل. إبني على وشك دخول المدرسة وأنا في حيرة مِن أمري، لا أعلم ما يجب فعله.
ـ عليكِ إيجاد الأب وإجباره على الإعتراف بابنه!
ـ وهل تظنيّن أنّني لم أفكّر بالأمر؟ ذلك الوغد قد تزوَّجَ ويعيش سعيدًا مع زوجته، وينعم بحياة هنيئة، بينما أركضُ يمينًا ويسارًا لتأمين لقمة عيشنا.
ـ إذًا يجب أن تعلم الزوجة بحقارة هذا الرجل!
ـ وما ذنبها إن كان زوجها بلا أخلاق؟ لا أريد إتعاس أحد.
ـ قد تستطيع الضغط عليه للإعتراف على الأقل بالولد.
ـ ما مِن إمرأة ستقبل بذلك... يا إلهي... لماذا صدّقتُ وعوده وأكاذيبه؟!؟
واسيتُ صديقتي قدر المستطاع، لكنّني كنتُ جدّ مستاءة لِما حصَلَ لها. صحيح أنّها أخطأت مع حبيبها، لكنّها فعَلَت ذلك بدافع الحب وبسبب سذاجتها ولا تستحقّ أن تُعاقَب هي وابنها هكذا. حاولتُ معرفة اسم الأب، إلا أنّ نوال بقيَت ترفض البوح به خوفًا مِن أن أفضَحَ أمره. لم أنَم جيّدًا تلك الليلة، وأنا أفكّر بابن صديقتي البريء الذي يكبر مِن دون صفة شرعيّة. ضحيّة أخرى لتصرّفات أناس بلا مسؤوليّة.
في الصّباح، عندما جلستُ مع زياد نتناول الفطار، أخبرتُه عن نوال ومشكلتها طالبةً منه النصيحة، فكَونه رجلاً قد يستطيع فهم الرجال والطرق لإقناعهم بتحمّل المسؤوليّة. نظَرَ إليّ زوجي باندهاش كبير، وتوقّف عن الأكل قائلاً:
ـ أنتِ على علم؟!؟
ـ طبعًا يا حبيبي، فنوال لا تزال صديقتي الحميمة بالرّغم مِن أنّنا افترقنا لسنين. وما الغريب في ذلك؟
ـ لا أصدّق أذنيَّ! هي أخبرَتكِ بالأمر؟ لقد وعَدتني بأن تبقي الأمر سرًّا إن وافقتُ على أن أدفع لها مبلغًا مِن المال، وحتى بعد أن طلَبَت المزيد. يا إلهي... لم أكن أريد أن تعلمي... على الأقل ليس بهذه الطريقة. لم أعد أدري ما أقوله لكِ.
إختلطَت الأمور في رأسي، ولم أعد أفهم ما يقوله زوجي، ولزَمَتني ثوانٍ طويلة لأدرك أنّ زياد هو أب ذلك الولد. تجمَّدَت الدّماء في عروقي، وشعرتُ ببرودة تجتاح جسدي وكدتُ أقَع عن الكرسيّ. ركَضَ زياد إليّ، إلا أنّني دفعتُه بعيدًا صارخة به:
ـ إبتعِد عنّي أيّها الخائن الجبان!
ـ لم أخنكِ، بل تعرّفتُ إلى نوال قبل أن ألتقي بكِ!
ـ وكيف تترك امرأة حامل وتهرب هكذا؟ أيّ رجل أنتَ؟ إيّاكَ أن تقترب منّي!
ـ لم أكن أعلم أنّ نوال حامل، أقسم لكِ، ولم أكن أعلم أيضًا أنّها صديقتكِ. في الواقع، لم أكن أعرف الكثير عنها سوى أنّها جذّابة ومستعدّة لـ... إسمعي، كنتُ عازبًا وهي غير ممانعة، هذا كلّ ما في الأمر. عندما تركتُها، كانت هي الأخرى قد ملَّت منّي ولم تمانع أن ننفصل بل وصلَني بعد فترة قصيرة أنّها تواعد رجلاً وأنّها سعيدة مِن دوني. لو كنتُ أعرف بحمِل ما، لمَا غادرتُ، بل لأصرَّيتُ على الزواج منها حتى ولو لم أحبّها، فأنا كما تعلمين رجل ذو مبادئ.
ـ أنا لا أصدّقكَ... لو كان كلامكَ صحيحًا، فلماذا تدفع لها إذًا؟
ـ لأنّها هدّدَتني بفضحي أمامكِ! أخبرَتني أنّها جاءَت إلى البيت لتزوركِ.
ـ
وأنا أخبرتُكَ بذلك أيضًا.
ـ صحيح، إلا أنّني لم أستنتج أنّها المرأة نفسها، فهي لم تتّصل بي إلا بعد زيارتها لكِ.
ـ إن كنتَ تقول الحقيقة، فابن مَن هذا الولد؟
ـ لا أدري ولا أريد أن أعرف! خَطَرَ ببالي إجبارها على أن تجري للولد فحص الحمض النوويّ، لكنّني خفتُ أن تسرع بأخباركِ فتفقدين ثقتكِ بي إلى الأبد. أقسم لكِ أنّني بريء!
لا أدري لماذا، لكنّني صدّقتُ زوجي، فكما قلتُ سابقًا، هناك أمر في نوال أزعجَني مِن دون أن أستطيع تحديده. وفجأة علِمتُ سبب هذا الإنزعاج! كانت طريقتها بالتعامل مع ابنها. فمع أنّني لم أكن أمًّا بعد، إستطعتُ ملاحظة عدَم وجود حنان منها تجاهه. كان الأمر وكأنّه ليس ابنها. هل يُعقل هذا أم أنّني تصوّرتُ أشياء لإقناع نفسي بأنّ زوجي بريء؟
طلبتُ مِن زياد عدم إخبار نوال بأنّني أصبحتُ على علم بأنّهما يعرفان بعضهما، واتصلتُ بها كي تزورني بأسرع وقت بحجّة أنّني جلبتُ الهدايا والألبسة لطفلها.
عندما وصلَت نوال، تصرّفتُ وكأنّ شيئًا لم يكن، فقبّلتُها هي وابنها وجلبتُ لهما الطيّبات. وفيما كان الصغير يلعب بهداياه الجديدة، قلتُ لنوال:
ـ يا للطفل الجميل... كيف تعتنين به، أقصد أين تبقينَه حين تذهبين إلى عملكِ؟ فمِن المؤكّد أنّكِ لا تستطيعين تركه في دار حضانة، فهذه الأماكن باهظة التكاليف وأنا فهمتُ منكِ أنّكِ في ضيقة ماليّة.
ـ صحيح، صحيح... أتركُه عند أمّي.
ـ هي على علم بوجود الطفل؟!؟ وماذا قلتِ لها؟
ـ أجل، لم أستطع التكتّم عن الأمر لمدّة طويلة. ومنذ توفّى أبي وسافَرَ أخوَتي، أصبحَت أمّي صديقتي الوحيدة أستطيع البَوح لها بأيّ شيء.
كنتُ قد حصلتُ على المعلومات التي أبحثُ عنها. ومرّة أخرى، لم ألمس مِن نوال أيّة دلائل عن عاطفة أمّ تجاه صغيرها، الأمر الذي عزَّزَ شكوكي.
العثور على مسكن أمّ نوال لم يكن صعبًا، فكما ذكرتُ أعيش وزوجي أيضًا في العاصمة. وهكذا قرعت بابها وسط النهار، أي في وقت يُفترض بالطفل أن يكون عند جدّته ونوال في عملها. فتحَت لي المرأة وعانقَتني حالما علِمَت مَن أكون، فهي لم ترَني منذ وقت طويل. أدخلَتني وجلسنا سويًّا نستعيد أيّام الماضي السعيد. فتحتُ سيرة ابنتها ووضعهما المعيشيّ الصعب، وإذ بأمّها تقول لي:
ـ المسكينة نوال تتعب كثيرًا... تعمل طوال النهار لجلب القوت لنا... كم أتمنّى لها أن تجد لنفسها زوجًا وأن تُرزَق بأطفال، فالوقت يمرّ بسرعة وقد يفوتها القطار.
كانت المرأة قد جنّبَتي عناء سؤالها عن إبن نوال، فمِن حديثها تأكّدتُ أنّه ليس ابنها. لكنّه ولد مَن يكون؟
جاءَني الجواب على الفور مِن فم أمّها التي تابعَت:
ـ قلبي يتألم كلّما أراها بصحبة إبن جارتنا... فهي تلاعبه طوال الوقت وتأخذه مشاوير طويلة... أدعو الله أن يبعث لها الذريّة العديدة يومًا.
ـ أحبّ الأولاد كثيرًا أنا أيضًا... هل لي أن أرى ذلك الطفل؟ هل تظنّين أنّ أمّه ستمانع لو زرناها الآن لبضع دقائق؟
ـ بالعكس يا حبيبتي!
عندما رأيتُ الولد، إبتسمتُ لأنّه كان نفسه الذي تصحبه نوال معها لزيارتي. ودّعتُ الجارة وأمّ صديقتي وعدتُ إلى البيت بسرعة. مِن هناك، إتصلتُ على الفور بزوجي طالبة منه القدوم بأسرع وقت. طمأنتُه بأنّني بخير، وبأنّني أريد أن أزفّ إليه خبرًا بغاية الأهميّة.
جاءَ زياد بسرعة فائقة، واستمَعَ إليّ وأنا أخبرُه بالذي اكتشفتُه فارتاحَ باله كثيرًا. إستنتَجنا أنّ نوال كانت قد وجَدت طريقة دنيئة لكسب المال وأنّ خطّتها كانت مُحكمة. فبزياراتها لي، كانت تمارس ضغطًا قويًّا على زوجي مهدّدة بفضحه لو رفَضَ الدفع. أخَذَ زياد هاتفه واتّصل بنوال، وقال لها إنّه لن يُواصل الدّفع ما لَم تقبل بإجراء فحص الحمض النوويّ للولد. بالطبع هي رفضَت بقوّة، وقالَت له إنّها ستطلعُني على الحقيقة. عندها ناولَني زياد الهاتف فقلتُ لها:
ـ أنا أعلم بكلّ شيء يا... صديقتي العزيزة، وإن كان الولد عبئًا عليكِ، فيُمكنكِ تركه لنا وسنربيّه أنا وزوجي.
أقفلَت نوال الخط بسرعة ولم نسمع منها شيئًا بعد ذلك. فمِن المؤكّد أنّ أمّها أخبرَتها حين عادَت إلى بيتها في المساء، أنّني زرتُها وزرتُ الجارة ورأيتُ الولد وأدركَت أنّ خطّتها انكشفَت.
حزنتُ كثيرًا على فقدان صديقة كانت شبه أخت لي، وعلى ما آلَت إليه مِن مكر وخبث. أسفتُ أيضًا على شكّي بزوجي وشكرتُ ربّي لأنّني بذلتُ جهدي لاكتشاف الحقيقة قبل اتخّاذ قرار كان سيؤدّي إلى انفصالنا. واستنتجتُ أنّ على المرء أن يتحقّق دائمًا مِن أيّة إشاعة قبل الحكم على الآخرين وإلا أصبَحَ ضحيّة الحسد والغش والطمع.
حاورتها بولا جهشان