أم توفيق

كنتُ قد أجهَضتُ مرَّتَين رغمًا عنّي، حين قالَ لي الطبيب إنّ فرَص حَمل جديد كانت ضئيلة جدًّا، إن لَم تكن معدومة، وكان مِن الأفضل أن أنسى الموضوع برمّته وألّا أُحاوِل مُجدّدًا، وإلّا وقعتُ في متاهات صحّيّة لا نهاية لها. إقتنَعَ زوجي بالأمر الواقع، على عكسي، فكان لدَيّ إصرار قويّ على الإنجاب، لأنّني كنتُ أعشقُ الأولاد! فلماذا يحرمني الله منهم؟!؟ ماذا فعلتُ له أو لأيّ شخص آخَر؟!؟ شعرتُ بالغضب حيال كلّ الناس والأرض بكاملها! حاوَلَ الجميع التخفيف عنّي، لكن مِن دون جدوى. فما أدراهم؟ ألَم ينجبوا البنين والبنات؟ تبًّا لهم!

حقدي العام والواضِح أثَّرَ طبعًا على زواجي، فبعد حوالي السنتَين، فضَّلَ زوجي الابتعاد عنّي قدر المُستطاع، فوقَعَ الطلاق ولَم أحزَن لكثرة انشغالي بمُصيبتي. تابَعتُ حياتي في عمَلي وبيتي الفارِغ، وابتعَدتُ كلّيًّا عن الناس كَي لا أرى فرحتهم التي كانت تحرقُ عَينَيّ وقلبي.

وكأنّ ما كنتُ فيه لَم يكن كافيًا، فقد جاءَ ثنائيّ إلى المبنى الذي أسكنُ فيه... مع طفلهما الذي لَم يبلغ بعد الشهر مِن عمره! سكَنوا قُبالتي، مكان السيّدة العجوز التي توفَّيت قَبل فترة، وصِرتُ أسمَع صراخ الطفل الرّضيع ليلًا نهارًا، الأمر الذي زادَ مِن كآبتي وامتعاضي وغضَبي. فاعتبَرتُ أنّها لعبة القدَر الجديدة الموجّهة مُباشرة ضدّي، وقرّرتُ في هذه المرّة المُجابهة بدلًا مِن الاختباء.

رحتُ أقرَع باب جيراني الجدُد، وفتحَت لي الأمّ وهي تحمِل بين ذراعَيها طفلها. كنتُ أودّ أن أُسمِعها كلامًا قاسيًا للغاية، لكن لحظة رأيتُ الرضيع، إرتسمَت على وجهي بسمة عريضة، وذابَ الثلج الذي كان يملأ قلبي. ثمّ قلتُ للسيّدة بصوت ناعم:

 

ـ جئتُ... جئتُ... لأستقبلكم في المبنى وأُهنّئكم بالمولود... ما اسمه؟

 

ـ توفيق، شكرًا لكِ سيّدتي.

ـ توفيق؟!؟

 

تفاجأتُ كثيرًا لدى سماعي اسم المولود، لأنّه بالذات الاسم الذي اختَرتُه في المرّتَين التي حمِلتُ فيها. حاولتُ قدر المُستطاع إخفاء مُفاجأتي والحزن الذي امتلكَني، فتابعتُ:

ـ إسم جميل للغاية! أنا أسكنُ في الشقّة المُقابِلة، إن احتَجتِ أيّ شيء، لا تتأخّري عن قرع بابي. هل لي... هل لي أن أحمِله للحظة؟

 

ـ بالطبع!

 

حملتُ توفيق وانتابَني شعور لَم أعرِفه مِن قَبل، لكنّني تخايلتُه ألف مرّة: الشعور بالأمومة. قبَّلتُ رأس الطفل بحنان وأعَدتُه لأمّه التي اسمها دلال، قَبل أن أعودَ بسرعة إلى شقّتي. ومنذ ذلك اليوم، صارَ توفيق يسكنُ بالي ليلًا نهارًا: هل نامَ جيّدًا وصحّته جيّدة؟ وما هو أهمّ، هل أنّ أمّه أمّ جيّدة؟!؟ ففي نظري، كان ذلك الطفل الجميل يستحقّ أمًّا مثلي، تعرفُ كيف تهتمّ به كما يجِب، وتُعطيه الحبّ اللّازم لتوازنه النفسيّ.

وهكذا صِرتُ أدقُّ باب جيراني حاملةً إمّا قالِبًا مِن الحلوى أو لعبة لتوفيق، وأجلسُ معه وأُلاعِبُه. كانت دلال تستمتِع بوجودي واهتمامي بابنها، فكلّ أمّ تحبُّ أن يُلاطِف الناس أولادها ويجدُهم جميلين. لكنّ جمال، أب توفيق، لَم يرَ وجودي الدائم عندهم مقبولًا، إذ أنّه كان ينظرُ إليّ برَيبة وبالكاد يوجِّه لي الكلام. وإن حكى، كان يقولُ أمامي إنّه تعِب ويُريد أن يرتاح، أو أنّ الوقت صارَ مُتأخِّرًا للزيارات، وأمورًا مُشابِهة. فالحقيقة أنّ كان لدَيّ عمَل عليّ الذهاب إليه ولا يسعَني تركه، ولذلك كنتُ أزورُ جيراني مساءً.

وفي أحَد الأيّام، سمِعتُ شجارًا قادِمًا مِن الشقّة المُقابِلة، فخِلتُ أنّ السبب هو أنا. إنتظرتُ حتّى خرَجَ الزوج لأدقّ باب جارتي. توقّعتُ أن تقول لي إنّها لن تستقبلَني بعد ذلك، إلّا أنّها فتحَت لي قلبها بخصوص زوجها الذي كان بالفعل إنسانًا بغيضًا ويُسمعُها الكلام البشِع ويتنمّر عليها، خاصّة بعدما أنجبَت طفلها وصارَت مشغولة به. واسَيتُها شاكرةً ربّي أنّني لَم أكن السبب، فلَم يسَعني تصوّر الابتعاد عن توفيق. لكن، لأكون على برّ الأمان، قرّرتُ التقليص مِن زياراتي لجيراني.

وفي تلك الأثناء، لَم أتوقَّف عن الاتّصال بدلال وإعطائها النصائح العديدة التي وجدتُها على الانترنِت، في ما يخصّ الاعتناء بالأطفال كَي ينمو توفيق بصحّة مُمتازة! وجود ذلك المولود في حياتي غيّرَها تمامًا، إذ صِرتُ مُبتسِمة وأكثر فرَحًا وتغيّرَت طريقة تعاطيّ مع الناس. لاحَظَ زملائي في العمَل هذا الانقلاب، فظنّوا أنّني تعرّفتُ على رجُل جديد وبدأتُ أبني معه حياتي. لَم أُكذِّبهم، فمِن الأفضل ألّا يعرفوا الحقيقة فيُؤثِّر ذلك على علاقتي بأمّ توفيق.

أمّ توفيق... كان يجدرُ أن يكون هذا اللقَب لقَبي أنا! على كلّ الأحوال، صغيري لَم يكن بعيدًا عنّي، بل على مسافة أمتار قليلة. أجل، قلتُ "صغيري"، فهكذا كنتُ أُسَمّيه في رأسي وليس عاليًا طبعًا.

لكن ما لَم أكن أعلَمه، وكيف لي أن أعلَمه؟ هو أنّ جمال كان مُعجبًا بي إلى أقصى درجة مع أنّه كان ينزعجُ منّي علَنًا... ليُخفي ذلك الاعجاب! إلّا أنّه كان ضمنًا يُراقبُني مِن كلّ النواحي ويحلُم بأن أكون له. غريبون هم الرجال، يُريدون دائمًا المرأة التي ليست معهم! وهو قد أُعجِبَ بالطريقة التي أُعامِل فيها ابنه، وكيف أنّني مليئة بالحنان والحب، فلقد نسيَ أنّ زوجته هي التي تسهَر طوال الليل لإطعام توفيق وتغيير حفّاضاته وتهدئة مَغصه، بينما كنتُ فقط أقضي معه ساعة أو اثنتَين لأعود إلى شقّتي وأستريح. لِذا، قرّرَ ذلك الرجُل أن يُفاتِحني بما كان يدورُ في باله منذ حوالي السنة: الزواج منّي!

تفاجأتُ كثيرًا حين هو انتظرَني في ردهة المبنى وقال لي:

ـ هل لنا أن نجلس سويًّا في مكان ما؟ مكان عام طبعًا. أريدُ أن أُكلّمكِ بشأن توفيق... أعلمُ كَمّ يهمّكِ أمره. إنّه موضوع حسّاس ومهمّ للغاية.

 

خفتُ أن تكون المسألة بالفعل جدّيّة، فقبِلتُ معه، فالجدير بالذكر أنّ زوج جارتي لَم يكن يعني لي شيئًا على الاطلاق. رحنا إلى مقهى مُجاوِر وفور جلوسنا، قال لي مِن دون مُقدّمة:

ـ أحبُّكِ! أجل، أحبُّكِ وكثيرًا! وأُريدُكِ أن تصبحي زوجتي. لا تقولي شيئًا الآن، بل استمِعي إليّ جيّدًا: زوجتي ليست أمًّا جيّدة، بل أنتِ. هي ليست امرأة جذّابة، بل أنتِ. هي ليست مؤهّلة لتهتمّ ببيت، بل أنتِ.

 

ـ ما هذا الكلام! فأنا لا...

 

ـ لَم أنتهِ بعد... سأُطلّقُها وأُعطيكِ توفيق لِتُربّيه. أعلَم كَم أنّكِ تُحبّينه ولن أخاف عليه أبدًا منكِ. أعلَم أنّ حضانة الطفل تعود للأمّ عند الطلاق، إلّا أنّني سألتً أحَد المُحامين وهو قال لي إنّني أستطيع أخذه منها إن هي كانت إمًّا أو زوجة سيّئة، وبإمكاني خَلق أعذار عديدة وأحمِل المحكمة على تصديقها، فلدَيّ أصدقاء مُستعدّون لمُساعدتي.

 

ـ يا إلهي كيف...

 

ـ توفيق سيكون لكِ... وبما أنّه لا يزال صغيرًا، سينسى أمّه الأصليّة ويُناديكِ "ماما". أليس هذا ما تُريدينه؟

 

ـ سيّد جمال...

 

ـ فكّري بالموضوع، لا تُجيبي الآن.

 

رحَلَ الرجُل وبقيتُ مكاني مذهولة لهذا الكمّ مِن المعلومات والأفكار والأحداث. بالطبع لَم أكن أُريدُه، لكن كانت هناك إمكانيّة ذهبيّة لأصبح بالفعل "أمّ توفيق"! على كلّ الأحوال، أمّه كانت لا تزال صبيّة وبإمكانها إنجاب دزّينة أطفال آخَرين، بعكسي. إضافة إلى ذلك، هي لَم تكن صديقتي ولا يربطُنا شيء سوى طفلها. هل أنّ الله يُعطيني فرصة ثانية؟

لَم أعُد أنام ليلًا وأنا أتصوّر نفسي أُربّي لوحدي توفيق، وأُقبِّله وأُكبِّره ليُصبحَ مُراهِقًا وسيمًا ولاحقًا رجُلًا ناجِحًا. على كلّ الأحوال، حتّى لو لَم أتزوّج جمال، فهو سيتركُ زوجته ويختار أخرى قد لا تُحِبّ توفيق وتُسيء مُعاملته. فكان مِن الأفضل أنّ أكون أنا أمّه، أليس كذلك؟

بقيتُ أزورُ دلال، لكن ليس فقط لأرى توفيق، بل لأرى البيت الذي سأسكنُ فيه وأصبَح ربّته، وأجرَيتُ فيه بعض التعديلات في بالي، تحضيرًا لانتقالي إليه. شكرًا يا ربّي على ما انتَ على وشك إعطائه لي! كَمّ أنّكِ كريم، تأخذُ مِن جهة وتُعطي مِن جهة أخرى!

كنتُ طبعًا أُهلوِس ومأخوذة بهاجِس قويّ تجاه عدَم تمكّني مِن الانجاب، إلى حين سمعتُ في بالي صوتًا يقولُ لي بوضوح يوم كنتُ لوحدي في بيتي: "ماذا لو كنتِ مكانها وأخَذَ أحَدٌ ابنكِ منكِ؟". عندها صرختُ عاليًا: "لقتلتُ ذلك الشخص! لشربتُ مِن دمه!". عندها فقط استيقظتُ مِن هلوَستي وأدركتُ أنّ أفكاري لَم تكن سليمة، بل اقتربَت شيئًا فشيئًا مِن ارتكاب إثم لا يُغتفَر لا إنسانيًا ولا دينيًّا. كيف صرتُ هكذا؟ كيف صِرتُ معدومة الشفقة والأخلاق؟ أنا لَم أكن هكذا يومًا، إلّا بعد وقوع خبَر وجوب عدَم الانجاب الذي تسبَّبَ لي العُزلة وفقدان زوجي وأصدقائي. وكلّ ذلك مِن أجل طفل، وكأنّ الأمر مُرتبِط بهويّتي التي قد أخسرِها لو لَم أصبَح أمًّا. أين ذهبتُ في كلّ هذا؟ مَن أنا حقًّا؟ أخذتُ أفكِّر مليًّا بهويّتي، وكيف كنتُ قَبل الزواج، أيّ امرأة مُفعمة بالحيويّة والأمَل والإقدام. لا، لن أقول "امرأة" بل إنسانة، لأنّني قَبل كلّ شيء انسانة، ومِن ثمّ امرأة. وعندما استوعَبتُ كلّ ذلك، لَم أعُد مُهتمّة بالأطفال كالسابق، أيّ أنّ الأمر لَم يعُد مُرتبطًا بكياني، لأنّ هناك أهداف أخرى لحياتي واستمراريّتي.

عندها دبَّرتُ موعدًا مع جمال، وقلتُ له:

 

ـ إسمع... أنا لا أُريدُكَ على الاطلاق، فأنتَ لا تعني لي شيئًا سوى أنّكَ لستَ زوجًا أو أبًا صالِحًا. إن كنتَ تُريدُ تَرك دلال في كلّ الأحوال، فافعَل، لكن مِن دون أن أكون أنا السبب. شيء آخَر، إن نوَيتَ أخذ ابنكَ مِن زوجتكَ، إعلَم أنّني لن أسمَح لكَ بذلك، فسأشهدُ ضدّكَ في المحكمة وأفضَح أمركَ. تريدُ الرحيل، إرحَل! لكن لا تلمُس توفيق أبدًا أو تستعمِله ضدّ زوجتكَ. فأخذ ولَد مِن أمّه هو خطيئة لا تُغتفَر. وثِق أنّني سأكون لكَ بالمرصاد.

 

بعد ذلك، صِرتُ أطلبُ مِن جارتي أن تأتي لي بتوفيق بدلًا مِن أن أذهب إليها، وتركتُها تعتني به كما تشاء لأنّها هي أمّه وليس أنا. وبعد أشهر، علِمتُ أنّ الزوج تركَ المنزل وطلَبَ الطلاق... مِن دون الحضانة! كنتُ قد انتصَرتُ عليه!

اليوم، صارَ توفيق في السابعة مِن عمره ويُناديني "خالَتي"، وهذا اللقَب كافٍ بالنسبة لي. ونحن نقضي الكثير في الوقت سويًّا وهو أقرَب الناس إليّ. علاقتي بمَن حولي صارَت مُمتازة، وفكرة إدخال رجُل إلى حياتي لَم تعُد تُزعِجُني. أمّا بالنسبة لأمّ توفيق، فهي قرّرَت أن تُكرِّس حياتها لابنها وعدَم الزواج مُجدّدًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button