ألوان ووجوه

كنتُ مُراهقًا عاديًّا، أعيشُ مع والدَيّ وأخي في شقّة صغيرة بالكاد تكفينا. بذَلَت والدتي كلّ ما في وسعها لتربيتي وأخي الصغير، بعد الحادث الذي وقَعَ أبي ضحيّته وأقعدَه في كرسيّ مُتحرّك غير قادِر على القيام بشيء. هي كانت لا تزال صبيّة، لكنّ الهمّ أعطاها مظهرًا تعِبًا ويائسًا. حيّنا الشعبيّ والبسيط كان عالَمي الوحيد وكانت حياتي تدور حول الروتين: المدرسة، الأصدقاء والمنزل. أرَدتُ المزيد، شيء آخَر يُعطيني دفعًا وأمَلًا بأنّ الأمور لن تبقى على حالها إلى الأبد. وكلّ شيء تغيَّرَ يوم انتقَلَ ذلك الرسّام الجديد إلى حيّنا.

كان ظهوره شبيهًا بما نقرأ عنه في القصَص، فبدا الرجُل غامضًا منذ اللحظة الأولى. كان إياد في الأربعينات مِن عمره، طويل القامة، بشَعر رماديّ وملابس بسيطة، لكنّه كان يحملُ تلك الهالة التي لا يُمكن تجاهلها.

كان الرسّام يقضي معظم وقته في مَرسمه، وهو كيانة عن غرفة صغيرة في الطابق الأرضيّ لمنزله المُطِلّ على الشارع. ومِن خلال نافذته الكبيرة، كنتُ أرى لوحات غريبة بألوان صاخِبة لا تُشبِه أيّ شيء رأيتُه مِن قَبل. لم أكن أعرِف الكثير عن الفنّ، لكن تلك اللوحات أثارَت فضولي بطريقة لم أفَهمها.

وذات يوم، بينما كنت عائدًا مِن المدرسة، رأيتُ باب المرسَم مفتوحًا، وسمعتُ صوت موسيقى كلاسيكيّة يخرجُ منه. توقّفتُ للحظة أمام الباب مُتردِّدًا: هل أدخُل أم لا؟ فجأةً، ظهَرَ إياد أمامي بابتسامة ناعِمة، وقال بصوت عميق وهادئ:

- هل تُحِبّ الرسم؟

 

هزَزتُ رأسي ببطء وأنا أنظرُ إلى الداخل. إبتسَمَ الفنّان مُجدَّدًا وقال:

- تعالَ، لن تخسَر شيئًا.

 

لم أستطِع مقاومة فضولي فدخَلتُ. كانت الغرفة أشبَه بعالِم سحريّ بلوحاتها المُعلّقة على الجدران، بعضها مُكتمِل وبعضها ما زالَ قَيد العمل... وبروائح الألوان والزيوت التي ملأت المكان. جلَسَ إياد على كرسيّ خشَبيّ قديم، وأشارَ لي بالجلوس أمامه، ثمّ قال:

- الرَّسم ليس مجرَّد خطوط وألوان، إنه وسيلة لرؤية العالم بعيون مختلِفة. هل جرَّبتَ أن ترسم مِن قَبل؟

 

أجبتُه أنّني لَم أُحاوِل أبدًا أن أرسُم، ولَم أعلَم حينها أنّ تلك اللحظة كانت بداية علاقة جديدة بيني وبين الفنّ.

مع مرور الأيام، أصبَحتُ أزورُ المرسَم يوميًّا بعد المدرسة، بعد أن أخَذتُ طبعًا إذن والِدَيَّ، وكانت تُرافقني أمّي وتبقى معي قليلًا قَبل أن تُغادِر، ففي آخِر المطاف، كان الرسّام رجُلًا غريبًا.

كان يُعطيني إياد ورقة وألوانًا، ويُعلّمني كيف أرى التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبِه إليها أحَد. وشعَرتُ بشغَف يملأ قلبي، فأرَدتُ الغوص أكثر في الفنّ ومعرفة المزيد عن ذلك الرسّام العظيم، إلّا أنّه كان دائمًا غامِضًا، ويتحدّثُ قليلًا عن نفسه.

لكن بعد فترة، لاحظتُ أنّ والدتي بدأَت تقضي وقتًا أطوَل في الحديث معه، وهو يستقبلُها بابتسامة واسعة كلّما جاءَت لتأخذني. بدا وكأنّه يوجِّه كلامه إليها أكثر مِمّا يوجِّهه لي، وصِرتُ أُلاحظُ كيف يُثني عليها بطريقة مبالَغ فيها: "لديكِ ذوق رائع، سيدتي"، "أنتِ امرأة قويّة"، "أودُّ رسم لوحة لكِ يومًا"... فشعرتُ بشيء غريب، شيء لَم أُحِبّه على الاطلاق. هل أنّ إياد يُحاول التقرب مِن أمّي بالرغم مِن أنّها سيّدة مُتزوِّجة؟ كنتُ أعي أنّها ليست سعيدة مع زوج مُقعَد ومُكتئب لا يفعلُ شيئًا سوى التذمّر طوال اليوم والتنمّر عليها، وكأنّها السبب في ما أصابَه، لكن أن يجرؤ الرسّام على استغِلال ضياع والدتي، فلا! لكنّني سكتُّ لأنّني كنتُ مُجرّد مُراهِق... ولأنّني كنتُ تحت تأثير سِحر إياد الذي فتَحَ أمامي عالَمًا عظيمًا.

وفي أحَد الأيّام، وأثناء انهماكي بِرَسم لوحة صغيرة، سمِعتُه يتحدَّث على الهاتف بصوت مُنخفِض. حاولتُ ألّا أتنصَّت، لكنّه بدا بالفعل مُنزعِجًا مِن المُكالمة. ثمّ، بعد أن أقفَلَ إياد الخطّ بثوانٍ، تعثَّرَ بإحدى اللوحات الموجودة وسط المرسَم فسقَطَ أرضًا، وبدأ يصرخُ بأعلى صوته مِن كثرة الألَم. ركضتُ نحوه ووجدتُه يضغطُ على قدَمه المصابة، ثمّ حاوَلَ النهوض لكنّه فشَلَ في ذلك. عندها قالَ لي بصوت متألِّم:

- هاتفي... مِن فضلكَ، إتَصِل بالإسعاف!

 

بحَثتُ عن هاتفه بسرعة، لكن بينما كنتُ أمسكُ به، لاحظتُ إشعارات على الشاشة: رسائل متتالية مِن نساء مختلفات، بعضها يحملُ كلمات غزَل، والبعض الآخَر يتحدّث عن مواعيد ولقاءات... وغضِبتُ كثيرًا عندما إكتشفَتُ أيضًا رسالة مِن أمّي!

إتّصَلتُ بالإسعاف وساعدتُه قدر المُستطاع بانتظار المُسعفين، وعند وصولهم، طلَبَ منّي إياد أن أحتفِظ بهاتفه ومُرافقته إلى المشفى، لأنّني كنتُ الشخص الوحيد الموجود حينها.

في قسم الطوارئ، إنتظرتُ خارج الغرفة بينما كانوا يُعالِجون قدَمه، لكنّني بقيتُ أشعرُ بالقلَق والتوتّر. ما هذه الرسائل؟ ولماذا تتبادل والدتي الحديث معه؟

بعد عودتنا مِن المشفى، لم أستطِع التحدّث معه بوضوح، فالوقت لَم يكن مناسبًا. لكنّه بدا لي شاكِرًا لمساعدتي، وعدتُ إلى البيت مهمومًا.

قرَّرتُ أن أبحَث عن أيّ شيء مُتعلَّق بإياد، فكتبتُ اسمه على الإنترنت ووجدتُ أخبارًا قديمة تتحدّث عن رجُل يحملُ نفس الاسم والمواصفات، كان يعيشُ في مدينة بعيدة عنّا، وأثارَ ضجّة لا بأس بها حيث كان، بعد طلاقه مِن فنّانة معروفة تركَته بسبب علاقاته النسائيّة المُتعدّدة. إضافة إلى ذلك، هو كان مُتورِّطًا في قضايا احتيال، قَبل أن اختفى ذات يوم واستحالَ على أصحاب الأموال المنهوبة إيجاده. آه... لهذا السبب هو جاءَ يسكنُ في حيّ صغير وسطنا! كان الأمر بالفعل صادِمًا، وشعَرتُ بأن كلّ شيء كنتُ أعتقِده حقيقيًا كان مجرَّد كذبة. هل أنّ موهبتي بالرسم أيضًا كذبة؟

في اليوم التالي، واجهتُ إياد في المرسَم. قلت له بهدوء:

- أريدُ أن أعرِف الحقيقة. لماذا تتقرَّب مِن والدتي؟ وما هذه الرسائل التي رأيتُها على هاتفكَ؟ وتلك الأخبار عن حياتكَ الصخبة وتهَم الاحتيال؟ مَن أنتَ في الحقيقة؟!؟

 

حاوَلَ الإنكار في البداية، لكنّه استسلَمَ في النهاية. وقال ببرودة:

- أنتَ صغير، ولا تفهَم الأمور كما هي. لكن دَعني أؤكِّد لكَ أنّني لم أكن أنوي إيذاء أحَد، فأنا لَم أُجبِر أيًّا مِن عشيقاتي على التعاطي معي، أو هؤلاء الأغبياء على تسليمي أموالهم. حتّى بالنسبة لأمّكَ... هي جاءَت بنفسها إليّ لأنّ زوجها غير نافِع، وتحتاج إلى حنان رجُل حقيقيّ. فالحياة هي خيارات نأخذها ولا أكثر.

 

- لا أسمَح لكَ أن تتكلَّم هكذا عن أمّي! الرجولة الحقيقيّة تقضي بعدَم الاستفادة مِن الذين هم في موقع ضعف! إذا لَم تبتعِد عنّا، سأكشِف حقيقتكَ للجميع!

 

قلتُ ذلك بنبرة حازِمة مُدرِكًا أنّ تلك اللحظة كانت فاصِلة. نظَرَ إليَّ الرسّام ببرودة وقال:

- أنتَ أقوى مِمّا توقَّعتُ. لكن لستَ أقوى منّي!!!

 

وبلحظة، مسَكَني إياد مِن شعري وسحَبَني إلى الحمّام الموجود في آخِر المَرسَم. هناك، دفَعَ رأسي إلى المغسلة وفتَحَ الصنبور ليُغرِقَني، على ما أظنّ! لكنّني قاوَمتُه بشراسة وتغلَّبتُ عليه بفضل صغر سنّي واستطَعتُ الافلات منه. ركضتُ في الشارع وأنا أنظرُ خلفي لأتأكّد مِن أنّه لا يلحقُ بي إلى حين وصلتُ البيت وشعري وملابسي مبلولة. إخترَعتُ الأعذار لتُصدّقني عائلتي فروَيتُ لهم قصّة مُضحِكة عن وقوعي في بركة ماء، لكنّني كنتُ غاضبًا وخائفًا في آن واحد. توارَيتُ عن الأنظار وتفادَيتُ المرور بالقرب مِن المرسَم في الأيّام التي تلَت كَي لا يُحاوِل إياد أذيّتي مِن جديد، وقلتُ لوالدتي أنّني سآخذُ استراحة مِن الرسم لأتحضَّر جدّيًّا لامتحاناتي في المدرسة.

لكن بعد فترة قصيرة، علِمنا أنّ إياد غادَرَ الحيّ، فأخبَرتُ والدتي أنّني سمِعتُ أنّه تلقّى عرضًا للعمَل في مدينة أخرى، فلَم أشعُر بالحاجة لِشَرح كلّ شيء لها، بل أرَدتُ أن أحميَها مِن دون أن أجرَح مشاعرها أو أُخيفها. هي بكَت في غرفتها لأيّام قليلة، ثمّ تابعَت حياتها العاديّة وكأنّ شيئًا لَم يكن. لا أعتقِد أنّها أرادَت إقامة علاقة جدّيّة مع إياد، بل أرادَت فقط الشعور ببعض الدفء والحنان والاهتمام.

وبالرغم من كلّ شيء، واصَلتُ تعلّم الرسم لكن مع إحدى أساتذتي في المدرسة. أدركتُ أن موهبتي بالفعل حقيقيّة، وأنّ الفنّ كان طريقي لِفهم الحياة، بكلّ ألوانها وتعقيداتها. وتعلَّمتُ أيضًا أن أكون حذِرًا، وألّا أثِق بسهولة، لكنّني لَم أفقد إيماني بالجمال الذي يُمكن أن يحمِله العالم.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button