لماذا كَبُر إبني ليصير إنسانًا كاذبًا وغير جدير بالثقة؟ بسبب أبيه الذي كان له مثالاً سيّئًا. حاولتُ جهدي لأُصلِحَ الضرَر لكن مِن دون جدوى. وهذه المسألة بالذات سبَّبَت شجارات كبيرة بيني وبين زوجي، الذي كان يعتبرُ الكذب والإحتيال دلالة ذكاء وحنكة.
وهكذا صارَ جهاد إبني ولدًا ثمّ شابًّا غير محبوب مِن الذين عاشروه ووقعوا ضحيّة مكره.
وعندما تطلّقتُ مِن زوجي بسبب خياناته العديدة لي، خلتُ أنّ ولدي الذي بقيَ معي "سيصطلح" أخيرًا. لكنه كان قد تشرَّبَ دروس أبيه له وفاتَ الأوان لإصلاحه.
إشتكى أساتذة جهاد منه لِدرجة أنّه طُرِدَ مِن مدرسته واستطاعَ بجهد جهيد بلوغ الجامعة حيث القوانين أقلّ صرامة، ليتخرّج أخيرًا وينال شهادة حتمًا بالغشّ. رجوتُ أن تكون حياته في العمَل مُفيدة له، إلا أنّه مكَثَ في البيت بعد تخرّجه واتكَّلَ على المال الذي كان يبعثُه له أبوه. مِن جانبي كنتُ أغيبُ في النهار لأذهَبَ إلى عملي، وأجد إبني لدى عودتي تمامًا كما تركتُه، أي مُلقًى في ثياب النوم على الأريكة يلعبُ ألعاب فيديو أو غارقًا في النوم.
وهذا التراكم سبَّبَ لي نوعًا مِن اليأس تحوَّلَ إلى انهيار عصبيّ، فقد كنتُ أعلَم أنّ مُستقبل إبني ذاهب إلى الزوال وأنّني فشلتُ في مرحلة ما في إعادته إلى الطريق الصحيح.
في تلك الحقبة بالذات، طلَبَ جهاد الذهاب للعَيش مع أبيه، وأعترفُ أنّ الأمر أراحَني لأقصى درجة. هل تهرّبتُ مِن المسؤوليّة؟ لا أعتقدُ ذلك، فأنا قضيتُ سنوات عديدة في مُحاربة تأثير زوجي على إبني مِن دون نتيجة، وها هو قد أصبَحَ شابًّا ناضجًا أيّ صعب التغيّر. كنتُ أُريدُ فقط العَيش ولو لفترة مِن دون أن أحسب ألف حساب، فكفاني إثنتَان وعشرون سنة مِن القلَق الدائم.
رحيل جهاد مِن البيت غيَّرَ مزاجي بالفعل وصرتُ أكثر راحة وهناء، الأمر الذي بانَ عليّ بشكل واضح ومكّنَني مِن التعرّف إلى رجل يتّسمُ بالمواصفات التي لطالما أرَدتُها في شريكي. بعد أشهر، إتفقتُ وفارس على الزواج.
لَم يحضُر إبني فرَحي لأنّه كان خارج الحدود مع أبيه في رحلة صيد. وهو كان قد تعرّفَ إلى فارس صدفةً قَبل زواجي منه، ولَم يُعلِّق على الموضوع وتصرَّفَ وكأنّ الأمر سيّان بالنسبة له.
لكن بعد أقلّ مِن شهر على زواجي، وصَلَ جهاد البيت مِن دون إنذار مُحمّلاً بالحقائب، وقائلاً وعلى وجهه إبتسامة عريضة: "مرحبًا ماما، لقد عُدتُ إلى بيتنا بصورة دائمة". للحقيقة، لَم يُفرِحني الخبَر، فكان فارس قد قبِلَ أن نعيش في بيتي لأنّه على مسافة أقرَب مِن عملَنا، ولَم يحسِب طبعًا حساب عودة إبني. إضافة إلى ذلك، لَم يُطمئنَني رجوع جهاد المُفاجئ، وخفتُ طبعًا أن يُحاول تعكير صفوَ حياتي. هل حثَّه والده على العودة لينتقم منّي لأنّني وجدتُ الحبّ مِن جديد؟ هذا ما كان عليّ معرفته، وبسرعة.
تقبَّلَ زوجي الموضوع برحابة صدر، إلا أنني نبَّهتُه إلى خصال إبني البشعة أي الكذب والإحتيال، فوعدَني بعدَم الوقوع في أيّ فَخّ قد ينصبُه جهاد له أو لنا.
مِن جهّة أخرى، جعلتُ إبني يُقسم لي بعدَم التدخّل في حياتي الخاصّة تحت طائلة إعادته إلى أبيه مِن دون رجعة. وبالرغم مِن ذلك، لَم أكن مُرتاحة للوضع بتاتًا.
مرَّت الأسابيع والأشهر مِن دون أيّ مُشكلة تُلحَظ، فلَم نتخالَط وزوجي كثيرًا مع جهاد بسبب عمَلَنا ووظيفة إبني البسيطة والسهلة، إذ أنّنا كنّا نجتمِعُ عندما يحين موعد العشاء ومِن ثمّ يذهبُ هو إلى غرفته ويبقى فيها. حمدتُ بيّ على ذلك وارتاحَ بالي قليلاً.
إلا أنّ رسائل بدأَت ترِدني إلى هاتفي المحمول مِن رقم مجهول، مفادها أنّ فارس زوجي ليس الإنسان الخلوق الذي أعتقد، وأنّ عليّ الإحتراس جيّدًا منه. وعلِمتُ على الفور طبعًا أنّ جهاد وراء هذه المكيدة، فقرَّرتُ إنذار فارس بالذي يجري. للحقيقة هو لَم يتفاجأ كثيرًا بل قال لي إنّه هو الآخر تلقّى الرسائل ذاتها. أردتُ معرفة الرقم الذي استُعمِلَ لذلك، إلا أنّه حذَف تلك الكلمات المؤذية مِن هاتفه. لَم يهمّني الأمر كثيرًا فالفاعل كان معروفًا. إنتظرتُ حتى المساء حين كنّا مُجتمعين نحن الثلاثة حول المائدة لِطلَب رقم المرسل فيرنّ هاتف إبني وأحملُه على الإعتذار على ما فعله، لكنّ ما مِن شيء حصَل. عندها أخذتُ على عاتقي تفتيش غرفته خلال غيابه لإيجاد الهاتف الثاني ووضع إبني أمام الأمر الواقع.
لَم أجِد في غرفته الدليل المُرتقَب، لكنّني لَم أكن بحاجة فعليًّا إلى أيّ دليل. أسِفتُ أن يكون إبني بهذا المكر، إذ رؤيتي سعيدة كان أمرًا غير مقبول منه. لكنّ فارس لَم يكن برحابة صدري، فقال لي ذات مساء:
ـ إسمعي... أحبُّكِ كثيرًا إلا أنّ أفعال جهاد غير مقبولة إطلاقًا... أتحمّلُ فكرة العَيش مع شخص لَم أحسِب له حسابًا مِن أجلكِ لكن أن يُحاول ذلك الشاب زَرع الفتنة بيننا...
ـ أعرفُ ما تمرُّ به يا حبيبي... لكن عليّ إثبات أنّه هو الفاعل لأتصرّف... إمهلني القليل مِن الوقت أرجوكَ.
ـ لا أعلَمُ إن كنتُ قادرًا على إمهالكِ الوقت اللازم... أٌفكّرُ بالعودة إلى الشقّة التي كنتُ أعيشُ فيها إن لَم تكن قد تأجّرَت بعد، أو أجدُ مكانًا آخر. إضافة إلى ذلك، أُريدُ الإختلاء بنفسي لأعرف إن كان زواجي منكِ صوابًا أم خطأً.
كلام فارس جرَحَني لأقصى درجة وبكيتُ كثيرًا حين حزَمَ زوجي حقيبته ورحَلَ واعدًا بالعودة حين أحلُّ مُشكلة جهاد. في ذلك اليوم بالذات، شعرتُ بغضب لا حدود له تجاه إبني، ووصَلَ الأمر بي إلى الندَم على إنجابه.
لِذا قرّرتُ مواجهة جهاد ولو مِن دون دليل. إنتظرتُ المساء وطلبتُ منه الجلوس معي بعد العشاء. وهو قال لي:
ـ أين الأستاذ؟ لَم يكن معنا حول مائدة الطعام مُتربّعًا على عرشه!
ـ كفى سُخرية! لقد فضَّلَ تَرك البيت على العَيش معكَ!
ـ مع ألف سلامة! خيرًا فعَلَ!
ـ كلّ ذلك بسببكَ! أعلَمُ أنّكَ مَن يُرسلُ تلك الرسائل البشعة! ألن تكتفي مِن الكذب والمُراوغة؟!؟ لقد قضَيتُ عمري وأنا أُحاول إبعادكَ عن الإحتيال والأذى لكنّ تأثير أبيكَ عليكَ بقيَ الأقوى. قُل لي بصراحة، ألَم يكن هو مَن أرسلكَ إلى هنا بعد زواجي؟ ولا تكذب!
ـ بصراحة؟ بلى.
ـ أرأيتَ؟ إنّه رجل مؤذٍ لا يُفكّر سوى بنفسه! والرسائل؟ هل كانت فكرته أيضًا؟
ـ لا، إنّها فكرتي وكانت ناجحة جدًّا، فلقد رحَلَ الأستاذ! وما أجمَل البيت مِن دونه!
ـ إخرَس! وتتباهى بالذي فعلتَه؟ لَم أُصدِّق أنّني وجدتُ أخيرًا رجلاً طيّبًا ونزيهًا!
لَم يُجِب جهاد بل أخرَج هاتفه مِن جيبه وأرسَلَ منه شيئًا إلى هاتفي على الفور. ثمّ قال:
ـ أُنظري وقولي إن كنتِ ستظلّين تأسفين على زوجكِ العزيز.
فتحتُ الرسالة وإذ بها صورة تُبيّنُ بوضوح فارس في وضع حرِج مع إمرأة... في سريرنا الزوجيّ! صرختُ في جهاد:
ـ ما هذا؟!؟ صورة مُركبّة؟!؟
عندها أرسَلَ لي إبني عددًا كبيرًا مِن الصوَر في أوضاع مُشابهة وعلِمتُ أنّها حقيقيّة. كلّها كانت مأخوذة في بيتي أثناء غيابي. تابَعَ جهاد:
ـ أرسلتُها أيضًا له، فخافَ الجبان وهرَبَ... ينتظرُ حتمًا أن تتخلّصي منّي ليعود... فصارَ لديه بيت ومَن يهتمّ به بينما يُتابع حياته على سجيّته... أنا مُتأكّد مِن أنّه سيطلبُ منكِ يومًا كتابة البيت باسمه ليرميكِ خارجه، أعرفُ هذه النوعيّة مِن الرجال جيّدًا فحياة إنسان مثلي تعرّفه إلى شتى أنواع الناس.
ـ لَم تكن تكذب إذًا؟
ـ أعترفُ أنّني جئتُ بنيّة تخريب زواجكِ، لكنّني وجدتُكِ سعيدة تضحكين طوال الوقت، وهو مشهد لَم أعتَد عليه عندما كان أبي معنا، فقرّرتُ العدول عن خطّتي. إلا أنّني شعرتُ بمكر فارس فصرتُ أُراقبه عن كثب، وأعودُ مِن عمَلي في أوقات غير إعتياديّة وأفتحُ الباب بمفتاحي وألتقطُ صورًا كي تعرفي حقيقة رجُلكِ. لقد أنذرتُكِ خوفًا مِن أن تؤذيكِ الحقيقة. بالطبع حسبتُ حساب عدَم تصديقكِ لي، فأنا كاذب دائم، ورجوتُ ألا أضطرّ إلى أن أريكِ هذه الصوَر يومًا. إتّكلتُ على خوف فارس مِن الفضيحة عندما يعلَم أنّني كشفتُه، لكنّه بارع للغاية ويعلَم إلى أيّ مدى تُحبّينه. ماذا ستفعلين الآن يا ماما؟
ـ أوّلاً سأعتذرُ منكَ لأنّني صدّقتُ غريبًا وكذّبتُكَ، لكنّكَ تتفهّم طبعًا موقفي. ثانيًا سأُسرِع بتطليق ذلك الخائن الوقِح الذي جلَبَ مرارًا عشيقته إلى بيتي وسريري، وبقيَ يهمسُ في أذني كَم هو يحبّني ثمّ حاوَلَ حَملي على طردكَ. أمّا أنتَ؟ ماذا ستفعل الآن؟
ـ سأبقى معكِ إن كنتِ تقبلين بي. فلقد استمتعتُ بفعل الخَير ولَم أتوقَّع أنّ الأمر فعلاً مُفرِحًا. صدّقيني حين أقولُ لكِ إنّني سئمتُ مِن خصالي البشعة التي تبعدُ الناس عنّي ولا تُقرِّبُ إليّ سوى أبشَع أصناف الناس. لا أعدُكِ بشيء، لكنّني سأُحاول.
- وسننجَح بذلك يا حبيبي.
حاورتها بولا جهشان