مِن سخريّات القدر أنّني أدين بسعادتي العائليّة والزوجيّة إلى وداد حماتي التي كانت نفسها سبب مشاكلنا. وهذا التغيّر لم يكن عائداً إلى نيتّها في إصلاح ما دمّرَته بل لاتقاد زواجها هي.
بدأ كل شيء عندما قرّرَ أيمَن الزواج منّي بالرغم أنّ والدته كانت تريد تزويجه مِن فتاة استدَلَّت عليها بواسطة قريبة لها في القرية واعتبرَت ما فعلَه ابنها بمثابة تحدّي لها. وبالرغم مِن محاولاتها العديدة لتغيير رأيه بقيَ مصمّماً عليّ ما زادَني حبّاً له. أمّا أبوه فكان بعيداً عن كل تلك الأمور وكان فرحاً بي وبابنه. وعذر وداد كان سنّي لأنّني كنتُ أكبر مِن أيمَن بسنتَين وكأنّ ذلك كان سيؤثّر على شيء على الإطلاق خاصة أنّني كنتُ لا أزال في أوائل الثلاثين وقادرة وبكل سهولة على الإنجاب.
وهكذا تزوّجنا وأمل زوجي ان تهدأ أمّه ولكنّها بقيَت تكنّ لي بكره لا أساس له. حاولتُ التقرّب منها ولكنّها رفضَت مودّتي وأصبحَت تمارس على ابنها ابتزازا بشعاً أيّ أنّها رفضَت أن تزورنا ولو مرّة واحدة أو استقبالي عندها في البيت. وإن كان يريد أيمَن أن يراها فكان عليه فعل ذلك مِن دوني ما جرحَني كثيراً وأثارَ علامات استفهام عند الجميع. ولسوء حظّي لم أحمل فوراً ما جعَلَ تلك المرأة تقول لمَن أرادَ سماعها أنّني كبرتُ في السنّ وأنّ أبنّها كان يجدر به أن يأخذ تحذيراتها على محمل الجدّ.
ومرَّت هكذا ثلاث سنوات وككل الرجال المتعلّقون بأمّهم فضّلَ زوجي الانصياع إلى التي ولّدَته وربَّته فقرّرَ على مضَد أن يطلّقني. وثِرتُ على هذا القرار الظالم وكأنّني لم أكن نافعة إلاّ للإنجاب مثل تلك المواشي التي تستبعد في حال وجود خطب فيها. نسيَ أيمَن حبّنا وتقارب طباعنا وأفكارنا والأيّام الجميلة التي تقاسمناها. وعندما تركتُ المنزل الزوّجي للعودة إلى أهلي لم أكن أعلم بعد بأنّني حامل ولم أكتشف الأمر إلاّ بعدما لا حظتُ غياب ميعادي وذهابي إلى الطبيب.
وفي هذه الأثناء أسَرَعَت وداد في جلب الفتاة الأخرى مِن القرية لتزويجها لابنها قبل أن يعود عن قراره بما يخصّني. وجاءَت العروس برفقة أمّها لأنّها كانت بنت وحيدة ويتيمة الأب ولم يكن مِن اللائق أن تأتي لوحدها. وتعرّفَ عليها أيمَن وأُعجِبَ بها لكثرة حديث أمّه عنها وعن مزاياها. ولكن قبل أن يعقد قِرانه عليها زفّيتُ له بواسطة أخي خبر حملي. عندها احتارَ لأمره ولكنّني لم أكن مستعدّة أبداً للرجوع إلى الذي استغنى عنّي بهذه السهولة وطلبتُ منه نفقة للطفل الذي سيولد ووعداً منه أنّه سيهتمّ بحاجاته.
والأمر الذي لم ينتبه إليه أحد أنّ أمّ العروس الجديدة أُعجِبَت بوالد أيمَن وكان هذا الإعجاب متبادلاً. وحين أرادَت تلك المرأة العودة مع ابنتها إلى القرية لانتظار قرار أيمَن أبدى والده نيّته في الذهاب هو أيضاً إلى القرية لبناء منزلاً هناك تحت عذر أنّه اشتاق إلى جذوره. وبالرغم مِن ذكاءها لم تشعر وداد بالذي كان يحاك وراء ظهرها وتمنَّت له بالتوفيق.
ومرَّت الأيّام والأسابيع ومِن ثمّ الأشهر زارَت خلالها وداد زوجها لتفقّد سير البناء حتى أن أخبرَها أحد الجيران أنّ أمّ العروس كانت تأتي يوميّاً إلى ورشة العمار وتبقى ساعات طويلة وتبيت أحياناً في الغرفة التي جهّزَها أب أيمَن لنفسه. عندها انتبهت حماتي أنّ شيئاً ما كان يدور بين زوجها وبين أمّ كنتها المستقبليّة ما أثار غضبها الشديد. وعندما واجهَت زوجها نكَر هذا الأخير كل شيء ولكن الأشارير كانت أقوى مِن تكذيبه للخبر.
وقعَت وداد في حيرة كبيرة فإن تابعَت مشروعها بتزويج ابنها لتلك العروس ستكون أمّها موجودة في الصورة دائماً والحلّ الوحيد كان أن أرجع أنا إلى العائلة ويرجع كل شيء إلى حيث كان. ولم تتوقّع حماتي أن أرفض أن أعود بعدما تخلّى عنّي زوجي بهذه السرعة خاصة أنّ حبّي له كان قد تبخّرَ مِن كثرة خيبَتي به واضافة إلى ذلك كنتُ على وشك أن أولّد وكل ما كان يهمنّي آنذاك كان أن يكون ابني سليم البنية والعقل وكل شيء آخر كان ثانويّاً. وطلَبَت وداد مِن ابنها أن يتقرّب منّي مجدّداً:
ـ حبيبي... ستصبح أباً بعد أيّام... ربمّا عليكَ الذهاب إلى أمّ ابنكَ وعرض مساعدتكَ عليها.
ـ أنتِ تطلبين منّي ذلك؟
ـ أجل... لطالما كرهتُ هدم الأسر...
ـ ومنذ متى هذا الكره؟
ـ لا تجادلني! هذا ابنكَ وهو بحاجة إليكَ.
ـ وعدتُ أمّه بأنّني سأصرف المال اللازم عليه.
ـ هذا لا يكفي... هناك حنان ورعاية الأب... أم أنّكَ تريده أن يكبر مكسور الجناح؟
ـ وعروستي الجديدة؟
ـ هذه الفتاة التافهة؟ للحقيقة لم أحبّها يوماً... كل ما أردتُه لكَ كان أن ترى ولداً وها هو قادم... هيّا يا ابني... اذهب إلى زوجتكَ الأصليّة.
وجاء أيمَن إليّ متودّداً وكنتُ سأطرده لولا قدوم ابني إلى الدنيا فكنتُ أفضّل أن يكون أبوه موجوداً وبالقرب منه على الأقل في الأيّام الأولى. وذهَبَ أيمَن معي إلى المستشفى وحَضَر الولادة وسالَت دموعه عندما رأى ابنه. ونظَرَ إليّ وسألَني إن كنتُ مستعدّة لمسامحته على ما فعلَه بي فأجبتُه: "سنرى لاحقاً." وعندما علِمَت وداد بالذي جرى أسرعَت إلى القرية لِسحب زوجها مِن المصيبة التي كان سيغرق نفسه بها. وعندما أخبَرَته أنّ ابنهما سيعود إلى زوجته سألَها:
ـ والعروس الثانية؟
ـ لن يكون هناك مِن عروس ثانية له أو... لكَ! هيّا نعود إلى المدينة!
ـ والمنزل الجديد؟ لقد أوشكتُ على إنهاءه!
ـ ستترك كل شيء كما هو وتعود معي اليوم وإلاّ بقيتُ معكَ... اسمعني... لستُ بمغفلة... صحيح أنّني لم أرَ في البدء الذي يجري بينكَ وبين تلك المرأة ولكنّني الآن على علم بكل شيء... ولن أقبل أن تأتي أيّ امرأة وتأخذكَ منّي بعد كل تلك السنين...
ـ ولكنّكِ أجبَرتِ ابنكِ على تطليق زوجته لتزوّجيه مِن أخرى... لستِ أفضل مِن أحد.
ـ أجل... لستُ أفضل مِن أحد ولكنّني أقوى مِن الكثيرين... كنّتي العزيزة لم تفعل شيئاً للحفاظ على أيمَن بل استسلمَت بسهولة وراحَت تبكي عند أهلها... كفى مجادلة خذ أمتعتكَ ودعنا نخرج مِن هذا المنزل الذي دنّستَه مع تلك الباغية!
وأعادَت حماتي زوجها إلى منزلهما في المدينة وباشرا بمحاولة إقناعي بالرجوع إلى ابنهما. وفَعَلَت وداد ذلك ليس حبّاً بي بل لأنّني كنتُ بنظرها أقل الشرّيَن ما أعطاني قوّة وتفوّق على جميع أفراد تلك العائلة الغريبة الأطوار. ولأنّني فضّلتُ ابني على نفسي ككل أمّ جديرة بهذا اللقَب وضعتُ كرامتي جانباً وفكرّتُ جديّاً بالعودة إلى أيمَن ولكن بشروطي الخاصة وكانت عديدة. أوّلاً طلبتُ أن يُكتَب بيت القرية بإسمي تحسّباً بأن يعيد التاريخ نفسه وأجد نفسي منبوذة مرّة أخرة وطلبتُ اعتذاراً رسميّاً مِن زوجي وأمّه وأبوه الذي بقيَ صامتاً على ما حصل لي رغم ودّه لي. ومِن ثمّ أعَرَبتُ عن نيتّي في مزاولة العمل مجدّداً ليتسنّى لي تحقيق ذاتي وبأن تقوم حماتي بدور جليسة الأطفال وحسب إرشاداتي. وبالطبع وافقَ الجميع على طلباتي كلّ لأسبابه الخاصة.
أمّا بالنسبة لأيمَن فكنتُ أعلم أنّه سيلزمني وقتاً طويلاً لنسيان تخليّه عنّي ولكنّني كنتُ واثقة بأنّه سيفعل المستحيل لإرضائي لأنّه بقيَ يحبّني وخير دليل على ذلك هو مماطلته في الزواج مِن الفتاة الأخرى. وفور رجوعي إلى المنزل الزوجيّ عادَت إليّ مشاعري القديمة وكأنّني لم أرحَل يوماً. ولكنّني لم أدَع أيمَن يرى ذلك وأبقَيتُه في قلق دامَ أشهر حتى لا يظنّ أنّني نسيتُ بسهولة ما فعلَه بي. ولكنّ الحبّ أقوى مِن كل المشاعر السلبيّة وعادَت المياه إلى مجاريها إلى درجة أنّني حملتُ مجدّداً وهذه المرّة بفتاة. فأرجأتُ مشروع العمل إلى أجل آخر وأعترف أنّ وجود حماتي ساعَدَني كثيراً.
ولكنّني حتى اليوم وبعد مرور سنين على تلك الحادثة لا أستطيع الجزم بأنّها تحبّني وأسأل نفسي إن كانت تلك المرأة تستطيع أن تحبّ أحداً أم أنّ كل ما تفعله هو لمنفعتها الشخصيّة.
حاورتها بولا جهشان