هذه القصّة، هي قصّة حُبّ مليئة بالكره والإمتلاك، وممزوجة بإنتقام دفع ثمنه أخي الصغير.
كنتُ في الرابعة عشرة مِن عمري وهيثم لم يكن قد بلغَ السنة حين توفَّت والدتنا بحمىّ أخذَتها منّا دون إنذار. بكىَ الجميع عليها بما فيهم طبعاً أبي، ثم قرّرَ أن يجد زوجة أخرى لكي تهتمّ بنا وتخفِّف عليه وحدته. وكان هذا القرار هو بداية مصيبتنا. وهكذا دخلَت عايدة إلى حياتنا. في البدء كانت لطيفة معنا وإعتقدنا أنّها الإنسانة المناسبة لنتخطىّ فقدان أمّي، لأنّها كانت مَرِحة وجميلة وتحب المنزل. ولكن مع مرور الوقت، لم تعد تلك المرأة كالسابق وبدأت تفقد بهجتها وحبّها للحياة. والسبب كان تأخرّها على الإنجاب. وكان أبي يطمئنُها قائلاً." إصبري قليلاً... أنا متأكدّ أنّكِ ستعطيني دزينة أولاد... وإن لم يحصل فأنا لا أبالي". أمّا هي، فكانت تجيبه:"بالطبع لن تمانع فلديك ولديَن أمّا أنا...".
ولكن إتضحَ بعد سنة أنّ عايدة عاقر وأنّها لن تنجب يوماً. وفي لحظة معرفتها للخبر، تحوّلَت إلى كائنة مليئة بالغضب والكَرَه. وكنتُ أوّل مَن لاحظَ ذلك، لأنّني كنتُ معها في المنزل ورأيتُ كيف تبدّلَت طباعها. أمّا أخي، فلم يكن واعياً كفاية ليدرك ماذا يحصل وأبي كان يقضي معظم الوقت في عمله. وحين أعربتُ لوالدي عن مخاوفي، طلبَ منّي أن أصبر عليها حتى تجتاز تلك المرحلة الصعبة. ولكنّها لم تكن فترة وجيزة، بل بداية عمليّة إنتقام كنتُ أنا وأخي ضحيّاتَها. وأصبحنا محطّ الصراخ الدائم والإنتقادات وسرعان ما بدأت عايدة تضربنا. ولأنّني كنتُ قوّية الشخصيّة، رفضتُ هذه المعاملة، فإكتفَت بمحاولة تحطيمي نفسيّاً بينما كان هيثم يُعنّف جسديّاً. وكانت زوجة أبي ذكيّة كفاية لتتجنّب ترك أي أثر على جسده الصغير، فحين أخبرتُ والدي بالذي يحصل لم يصدّقني لِعدَم وجود كدمات على أخي الصغير وطلَبَ منّي أن أكفّ عن إختلاق الأكاذيب عن حبيبته وأن أركّز بدلاً مِن ذلك على دراستي. وهكذا وجدتُ نفسي معزولة ومنبوذة مِن الذي كان المفروض به أن يحميني. لِذا إرتأريتُ أنّ الحلّ الأنسب هو أن أترك المدرسة وأعمل لكي لا أتواجد مع عايدة أطول وقت ممكن. ووجدتُ عمل في مطعم وطلبتُ أن يعطوني دوامَين وصِرتُ أترك البيت في الصباح لأعود في آخر الليل لأنام. ولكنّني ولِصغر سنّي لم أدرك أنّني تركتُ هكذا هيثم وحيداً مع عايدة وأنّه سيكون محطّ غضبها الوحيد وحتى اليوم وبعد مرور أكثر مِن عشرين سنة لا أزال أشعر بالذنب. حتى جيراننا كانوا على علم بإساءة زوجة أبي لأخي وحاولوا مراراً لفت إنتباه والدي على ما تفعله ولكنّه وكما حصل معي لم يصدّق أحدهم، ربمّا لأنّه أحبّها كثيراً أو لأنّه لم يشأ أن يطلّقها ويجد نفسه مجدّداً وحيداً مع ولدَين.
وحين أدركَت عايدة أنّ أخي هو الوحيد الذي بقيَ لها، أخذَت على عزله. فرفضَت أن ترسله إلى المدرسة تحت ذريعة أنّه هزيل البنية وصحتّه ضعيفة وعَرضَت على أبي أن تدرّسه بنفسها ريثما يصبح قويّاً كفاية. وقبِلَ معها لأنّها كانت تعرف كيف تُقنعه. وهكذا إستملكَته كليّاً، فلم يعد مسموحاً له أن يذهب إلى أي مكان مِن دونها أو أن يرى أحداً مِن أطفال الحيّ. وتفرّجتُ على ما يحدث دون أن أستطيع التدخلّ، لِذا عندما عرضَ عليّ مدير المطعم الذي كنتُ أعمل فيه أن أتزوّجه لم أتردّد على القبول رغم العشرين سنة التي كانت تفصل بيننا. رأيتُ بذلك الزواج فرصتي الوحيدة للهروب نهائيّاً مِن كابوس لا نهاية له.
وتركتُ المنزل بعدما قبلّتُ هيثم بحرارة وأن وعدتُه بأنّني سآتي يوماً لآخذه بعيداً. وسكنتُ في منزل جميل ونسيتُ أمر زوجة أبي وأبي ولاحقاً أخي لأنّ هذا العبء كان ثقيلاً على فتاة عمرها عشرين سنة. وفي هذه الأثناء، كانت عايدة قد بسطَت سيطرتها الكاملة على البيتَ وسكاّنه تدير الأمور بيد مِن حديد وتعاقب مِن يُعصيها. وعندما إكتشفَ أبي حقيقتَها، كان قد أصبح متعلّقاً بها لدرجة أنّه لم يعد قادراً على العيش مِن دونها. وهكذا حصلَ مع هيثم، فرغم الإساءة التي كان ضحيّتها، كان قد إعتادَ على هذا النمط وقبله على أنّه واقع لا مفرّ منه. وكان الوضع سيستمر هكذا لو لم يتعرّف أخي على فتاة جاءَت تسكن مع أختها وأبويها في المبنى المقابل.
كان هيثم قد بلغ سنّ المراهقة وبدأ يشعر بإنجذاب للجنس اللطيف، فحين رأى سُهى على شرفتها وقع تحت تأثير جمالها اليافع. وبدأا يتحدّثان سرّاً مِن شرفة إلى أخرة ويتبادلان أخبارهما وهكذا علِمَت الفتاة بما يمرّ به مع زوجة أبيه الشريرّة وشرحَت له أنّ ذلك لايجوز وأن عليه رفض ما يحصل وأن يقف بوجهها. وأدركَ حينها هيثم أنّ حياته ليست طبيعيّة وأنّه لا يعيش كباقي الفتيان. كنتُ أنا مِن ناحيتي قد أنجبتُ ولدَين ورغم زياراتي القليلة لأبي وأخي، كنتُ قد بقيتُ أتابع عن أحوالهما عبر الهاتف. وأخبرَني هيثم أنّه تعرّف إلى سُهى وأنّها تشجّعه على رفض ما تفعله زوجة أبينا به، فنصحتُه ألاّ يخاطر كثيراً لأنّني كنتُ أعلم ما بإمكان تلك المرأة أن تفعله، فكان أخي بمثابة إبنها الوحيد ورغم العنف الذي كانت تمارسه عليه كانت تحبّه حبّاً إستملاكيّاً ولن تدعه يفلت منها بسهولة. ولكنّه لم يسمع منّي، لأنّ الحرّية لها طعم جميل وكما فعلتُ أنا قبله، كان قد قرّر أخي أن يهرب بعيداً.
وفي يوم، أعدّ هيثم حقيبة صغيرة وإنتظرَ حتى تنام عايدة وفتح الباب ورحلَ قاصداً بيتنا القديم في القرية. ذهبَ دون أي مال في جيبه سوى القليل التي رمَته له سُهى مِن شرفتها. وقبل أن يرحل، قال لها:" أحبكِ... وساعود يوماً لأتزوّجكِ... لن يعرف أحد أنّني في بيت الجبل... سأعيش كالناسك ولكنّني سأعود مِن أجلكِ". وعندما إستفاقَ أبي وزوجته ولم يجدا أخي، إنتابهم هلع كبير. وأخذا يسألان عنه في كل مكان ولولا أخت سُهى لما علِما أين هو. فكانت تلك الأخيرة قد سمعَت الحديث الذي جرى بين سُهى وهيثم وقالت لِمَن سألَها مكان تواجده.
عندها أخذَت عايدة سيّارة أجرة ولحِقَت به بعدما قالت لأبي:"لا أحد يتركني! لن أعود مِن دونه أو لن أعود أبداً!". وما دارَ لاحقاً علِمنا به مِن سائق السيّارة التي أخذَتها زوجة أبي إلى الجبل. فعندما وصَلَت، طلبَت منه أن ينتظرها ودخلَت البيت وخرجَت منه ماسكة بذراع أخي. كان المسكين يصرخ مِن الألم ويحاول الإفلات منها ولكنّها كانت تشدّ به كالوحش. وحين أرادَت ركوب السيّارة، رفضَ السائق أن يقلّها لأنّه شعرَ أنّ شيئاً لم يكن على ما يرام. فصَرَخَت به عايدة:"إرحل سنستقلّ الباص!". وأدارَ المحرّك ورحلَ. وفي المساء، علمِنا مِن الشرطة التي دقّت باب أبي أنّ عايدة وهيثم لقيا مصرعهما عندما إصتدمَ الباص الذي كان يقلّهما بسيّارة وأنّهما كانا الضحيّتان الوحيدتَين وكأنّ القدر كان قد أرادَ أخذهما دون سواهما.
بكيَ أبي ولم أعرف إن كان يبكي إبنه أم زوجته. أمّا أنا، فأدركتُ أنّ عايدة لم تكن لِتدع هيثم يعيش ولو ثانية بعيداً عنها وأنّها إمتلَكَته حتى في الموت.
حاورتها بولا جهشان