لقد فعلتُ جهدي لأخرِجَ عُمَر مِن كآبته، لكنّني لم أكن لأنجح حيث فشِلَ ذوو الإختصاص. وعندما أفكّر بالأمر اليوم، أرى أنّ لا مفرّ للذي حصَلَ، فالنفس البشريّة معقّدة للغاية، وتحمل في طيّاتها أسرارًا وآلامًا عميقة لا تقبل التخلّي عنها.
لا أنكر أنّ الذي شدّني إلى عُمَر كانت تلك النظرة الحزينة الموجودة في عَينَيه الواسعَتين والتي حرّكَت عاطفتي، وشعرتُ بحاجة ملحّة لأخذه بين ذراعيَ. بالطبع لم أفعل، بل اكتفَيتُ بالإبتسام لذلك الرجل الوسيم المحاط بالنساء. وهو ردّ لي إبتسامتي وأسرَعَ بالتخلّص مِن مُعجباته، ربما لأنّه لمَسَ قدرتي على احتضان آلامه. وبعد حديث سريع، تبادَلنا أرقام الهاتف وبدأنا نتواعد بعد يومَين على لقائنا.
كان عُمَر ثريًّا ويملك كلّ ما يُمكنه اسعاد أيّ إنسان لكنّه كان تعيسًا للغاية. حاوَلَ جهده لإخفاء الأمر عنّي، إلا أنّ تعاسته كانت ظاهرة للعيان. سألتُه مرارًا عمّا يُقلقُه أو يُحزن قلبه، وهو اكتفى بالقول: "إنّها قصّة طويلة". وبعد ستّة أشهر، كنّا قد تزوّجنا وطرنا إلى باريس لقضاء شهر عسل لا مثيل له.
إلا أنّ حياتنا الحميميّة لم تكن كما توقّعتُ، فقد كان زوجي يُفضّل أن أداعب شعره طوال الليل على ممارسة الجنس. صحيح أنّه قام بواجباته الزوجيّة معي، لكن فقط في الأيّام الأولى. وأنا، كَوني امرأة شرقيّة، لم أجرؤ على مطالبته خوفًا مِن أن يرى فيّ إنسانة غير خلوقة. وهكذا دخلنا دوّامة لم نستطِع الخروج منها أبدًا.
لم يعد عُمَر يُحبَ مغادرة البيت للترفيه، بل صارَ يُفضّل أن تأتي الناس إلينا ولم أرَ مانعًا في ذلك، على الأقل في المرحلة الأولى، ولكن بعد فترة بدأتُ أشعر باختناق كبير. صحيح أنّني كنتُ قادرة على الخروج مِن دون زوجي، إلا أنّني لم أعد أشعر بأنّني سيّدة متزوّجة، بل عزباء تعيش مع رجل في البيت نفسه. وحين قرّرتُ أنّ الأوان حان لإجراء حديث جدّيّ مع عُمَر، إكتشفتُ أنّه يقضي لياليه يبكي بصمت. فهو كان يخرج مِن السرير، ويقصد غرفة الجلوس ويبقى هناك حتى ساعات الفجر كي لا أرى دموعه.
رأيتُه صدفة حين استيقظتُ ليلاً ولم أرَه إلى جانبي في السرير. عندما رأيتُ ذلك المشهد المحزن للغاية، شعرتُ بعجزه وبعجزي. ركضتُ إليه أعانقُه وأواسيه، ولم يقبل أن يعود إلى النوم إلا عندما وعدتُه بأنّني سأغنّي له وأداعب شعره حتى ينام. في تلك الليلة بالذات، تحوّل زوجي رسميًّا إلى إبني، وبتُّ أمّه بكلّ ما للكلمة مِن معنى. فعندما أعرَبتُ له يومًا عن نيّتي بالإنجاب، صَرَخَ عاليًّا: "ماذا؟!؟ لا أريد أخًا أو أختًا!". عندها تأكّدتُ مِن أنّ عُمَر يعاني مِن مشكلة نفسيّة صعبة وعليه أن يتعالج. لَزِمَني وقت طويل لإقناع زوجي بضرورة رؤية طبيب نفسيّ، فبنظره لم يكن يشكو مِن شيء بل كان سعيدًا معي. ولم يقتنع إلا عندما أجبتُه: "لكنّني لستُ سعيدة معكَ". وخافَ أن أتركه وبدأ يبكي كالطفل الذي يخشى أن تتركه أمّه لوحده.
ذهبنا سويًّا إلى الطبيب النفسيّ، وحكيتُ له ما يجري وبقيَ عُمَر يُردّد أثناء الجلسة: "لا أدري ماذا نفعل هنا... أين الخطب بطريقة عَيشنا؟" هزّ الطبيب برأسه وطلَبَ منّي أن أتركهما لوحدهما، وهكذا بدأ زوجي بالذهاب إلى الأخصّائي مرّة بالأسبوع. كنتُ واثقة مِن أنّ العلم سيُعيد لعُمَر عقله، وأنّنا سنعيش أخيرًا حبًّا طبيعيًّا، ولِما لا أن ننجب إبنًا أو بنتًا.
لكنّ زوجي توقَّفَ عن الذهاب إلى الطبيب بذريعة أنّه يضع في رأسه أفكارًا لا يُحبّها. واتصلتُ بالعيادة لأستعلم عن الموضوع فأخبرَني الطبيب بأنّ عُمَر يُعاني مِن مشكلة نفسيّة سببها أمّه التي تركَته وهو صغير، الأمر الذي لم يقله لي زوجي بل أدّعى أنّها توفَّيت مِن جرّاء مرض خبيث. فهمتُ حاجته لعاطفة الأم وخوفه مِن التخلّي، لكنّني لم أكن مستعدّة للعب دور الأم طوال حياتي.
لِذا إختَرتُ له طبيبة نفسيّة، على أمل أن يستطيع التقرّب منها أكثر وتقبلّها كوَنها امرأة. وهو لم يُمانع الذهاب إليها.
في تلك الأثناء، تراجَعت أعمال زوجي بسبب إهماله لها، فكلّ الذي كان يهمّه هو أن أجلس معه طوال النهار والليل وأن أداعب شعره وأغنّي له وكأنّه طفل صغير. ترَكَنا الأصدقاء، وابتعَدَ عنّا الأقارب بعد أن أقفَلَ عُمَر الباب بوجه جميع الزوّار، وبتُّ أعيش في سجن لا أرى المخرج منه.
لم تنفع الجلسات مع الطبيبة لأنّ عُمَر كرهَها بعد أقل مِن أسبوعَين، ورأى في الأخصّائيّة صورةً للمرأة الباردة والقاسية، وفضَّل البقاء في أحضاني. وأنا مِن جهّتي كنتُ أفكّر بالرّحيل بعيدًا عن أجواء غير سليمة بدأَت تحبطني إلى أقصى درجة. لكن كيف لي أن أترك رجل مريض أحببتُه ولو لفترة مِن الزمَن؟
خطَرَ ببالي البحث عن والدة عُمَر والتكلّم معها، على أمل أن أقنعُها بأن تفسّر لابنها سبب تركها له أو حتى المجيء للعَيش معنا. لكنّني اكتشفتُ أنّ المرأة ماتَت منذ بضع سنوات بعد أن تزوّجَت وأنجبَت أولادًا في بلد آخر. وشعرتُ أنّني وصلتُ حقًّا إلى طريق مسدود.
وبعد خمس سنوات على زواجنا، أخذتُ أخيرًا قرار ترك عُمَر، وفكّرتُ مليًّا بطريقة مناسبة لإخباره بالأمر. وعندما فعلتُ، نظَرَ إليّ بذهول ومِن ثمّ بغضب وبدأ يبكي ويُهدّد ويتوسّل. بكيتُ معه محاولةً شرح العذاب الذي أعيشُه وإيّاه، لكنّه لم يستوعب مدى تعاستي بل ركَضَ إلى الدرج وفتحَه وأخرَجَ منه مسدّسًا وصوّبه إلى رأسه. صرختُ به كالمجنونة، ولَم يقتنع بوضع المسدس جانبًا إلا عندما وعدتُه بالبقاء معه حتى آخر أيّامه. ولم أعد قادرة على ترك إنسان قد يُنهي حياته بسببي، فلن أقبل بالعيش مع هكذا ذنب.
بعد تلك الحادثة، أصبَحَ الأمر وكأنّنا اتفقنا على العَيش كأمّ وابنها رسميًّا، وتراجَعت حالة عُمَر بشكل ملحوظ. فكان عليّ إطعامه بنفسي، وهو كان يجلس قبالتي ويفتح فمَه. وعندما أعرَبَ عن رغبته بأن آخذه إلى الحمّام لقضاء حاجاته، صرختُ فيه بقوّة وهو لم يعد يطلب منّي ذلك.
وبعد أن صار الوضع لا يُحتمل بتاتًا، إتصلتُ بطبيب نفسيّ شهير وشرحتُ له ما يحصل، فعرَضَ عليّ أن يأتي بنفسه إلينا ليرى ما يُمكن فعله.
عندما أتى الطبيب، عرّفتُه إلى زوجي على أنّه قريب لي، وجلسنا نحن الثلاثة حول مائدة الطعام. وضعتُ كالعادة فوطة حول عنق عُمَر وبدأتُ أطعمُه، بينما كان هو يُكلّم ضيفنا وكأنّ شيئًا لم يكن. كنتُ مشدودة الأعصاب، لأنّني كنتُ أريد معرفة رأي الأخصّائي وإن كان هناك مِن طريقة لشفاء عُمَر وإعادته إلى ما كان عليه. وقد كان تشخيصه مماثلاً لمَن سبقَه، إلا أنّه قال لي إنّ الأمر لن يزول بجلسات فقط بل بعلاج بالأدوية ومراقبة عن كثب، أي أخذه إلى مؤسّسة خاصّة ليقضي فترة غير محدّدة فيها، لأنّ زوجي كان قد تراجَعَ إلى مرحلة الطفولة وبدأ يفقد إدراكه لسنّه وكيانه.
كنتُ أعلم أنّ عُمَر لن يقبل بالذهاب إلى مؤسّسة خاصّة، لأنّ ذلك يعني العَيش بعيدًا عنّي، ولأنّه لم يكن يرى أيّ خطب في ما يفعلُه، فبقينا في البيت.
لم أعد أرى مخرجًا لمصيبتي، فصرتُ مكتئبة لا أجيد النوم ولا الأكل، وتمنّيتُ لو لم أتعرّف إلى عُمَر يومًا. وكان زوجي قد لمَسَ أخيرًا حيرتي وضياعي وقرّر، في لحظة وعي، أن يُنهي عذابي معه.
سمعتُ طلقة نار هزّت جدران البيت، فركضتُ كالمجنونة إلى غرفة النوم حيث كنتُ قد تركتُ عُمَر قبل دقائق. رأيتُه سابحًا في بركة دماء هائلة. وقفتُ مسبوعة أمام مشهد لَم تشأ عينايَ تصديقه وبكيتُ بصمت. كان عُمَر قد فضّل الموت على الإستمرار بتعذيبي، وجزء منّي شكرَه على ذلك. هل أحبَّني عمَر فعلاً؟ أجل، فما فعَلَه مِن أجلي كان خير دليل على ذلك.
دفَنتُ زوجي بحزن عميق على إنسان بحَثَ طوال حياته عن أمّه في كلّ امرأة صادفَها، وحين وجدَني خال أنّه سيعيش أخيرًا طفولةٌ سُلِبَت منه.
كم مِن الأمّهات والآباء يُدمّرون أولادهم بسبب أنانيّتهم وعَدَم تحمّلهم مسؤوليّة إختاروها بكامل إرادتهم؟ وكَمَ مِن الأولاد يعيشون حياة فارغة وهشّة ويُطالبون، على طريقتهم، بالحصول على أبسط حقوقهم؟
حاورتها بولا جهشان
