منذ انتقلَت وردة أختي للعَيش عند جارنا السيّد فيليب، وأنا قلِقة. فكنتُ أعرفُ أختي تمام المعرفة، خاصّة بعد طلاقها مِن زوجها وزواجها مِن آخر فرنسيّ لِنَيل الجنسيّة وتطليقه بعد ذلك. ما الذي كانت تُريدُه مِن ذلك الأرمل المسكين؟ ومع أنّها صارَت تعيشُ في الشقّة المُقابلة، كان اتّصالي بها يتمُّ عبر الهاتف. أعترِفُ أنّني وجدتُ صعوبة في التركيز على عمَلي لكثرة الأفكار التي تتالَت في بالي. كان لدَيّ شعور قويّ بأنّ شيئًا يتحضّرُ، لكنّني لَم أستطِع معرفة ماهيّته. هل كان عليّ تحذير السيّد فيليب مِن وردة؟ لكنّني كنتُ مُتأكّدة مِن أنّها قصَّت عليه الأكاذيب عنّي، فهي ادّعَت أمامه، باكيةً حتمًا، أنّني لَم أعُد أُريدُها معي. ندِمتُ أشدّ الندَم لاستقبالي لها في فرنسا لكن ما عسايَ أفعَل غير ذلك؟ ففي ذلك الوقت لَم يخطُر ببالي أنّ أختي ستُطلِقُ العنان لِطمعِها وشرّها. مهلاً... هل يُعقَل أنّها تخلصَّت مِن الهرّ "نوارو"؟!؟ لا، لا يُعقَل ذلك! فأن تكون وردة جشِعة شيء، أمّا أن تكون مُجرِمة فشيء آخر. طردتُ تلك الفكرة البشعة مِن رأسي بسرعة، فكنتُ أتخايلُ حتمًا أمورًا بعيدة كلّ البُعد عن الواقع.
وردة هي التي فعلَت أوّل خطوة تجاهي، بِدقّ بابي ذات يوم لِدعوتي إلى العشاء في شقّة السيّد فيليب في اليوم التالي. حاولتُ اختراع الحجَج إلا أنّها أدارَت ظهرها وعادَت إلى الشقّة قائلةً: "أنا بانتظاركِ". هل هي تمدُّ لي يَد المُصالحة أم أنّها تُريدُ تمرير رسالة لي عبر تلك الدعوة؟ كنتُ سأعرفُ الجواب بعد يوم.
جلبتُ معي بعض الحلوى وقرعتُ باب الشقّة المُقابلة، ففتحَت لي وردة الباب مُبتسمة. كانت ترتدي ملابس جميلة وأنيقة وخُيّلَ لي أنّها صاحبة المكان، على الأقل هكذا تصرّفَت. السيّد فيليب كان جالسًا في الصالون وعلى حضنه هرّ جديد، وكان الرجُل سعيدًا للغاية بِرفيقه الصغير. قالَت لي أختي بِفخر: "لقد جلبتُ لـ "فيلو" هرًّا بدلاً مِن السابق". فيلو؟!؟ هل سمعتُ جيّدًا؟ هل هي دلَّعت السيّد فيليب لتوّها؟
جلسنا في الصالون، ثمّ انتقلنا إلى المائدة حيث وضعَت وردة الأطباق الشهيّة التي نُحضرُها عادةً في بلَدنا. رأيتُ لمعة ترقّب في عَينَي صاحب المكان لدى نظره إلى تلك الأطباق، وهو همَسَ لأختي: "أنتِ بالفعل لؤلؤة نادرة." شعرتُ باشمئزاز كبير لدى سماعي ذلك، ليس بسبب الكلمات التي قيلَت، بل للطريقة والنبرة التي استعملَها السيّد فيليب. فكان مِن الواضح أنّ شيئًا ما يحصلُ بين هذَين الشخصَين.
لكنّني لَم أكن متأكدة مِن ماهيّة ما يحدث، ورجوتُ الا يكون الأمر حميمًا، ليس لأنّ وردة غير قادرة على إقامة هكذا علاقة، بل لأنّ الفكرة مُقزِّزة بسبب فارق السنّ بينها وبين السيّد فيليب الذي يُمكنُه أن يكون جدّها. باقي الجلسة كان مُعظمها يتمحوَر حول تداول الإطراء بين أختي ومُستضيفها، ففضّلتُ الانسحاب لأُفكّر مليًّا بما رأيتُه خلال ذلك العشاء. أوصَلتني وردة إلى الباب وعلى وجهها بسمة انتصار، وأنا اكتفَيتُ بالقول لها: "إيّاكِ أن تؤذي ذلك العجوز!"
في اليوم التالي، أطلعتُ أصدقائي وزملائي على مخاوفي، فاقترحوا جميعًا أنّ أختي تسعى لوضع يدها على بيت جاري. سألتُهم ما بإمكاني فعله حيال ذلك، فقالوا لي إنّ عليّ عدَم التدخّل طالما أنّ السيّد فيليب يتمتّعُ بكامل قواه العقليّة ويتصرّفُ بكامل إرادته. ففي آخر المطاف هو حرّ بمُلكه، وقد تكون رفقة وردة إيجابيّة له بعد أن فقَدَ زوجته. شعرتُ بِغضب عارِم وبِذنب كبير لأنّني السبب، ولو بشكل غير إراديّ، بالذي يجري. فقرّرتُ إجراء حديث جدّيّ مع أختي. لِذا اتّصلتُ بها طالبةً رؤيتها بأسرع وقت. وحين جاءَت إلى شقّتي، سألتُها عمّا يدورُ حقًّا في رأسها فأجابَت:
ـ مِن الواضح أنّكِ لَم تكوني مسرورة بوجودي معكِ فوجدتُ مسكنًا آخر.
ـ لقد سبَقَ وقلتِ لي ذلك... أودُّ معرفة ما تنوين فعله بالمسكين.
ـ مسكين؟!؟ إنّه سعيدٌ للغاية! فهو وجَدَ بي رفيقة مُسليّة وطاهية ماهرة! هل تُفضّلين له أن يبقى وحيدًا يبكي على زوجته وهرّه؟
ـ طالما فتحتِ موضوع الهرّ... هل لكِ دخلٌ باختفائه؟
عندها أرجعَت وردة رأسها إلى الوراء، وأطلقَت ضحكة صاخبة قائلة:
ـ منذ البدء كرهتُ ذلك المخلوق البغيض... فأنا أمقتُ الحيوانات.
ـ إذًا كنتُ على حقّ في تكهّناتي!
ـ أنا لَم أقُل شيئًا! على كلّ الأحوال ليس لدَيكِ أيّ إثبات على اتّهامكِ. لا تأسفي كثيرًا، فلقد جلبتُ لـِ "فيلو" هرًّا آخر.
ـ وهل سيُواجِه هذا الهرّ المصير نفسه؟
ـ لا، على الأقل طالما أنّ صاحبه موجود. أمّا بعد ذلك...
ـ تنتظرين موت السيّد فيليب؟!؟ وماذا ستجنين مِن ذلك؟ أعرفُكِ جيّدًا يا وردة، فأنتِ لا تفعلين شيئًا مجّانًا.
ـ الرّجُل سعيد معي وأنا سعيدة بالوضع... أنتِ الوحيدة المُستاءة. وما دخلكِ؟ إهتمّي بشؤونكِ الخاصّة ودَعينا بسلام!
ـ سؤالٌ أخير: ما الذي يدورُ بينكما؟ أقصدٌ على الصعيد الشخصيّ؟
ـ هاهاها... لا تخافي يا أختي العزيزة فأنا لا أهوى العجائز! "فيلو" يقولُ إنّه يعتبرُني بمثابة حفيدة له. لا أدري إن كان يكنّ لي مشاعر عاطفيّة بعد موت زوجته، إلا أنّه لَم يُصارِحني بشيء... حتى الآن.
ـ أنتِ تتلاعبين بالرجُل ولن أدعَكِ تُسبّبين الأذى له.
ـ سنرى ذلك.
كرهتُ أختي إلى أقصى درجة، لكنّني كنتُ عاجزة عن فعل أيّ شيء.
تناسَيتُ الموضوع، إلى حين علِمتُ صدفة مِن حارسة المبنى أنّ السيّد فيليب سيتزوّج مِن أختي! عندها قرعتُ باب جاري وأزَحتُ بقوّة وردة التي فتحَت لي، وقلتُ للرّجُل كلّ ما أعرفُه عن أختي وعن مُخطّطها اللعين تجاهه. نصحتُه بقوّة بألا يتزوّجها، فهناك خطر كبير على صحّته ومشاعره وربّما حياته.
كانت ردّة فعله عنيفة على غير عادته، فهو لطالما كان إنسانًا هادئًا ولطيفًا، ففضَّلتُ العودة إلى شقّتي. إرتاحَ بالي، فلقد قمتُ بما يُملي عليّ ضميري، وإن كان السيّد فيليب قابلاً بأختي كما هي فقد صارَ ذلك مِن شأنّه.
بعد ذلك صرتُ أجِدُ أكياس نفايات مفتوحة ومُبعثرة قرب باب شقّتي تفوحُ منها رائحة كريهة، ومِن ثمّ رسومًا وكتابات بالدهان على بابي. علِمتُ طبعًا مَن فعَلَ ذلك، لكنّني سكتُّ.
سكتُّ ويا لَيتني اشتكَيتُ على وردة، فهي لَم تتوقّف عند ذلك الحدّ. فلقد دخلَت شقّتي بواسطة المفتاح الذي أعطَيتُه لها حين سكنَت معي، وخرّبَت ودمَّرَت أثاثي بأكمله. الأثاث نفسه الذي كان موجودًا في الشقّة والذي ليس مُلكي. بكيتُ كثيرًا، فالأضرار كانت كبيرة ومُكلفة، لكنّني قرّرتُ عدَم الاستسلام... إلى حين تمّ طردي مِن الشقّة.
فقد رأَت حارسة المبنى القمامة والكتابات على بابي، وسمعَت أصوات التكسير في شقّتي فاتّصلَت بمالك المبنى الذي دقَّ بابي باستياء ليعرف ما يحصل بمُلكه. وحين رأى الدّمار، أمرَني بِدفع تكاليف الأثاث وإخلاء الشقّة خلال أسبوع. حاولتُ أن أشرَح له أنّ لا دخل لي بكلّ ما حصل، إلا أنّه لَم يُصدّقني طبعًا، فلَم يكن هناك مِن دلائل على دخول أيّ كان المكان عُنوةً. حملتُ أمتعتي وانتقلتُ إلى شقّة أخرى بعيدة كلّ البُعد عن أختي، فلَم يعُد يهّمُني ما تفعله، وكلّ ما أردتُه هو العَيش بسلام. لَم أودِّع أختي طبعًا بل حظرتُها على هاتفي، بعد أن أخذتُ قرار نسيان وجودها بأسره. عدتُ إلى حياتي السابقة، أي إلى التركيز على عمَلي والاستمتاع بِرفقة مَن حولي.
مرَّت الأشهر والسّنة والأخرى، حين التقَيتُ صدفةً بِحارسة المبنى التي اشتكَت عنّي لدى مالك الشقّة القديمة. كنتُ في أحد المطعم وهي جالسة مع سيّدة أخرى إلى طاولة مُجاورة. هي قامَت مِن مكانها وجاءَت إلى طاولتي لتُلقي عليّ التحيّة. وجدتُ ذلك وقحًا مِن جانبها لذا ردَّيتُ التحيّة بِجفاف. إلا أنهّا قالَت لي:
ـ جئُت أزورُ أختي وقرَّرنا تناول الغداء هنا... يا للصّدفة! أنا أسفة بشأن أختكِ.
ـ لماذا؟ ما الذي حصَلَ لها؟!؟
ـ ألَم تعرفي ما حلَّ بها؟ حسبتُك على تواصل معها.
ـ لا. ليس منذ تركي المبنى.
ـ إنّها في السجن.
ـ ماذا؟!؟ ولماذا؟!؟ هل حصَلَ مكروه للسيّد فيليب؟
وفي تلك الحظة خلتُ حقًا أنّ وردة قتلَت "فيلو" للاستيلاء على شقّته. لكنّ المرأة تابعَت:
ـ لا! لا! بل تدخًّلَ ابنه.
ـ هو لدَيه ابن؟ خلتُ أنّ زوجته رحمها الله كانت عاقرًا.
ـ صحيح، هي لَم تستطِع الإنجاب. إلاّ أنّ السيد فيليب له ابن خارج الزواج مِن امرأة أخرى، وأبقى الأمر سرًّا كي لا يجرُح شعور زوجته. لكنّه اعترفَ به قانونيًّا منذ البدء.
- وما دَخل ابنه بِدخول وردة السجن؟!؟
ـ بعد رحيلكِ بقليل، وقَبل أن يتزوّج أختكِ، بدأ السّيد فيليب بِفقدان قدُراته العقليّة، وكَتَب شقّته لأختكِ التي رمَته في دار للعجزة. ولدى معرفة الابن بالذي حلّ بأبيه، بدأَ يتقصّى عن الموضوع واكتشَفَ أنّ أختكِ، إلى جانب استفادتها مِن وضع العجوز في ما يخصّ الشّقة، كانت قد حملَته على التوقيع على شيكات لها، فصرفَت كامل مُدخّراته الموجودة في المصرف ولمَ يتبقَّ له شيء على الإطلاق. إشتكى عليها الابن، وهي الآن محبوسة بِتهمة الاحتيال والنصب. إسترَدَّ الابن الشقّة لكن ليس المال.
ـ والسيّد فيليب؟ هل عادَ إلى مسكنه؟
ـ ماتَ المسكين في دار العجزة. رحمه الله.
لا أخفي عنكم أنّني ارتحتُ لدى سماعي ذلك، فلقد نالَت وردة جزاءها، ولكن بعد ماذا؟ بعد أنّ قتلَت "نوارو" وسبّبَت للسيّدة العجوز حزنًا قد عجَّل حتمًا بموتها، وبعد أن استقرَّت في شقّة الزوج وأوهمَته بأنهّا تهتَمُّ لأمره، وبعد ان أخذَت ماله ومسكنه؟!؟
لمَ أزُر بعد أختي في السجن... ولا أدري إن كنتُ سأفعلُ يومًا.
حاورتها بولا جهشان