أحلام امرأة (الجزء الثاني)

للحقيقة، لم أكن أعرف الكثير عن سمير، ذلك الشاب الذي خطَفَ ابنتي بعد أن خطَفَ قلبها. هو كان زميلها في الكلّيّة على ما أعتقد، ويأتي مع باقي رفاقها ليدرسوا سويًّا عندنا في البيت. وفور معرفتي بالذي حصَل وكيف أنّ وفاء ابنتي هربَت مِن البيت ليلًا أو صباحًا لست أدري، وجَبَ عليّ إيجادها وبسرعة! لكنّني كنتُ أعي أنّ الأوان قد فاتَ لأنّها أصبحَت زوجته، للأسف. أقولُ للأسف لأنّ بالرغم مِن أنّها أكّدَت لي في رسالتها أنّها ستُتابع دراستها، كنتُ أعرِف تمامًا أنّ ذلك لن يحصل حالما ستصبح في بيت زوجها وتقومُ بواجباتها المنزليّة ولاحقًا الأموميّة. لذلك اتّصلتُ بسرعة بصديقات ابنتي، وبدأتُ أطرَح عليهنّ الأسئلة العديدة، والذي عرفتُه كان بالفعل فظيعًا. فذلك الشابّ لم يكن مُسجّلًا في الكلّيّة، بل كان ابن الناظر العام ويتواجد مع التلميذات وكأنّه أحَد الطلاب، ما هو مخالف للقانون طبعًا. بعد ذلك، قصدتُ الجامعة فدخلتُ مكتب الناظر العام كالمجنونة صارخةً:

 

- أين ابنتي؟ ماذا فعلتم بها؟؟

 

سكَتَ الناظر، وبعد ثوان طويلة قال:

- هي صارَت كنّتنا... ماذا تريدين منّي؟

 

- أريدُ معرفة مكانها! أريدُ أن أراها! أريدُ أن أتكلّم معها! كيف تسمَح لابنكَ بأن يدخل الكلّيّة ويدّعي أنّه أحَد تلاميذها؟ هذا مُخالف للقانون وأستطيع أن أشتكي عليك!

 

- تشتكين على عمّ ابنتكِ وتُحدثين فضيحة كبيرة في العائلة؟ أنت أمّها وعليكِ أن تحافظي على سمعتها! أقولُ لكِ إنّ الأوان قد فاتَ وهي كنّتنا الآن!

 

- لي الحقّ أن أعرف أين هي، فأنا أمّها! هناك قوانين!

 

- إبنتُكِ ليست قاصرًا وبإمكانها أن تفعل ما تشاء، وتتزوّج مِمَّن تشاء، وأن لا ترى مَن تشاء! سأطلبُ منكِ الخروج حالًا مِن مكتبي وألّا تعودي أبدًا!

 

وعندما خرَجتُ مِن مكتب ذلك الرجل الفظيع، دخلتُ مكتب مدير الكلّيّة وأخبرتُه القصّة بأكملها وأنا أبكي مِن القهر والخوف على مصير صغيرتي. هو لم يكن أبدًا مُمتنًّا مِن الذي جرى ووعدَني بأخذ التدابير اللّازمة.

عُدتُ إلى بيتي مكسورة، فالناظر كان على حقّ: إبنتي راشِدة وما مِن شيء أستطيع فعله قانونيًّا. أطلَعتُ وائل زوجي حين استَيقظَ مِن النوم بما جرى لابنته وما قمتُ به، وتفاجأتُ بردّة فعله، فهو ابتسَمَ وقالَ: "وأخيرًا صحَّ الصحيح! فهذا هو مصير ابنتنا، ولو استمَعتِ لي منذ البداية بدلًا مِن ملء رأسها بتفاهات عن حقوق وحرّيّة المرأة، لاختَرنا لها عريسًا كما يجِب أيّ على ذوقنا: يُرفَع الرأس به!". فالجدير بالذكر أنّني علِمتُ مِن زميلات وفاء أنّ سمير ابن الناظر ليس شابًّا مُتعلِّمًا، بل ترَكَ الدراسة باكرًا وهو يعمَل في مصنع للأقمشة. أنا لا أُنقِصُ أبدًا مِن شأن الناس غير المُتعلّمين، فأنا واحِدة منهم، لكنّ ابنتي ستصبح طبيبة وسيكون لها عالَم آخَر ومدخول كبير، على خلاف زوجها. إضافة إلى ذلك، ما أستطيع استنتاجه مِن طريقة دخوله الكلّيّة وبيتنا، وكذبه علينا وتخطيطه، ومِن ردّة فِعل أبيه ووقاحته، أنّه ليس إنسانا صريحًا وصادِقًا، بل ماكِرًا ولا بدّ له أنّه وعَدَ وفاء بأمور كثيرة لن يَفي بها فعليًّا.

الحصول على عنوان الناظر العام لَم يكن صعبًا، على خلاف الاختباء على مدار الساعة لِمُراقبة منزله، لأرى إن كانت وفاء تسكنُ لدى حماها أو في شقّة أخرى. آه، لو أنّها تُجيبُ على اتّصالاتي! لكن مِن الواضح أنّها إمّا أقفلَت خطّها أو غيّرَت الرقم. لكن ما لَم أفهَمه، كان موقفها منّي إذ أننّا كنّا مُقرّبتَين كثيرًا مِن بعضنا. هل كان يجِب أن أُخفِّف مِن الضغط الذي مارستُه عليها، وتَركها تكتشِف الأمور والناس لوحدها؟ أنا أمّ ولا يسَعني تصوّر ابنتي فريسة بينما أتفرَّج عليها!

بعد أيّام عديدة على مُراقبة بيت الناظر العام ومُصادقة أصحاب محلّات الحَيّ، علِمتُ مِن أحَد هؤلاء أنّ ابنتي وزوجها في مسكن خاصّ بهما ويقَع في الجهة الأخرى مِن المدينة. وهكذا إستطَعتُ تصويب اهتمامي على اللحاق بالناظر أو زوجته إلى مكان وفاء.

ولحسن حظّي، كنتُ قد تعلّمتُ قيادة السيّارات، الشيء الوحيد الذي استفَدتُ منه بالزواج مِن وائل. فاستأجَرتُ سيّارة سرًّا، وبعد مُحاولات عديدة باءَت بالفشَل، نجَحتُ بمعرفة مكان صغيرتي الذي كان يقَع في حَيّ ضيّق ومكتظّ بالسكّان والمحال التجاريّة. عرِفتُ أنّ وفاء تسكنُ هناك بعد أن لَحقتُ بحماتها وهي تحمِلُ كيسَا كبيرًا فيه مستوعبات مأكولات مطبوخة. فالجدير بالذكر أنّ ابنتي لا تُجيد الطبخ، لأنّني أرَدتُها أن تُركّز على دراستها، وفعَلتُ جيّدًا وإلّا لَما وجَدتُها.

دخَلَت الحماة المبنى المذكور ومكثَت هناك لمدّة تُقارِب الساعة، ثمّ خرجَت منه وعلامات الغضَب على وجهها. ثمّ فعلتُ كما في حَي بيت الناظر، أيّ أنّني صِرتُ أزورُ المحلات وأفتَح حديثًا مع أصحابها وموظّفيها، بعد أن أشتري بعض الأغراض منهم. وهكذا وجدتُ امرأة مِن سنّي تعمَل في محلّ للّحومات، وتبادَلنا الكلام حول الزواج والأولاد، وعلِمتُ منها أنّها لَم تكن هي الأخرى سعيدة بزواجها ولدَيها إبنة مُراهِقة. عندها أخبَرتُها قصّتي وسبب وجودي في الحَيّ، وهي ذرَفَت الدموع لأنّها تصوّرَت نفسها في مكاني. ثمّ قالَت لي:

 

- دَعي الأمر لي، فأنا أعرفُ الجميع هنا... أعطِيني رقم هاتفكِ وعودي إلى بيتكِ، ثِقي بي.

 

لَم أكن أعلَم إن كنتُ بالفعل مُستعِدّة للوثوق بامرأة غريبة، لكن لم يكن لديّ مِن خيار آخَر. فحتّى لو قصدتُ الشقّة التي فيها وفاء، لَم يكن لي الحقّ بدخول بيتها عنوة. إضافة إلى ذلك، قد تخافُ ابنتي أو تعتبِرني أتدخَّل في حياتها، فتختفي مُجدّدًا. فالواقع أنّني لَم أكن أعلَم إن هي كنت سعيدة مع زوجها أم لا.

بعد حوالي العشرة أيّام قضَيتُها في الهمّ والخوف، جاءَني الاتّصال المُنتظَر. فعلِمتُ مِن تلك السيّدة أنّ وفاء أخذَت موعدًا لقصّ وتصفيف شعرها في الصالون الموجود بالقرب منها. وطلبَت السيّدة مِن المُصفِّفة تأخير وفاء قدر المُستطاع إلى حين أصِل إليها. بدأ قلبي يدقُّ بسرعة، وهرَعتُ إلى الصالون لأرى ابنتي الحبيبة والاطمئنان عيها.

حين وصَلتُ الصالون، كانت وفاء جالِسة ومجلّة في يَدها بانتظار دورها. بدَت لي حزينة ومُحبَطة، فاقترَبتُ منها وجلَستُ بالقرب منها. هي لَم تنظُر إليّ، بل ظنّت أنّي زبونة أخرى، إلى حين قلتُ لها بحنان:

 

- هل أنتِ سعيد، يا إبنتي؟

 

- ماما؟؟؟ ماذا تفعلين هنا؟ كيف عرِفتِ...

 

- أنا أمّكِ وسأجِدُكِ، حتّى لو كنتِ في آخِر الدنيا. أجِيبيني، هل أنتِ على ما يُرام وسعيدة مع زوجكِ؟ إن قلتِ أجل، فسأرحَل على الفور.

 

- لا، لا ترحلي!!!

 

وعانقَتني وفاء وهي تبكي كالطفلة. ثمّ تابعَت:

- سمير زوجي... هو إنسان بغيض! فبعد عودتنا مِن شهر عسَلنا، قالَ لي إنّه لن يسمَح لي بمُتابعة دراستي كما وعدَني، فليس مِن المقبول لدَيه أن تصبَح زوجته طبيبة وتتشاوَف عليه، بل أنّ مكاني هو البيت والمطبخ. إضافة إلى ذلك، هو يُعامِلنا وكأنّني... أعني... فقط أداة للذّته وخدمته. يا لَيتني سمِعتُ منكِ يا أمّي، لكنّني اعتبَرتُكِ تُبالغين وتحدّين مِن حرّيّتي. للحقيقة، كنتُ أودُّ مُكالمتكِ، إلّا أنّ زوجي وأهله منَعوني مِن ذلك وغيّروا رقم هاتفي، وأنا خجِلتُ منكِ لأنّني أدرَكتُ أنّني اقترَفتُ خطأً جسيمَا. ماذا أفعَل الآن؟؟؟

 

- لا تكوني ضعيفة كما كنتُ أنا، ستخرجين معي الآن مِن الصالون ونعودُ سويَّا إلى البيت ونُباشِر بالطلاق.

 

- لكن...

 

- أتريدين تحقيق أحلامكِ أم أحلام غيركِ؟ أتريدين عَيش حياتكِ أم حياة غيركِ؟ القرار هو قراركِ.

 

- خديني معكِ!

 

تطلّقَت ابنتي، لكنّنا وجَدنا صعوبات كبيرة إلى حين ساعدَنا مُدير الكلّيّة حين هدَّدَ الناظِر العام. حاوَلَ وائل زوجي هو الآخَر عرقلَتنا، لكنّني وقَفتُ في وجهه كالنّمِرة، فلا أحَد سيقِف في دَرب سعادة ابنتي وتحقيق ذاتها! فاتّضَحَ لي أنّني بالفعل إنسانة قويّة ولدَيّ عزيمة قويّة أيضًا، لكن ما مِن أحَد قالَ لي ذلك عندما كنتُ صغيرة.

أكملَت وفاء دراستها وصارَت طبيبة أطفال، ووجدَت العريس الذي يُناسبُها تمامًا، أيّ رجُلًا يحترمُها وأحلامها وطموحاتها وكيانها. والحمد لله! ولن أشكُرَ كفاية تلك السيّدة ومُدير الكلّيّة، فلولا مُساعدتهما، لكانت الأمور أخذَت مُنعطفًا آخَر.

 

حاورَتها بولا جهشان

المزيد
back to top button