أحلام امرأة (الجزء الأول)

مذ ما أتذكّر وأنا أحملُ بين ذراعَيّ دُمية لأهتمّ بها. وسنة خلف سنة، تغيّرَ شكلها، إلا أنّ مهامي بقيَت نفسها: الاعتناء بها وبإطعامها وتهدئتها وتغيير ملابسها وتمشيط شعرها. وحيث ذهبنا كانت لا تفوتَني لحظة مِن الاعتناء بها. فهم كانوا يُحضّروني لدوري المُستقبليّ: الأمومة.

لاحقًا، وعلى مرّ السنوات، صِرتُ أتصوّر حفل زفافي وأنا مُرتدية فستاني الأبيض، وكيف أنّ الناس يُهنّؤوني يمينًا ويسارًا، وإلى ذراعي عريسي. كانت ملامح "أب أولادي المُستقبليّ" واضحة تمامًا، وكأنّني أعرفُ مُسبقًا ما سيحصل في حياتي. لَم أُعطِ لدراستي الاهتمام اللازم، فما حاجتي للشهادات بينما أعيشُ لبناء عائلة جميلة مع رجُل رائع؟

وبالكاد وصلتُ إلى صفّ البكالوريا، أقولُ بالكاد لأنّ الفضل يعودُ إلى الأساتذة والمُديرة الذين دعَموني وحثّوني وأحيانًا تخطّوا حدود المسموح، وإلّا رسَبتُ مئة مرّة! على كلّ الأحوال، لَم أكن مُمتَنّة منهم كما يجب، بل اعتبرتُ أنّ إصرارهم أضاعِ مِن وقتي، فعريسي هو حتمًا بانتظاري!

ولأنّني كنتُ صبيّة حسناء، بدأَت تأتيني عروض الزواج، فهكذا تجري الأمور في مُجتمعنا الذي يعرضُ بناته "قَبل أن يفوتهنّ الأوان"، فالبضاعة الطازجة تُؤخَذَ أوّلًا. لكن ما مِن أحَد أعجبَني للصراحة، فرفضتُهم، الأمر الذي ولَّدَ الخوف في قلب أمّي التي كانت تُردّدُ لي: "يا إلهي ستُمسين عانِسًا! إقبَلي يا إبنتي وإلّا ندِمتِ". ندِمتُ على ماذا؟!؟ على تحقيق ذاتي بالعِلم والثقافة وبالعَمل الذي يُعطيني هدفًا واكتفاءً مادّيًّا ومعنويًّا؟ لكن في ذلك الحين لَم أكن أعلَم كلّ ذلك، فلا أحَد قال لي إنّ عليّ أوّلًا أن أحقِّق أحلامي ومِن ثمّ أحلام غيري.

بقيتُ أرفضُ العرسان... إلى حين وجدتُه! أجل، هو نفسه أو تقريبًا، ذاك الذي كنتُ أتصوّره إلى جنبي في حفل زفافي. كان اسمه وائل وكان وسيمًا!!! وهكذا لَم أتردّد ولو للحظة، الأمر الذي رسَمَ على وجه أمّي ابتاسمة عريضة، فإحدى بناتها كانت "ستنسَتِر" ولَم يتبقَّ سوى بنتَين اثنتَين للتزويج! ولَم أفهَم حتّى اليوم لماذا تلك الأمّهات ترى البنات وكأنهنّ عبئًا عليهنّ التخلّص منه بأسرع وقت.

كان وائل شابًّا مُقتدِرًا بفضل تجارة أبيه الذي يعمَل فيها هو الآخَر، وتواعدنا لفترة قصيرة لأنّ والدي "ليس لدَيه بنات للتسلية"، فتمّ تحديد موعد للزواج.

ندِمتُ على خياري بسرعة، إذ أنّ وائل كان إنسانًا أنانيًّا وبغيضًا. وكالكثيرات، ظننتُ أنّ الانجاب هو الحلّ، وأنّ زوجي سيُحبّني ويُعاملني بطريقة جيّدة حالما أُعطيه ولَدًا أو ابنة. لكن مرّة أخرى كنتُ مخطئة، فقد تحجّجَ وائل بابنتنا لينام في غرفة أخرى، ويقضي وقته خارج البيت ليتجنَّب الصراخ... والمسؤوليّة. نصحَتني أمّي بالإنجاب مُجدّدًا، وذكَرًا في هذه المرّة، لكنّني رفضتُ بقوّة. على كلّ الأحوال، كيف أتأكّد مِن أنّني سأنجبُ ابنًا؟

في هذه الأثناء، تابعَت زميلاتي القديمات في المدرسة حياتهنّ بدخول الجامعة، والاشتراك بنشاطات مُسلّية، بينما كنتُ أبقى في البيت وطفلة رضيعة بين ذراعَيّ، وبيت عليّ الاهتمام به... وزوج غائب في مُعظم الوقت. وذلك الأمر ولَّدَ في قلبي نقمة كبيرة تجاه أهلي والمُجتمع، والرجال بصورة عامّة. وما هو أفظَع، كان أهلي لَا يرَون أيّ خطَب في حياتي الزوجيّة، فأكّدَت لي والدتي مرارًا أنّها مرَّت بالتجربة نفسها وكانت سعيدة للغاية. سعيدة للغاية؟!؟ بماذا؟ فهي لَم تبتسِم ولو مرّة مذ فتحتُ عَينَيّ على هذه الدنيا، بل كانت إمّا حزينة أو غاضبة طوال الوقت. كيف لها أن تربّيني لخوض تجربة هي لَم تنجَح فيها؟ يا إلهي... هل سأفعل الشيء نفسه مع ابنتي؟ لا، ثمّ لا!

صِرتُ أكرَه زوجي كثيرًا وأتعلّق بابنتي وفاء، وأعلِّمها أن تعتمِد على نفسها مذ كانت طفلة، كَي لا تحتاج إلى أحَد على الاطلاق عندما تكبر. علّمتُها أيضًا أنّ الرجال في مُجتمعاتنا الشرقيّة لا يحترمون المرأة، بل يحسبونَها وجِدَت لخدمتهم وتأمين حاجاتهم، مِن أمّ وأخت وزوجة. مرَّت السنوات وكانت وفاء تلميذة جيّدة، فأصبحَت مِن أوائل صفّها، ولدَيها عزيمة قوّية تُمكّنها مِن المُطالبة بحقّها. وأنا كنتُ فخورة بها لأنّها كانت ستصبح شيئًا فشيئًا ما لَم أكن عليه ولن أكون يومًا. لَم أكن أعلَم حينها أنّني لستُ بحاجة لمُحاربة العالَم مِن خلال ابنتي، بل كنتُ قادِرة على الوقوف في وجه ما ومَن أساءَ إليّ أو حجَّمَ مِن قدراتي. لَم أكن أعلَم أنّني داخليًّا كنتُ بالفعل قويّة.

بلغَت وفاء سنّ المُراهقة ولَم يلفِت شابّ نظرها كما يحدث في تلك المرحلة، فاطمأنَّ بالي حيالها. ثمّ هي أنهَت دراستها المدرسيّة بتفوّق ودخلَت كلّية الطب. فرحَتي كانت لا تُقاس. أمّا بالنسبة لوائل، فهو رأى أنّ ابنته صارَت شبيهة بالشبّان ولَم يُعجِبه أن تفقِدَ أنوثتها. ما هذا الكلام السّخيف؟ وهل العِلم يُفقِد المرء هويّته؟ لَم أتأثّر بكلامه ولا بكلام أحَد، فكانت ابنتي ستبني لنفسها أفضَل مُستقبل، وتبًّا للرجال كلّهم!

تميّزَت وفاء أيضًا بجامعتها، فهنّأني مُدير الكلّيّة حين أخبرَني أنّها حصلَت على منحة لمدى تفوّقها. وعند سماعه الخبَر، قال زوجي: "زوّجيها! بماذا ستنفعُها شهادتها حين تقفُ في المطبخ لتُحضّر الطعام لعائلتها؟". أسكتُّه ونعتُّه بالجاهل وتحدّيّتُه بجدّيّة، فخافَ منّي لأنّه فهِمَ أنّ الموضوع مهمّ كثيرًا بالنسبة لي.

بدأ يأتي زملاء ابنتي مِن شباب وصبايا ليقوموا عندنا بحلقات درس خلال فترة الامتحانات، لأنّ وفاء كانت قادِرة على مُساعدتهم لو كان لدَيهم سؤال، وتحثّهم على المُثابرة حين يشعرون بالاستسلام. وكنتُ أجلسُ ليس بعيدًا عنهم وأنظرُ إليهم بسعادة. آه لو تسنّى لي أن أحظى بهكذا فرصة! إلّا أنّني نسيتُ أنّ الكثيرات مِن زميلاتي القديمات في المدرسة أكملَنَ دراستهنّ، وكنتُ مِن القليلات اللواتِي فضّلنَ الحبّ على العِلم.

ثمّ توعّكَت صحّة وائل، واتّضَحَ أنّ قلبه ضعيف. علِمنا ذلك حين أصابته أزمة قلبيّة... يوم كان بصحبة امرأة أخرى! ولو عادَ الأمر لي، لتركتُه يموت كالحيوان المسعور، إلّا أنّ المُجتمَع لَم يكن ليرحمَني، فكان عليّ مُسامحته زوجي مهما فعَل... وهو لم يُسامحني على أقلّ مِن ذلك. حسنًا... سأهتمّ به، لكن على طريقتي!

وضعتُ سريرًا لوائل في الغرفة الصغيرة التي كنّا نُخزِّن فيها كلّ ما لا نحتاجه، وكان ذلك أكثر مِن كافٍ لرجُل لَم يُعطِني الحبّ والحنان أبدًا، بل استغلّني للاهتمام به وباحتياجاته بينما ذهَبَ ليتسلّى ويصرف ويُدلِّع نساءً أخريات.

أطعمتُ زوجي ونظّفتُ ملابسه وأعطَيتُه كلّ ما إحتاجَ إليه خلال فترة النقاهة، لكن وكأنّه مريض في مشفى وأنا مُمرّضة أقومُ بواجباتي فقط. لَم أُعاتِبه على إقامة علاقة مع غيري، فما النفع؟ فلو كان يعي أنّ ذلك أمر مُشين لمَا فعلَه منذ البداية. بل ركّزتُ على وفاء وحسب وكلّما شعرتُ أنّ أحَد زملائها يتقرّب منها، كنتُ أقولُ لها: "حذارِ... لا تُصدّقي ما ترَينَه أو تسمعينَه، بل تحقّقي منه فعليًّا. على كلّ الأحوال، الوقت ليس للغرام، بل لرسم مُستقبلكِ".

إلّا أنّ أحدَهم استطاعَ إقناع ابنتي بأنّه مُتيَّم بها ولا يُفكّر بسواها، وتقدَّمَ لخطبتها. هي لَم تكن تُحبّه فعلًا، بل أعجبَها كلامه لها واهتمامه بها. عندها وقفتُ في وجهها صارخةً فيها: "لن أدعكِ تخرّبين كلّ شيء بسبب أوّل شاب يُسمُعكِ كلامًا جميلًا!". قدّمَت وفاء لي اعتذاراها ووعدَتني بأنّها لن تُفكِّر سوى بالدرس ونَيل الشهادة.

ولكن في أحَد الأيّام عندما إستيقظتُ باكرًا مِن النوم... لَم أجِد ابنتي العزيزة، بل رسالة مكتوب عليها أنّها ذهبَت لتتزوّج وأنّها آسِفة جدًّا، وانتهَت بالقول إنّها لن تتوقّف عن مُتابعة عِلمها. بدأتُ بالبكاء والصراخ، وحاولتُ الاتّصال بها مئة مرّة مِن دون جدوى. كانت ابنتي قد تزوّجَت.

رفعتُ يدَيّ إلى السماء وطلبتُ مِن الله أن يرعاها ويُسعِدها، فكنتُ خائفة جدًّا على ابنتي مِن صهري الجديد الذي كان يُذكّرُني بوائل. إلّا أنّ العريس كان في الواقع أفظَع منه بكثير!

 

يتبع...

المزيد
back to top button