ماضٍ حسبته اختفى من ذاكرتي...

حين التقَيتُ بمُديرتي القديمة أثناء تسوّقي، تجمَّدَ الدم في عروقي. فلقد عدتُ بلحظة واحدة إلى ماضٍ حسبتُه اختفى مِن ذاكرتي. حاولتُ الاختباء كَي لا تراني تلك الأفعى، لكنّها صرخَت لي مِن بعيد: "يُمنى! يُمنى! تعالي!". كيف تعّرَفَت الآنسة مُنى عليّ بعد كلّ تلك السنوات، وبعد أن صِرتُ سيّدة مُتزوّجة وأمًّا، لستُ أدري! كان بإمكاني مُتابعة طريقي وتجاهلها، إلا أنّ الفتاة الصغيرة التي في داخلي كانت قد اعتادَت على الانصياع لأوامر الآنسة مُنى. إقتربتُ مِن العجوز، وبدأتُ أرتجِف مِن الخوف. أمّا هي، فابتسَمت حين أدركَت أنّها لا تزال تمتلكُ السيطرة عليّ. فهكذا كانت، تُمارِس سياسة الارهاب والترعيب منذ سنين. مدَّت مُديرتي يدَها إلى شعري وداعبَته قائلة:

 

- لا يزال شعركِ خفيفًا... عليكِ قصّه... يا للأسَف، خلتُكِ ستكبرين لتصبحي أقلّ بشاعة.

 

إمتلأَت عَينايَ بالدموع فأدَرتُ وجهي عنها، إلا أنّها تابعَت:

 

ـ ماذا حلَّ بكِ بعد تخرّجكِ؟

 

ـ دخلتُ الجامعة وتخصّصتُ في الحقوق وأنا اليوم مُحامية. لدَيّ زوج وولدان.

 

ـ عجيب... لَم تكوني فالِحة في المدرسة... مِن المؤكّد أنّ أحدًا تعرفينَه دعمَكِ. تقولين لدَيكِ عائلة؟!؟ مُمكن... فالتزاوج والانجاب يحصلُ عند الحيوانات أيضًا.

 

ـ لستُ حيوانًا! ما هذا الكلام يا آنسة مُنى؟

 

ـ إحترسي مِن كلامكِ! أنسيتِ مَن أكون؟!؟ لَم يكن يجدرُ بي حتّى إلقاء التحيّة عليكِ!

 

تركَتني الآنسة مُنى واقفة لوحدي على الرصيف ورحَلت، فشعرتُ كالفتاة الصغيرة المُعاقَبة. ركضتُ إلى بيتي لأبكي بقوّة، لأنّني لَم أعرِف كيف أواجِه التي دمّرَت أجمَل أيّام حياتي، وكان مِن الواضح أنّ تأثيرها عليّ لا يزال قويًّا. دخلَتُ فراشي وسحَبتُ الغطاء فوق رأسي، كما كنتُ أفعَل في صِغَري حين كنتُ مُستاءة أو حزينة، وعُدتُ بالذاكرة إلى أيّام المدرسة، وعادَت إليّ المشاعِر نفسها وكأنّني أعيشُها مِن جديد.

رجِعَ ولَدايَ مِن المدرسة ومِن ثمّ زوجي مِن عمَله، والكلّ لاحَظَ مزاجي السيّء بالرغم مِن مُحاولتي إخفاء غضَبي وحزني. وحين رحنا إلى النوم، سألَني زوجي مِمّا أشكو، فأخبرتُه عن لقائي مع مُديرتي القديمة، فتعجّبَ مِن مدى تأثّري بها بعد مرور سنوات كثيرة. إلا أنّه لَم يكن يعلَم ما عانَيتُ منها، فبدأتُ أقصُّ له أحداث طفولة ومُراهقة اتّسمَت بالتنمّر والاذلال:

 

ـ حين دخلتُ تلك المدرسة شعرتُ بأنّني غريبة، فكان كلّ التلاميذ يعرفون بعضهم وكبروا سويًّا منذ صفّ الحضانة. أمّا بالنسبة لي، فإن انتقالي وأهلي إلى مدينة جديدة وحَيّ جديد كان كافيًا لأن أشعرُ بالقلَق، فكَم بالأحرى إلى مدرسة جديدة! لكنّ مُديرة المدرسة، الآنسة مُنى، أكّدَت لأهلي أنّها ستفعل جهدها شخصيًّا لإنجاح اندماجي في المؤسّسة وبين رفاقي، فاطمأنّ بالهما. أنا الأُخرى صدّقتُ أنّ تلك المسؤولة التربويّة ستقومُ بواجباتها، لكنّها فعلَت العكس تمامًا. فكما فهِمتُ لاحقًّا حين صرتُ في الجامعة وبدأتُ أدرس القانون، يكون الجاني في بحث دائم عن ضحيّة وغالبًا ما تكون ضعيفة. وضُعفي آنذاك كان سببه سنّي طبعًا وثقة أهلي بالمُديرة ومِن مركزها. للحقيقة، لَم تكن لدَيّ أيّ فرصة للإفلات منها. فبعد دخولي المدرسة بفترة قصيرة، ركّزَت الآنسة مُنى عليّ خصّيصًا بِجَلبي يوميًّا إلى مكتبها بعد الدوام لإعطائي دروس تقوية، كما أسمَتها. وقد فرِحَ أهلي كثيرًا وقبِلا أن أبقى في المدرسة لمدّة ساعتَين إضافيّتَين. أنا أيضًا سعِدتُ إذ خُيّل لي أنّني سألحَق بمستوى رفاقي، لأنّ تلك المدرسة كانت أعلى مستوىً مِن التي جئتُ منها، وأنّ رفاقي لن يعتبروني غريبة عنهم بعد ذلك. لكن حين رأيتُ عصا الخَيزران في يَد الآنسة مُنى، فهِمتُ أنّ تلك الدروس لن تكون كما تصوّرتُها أبدًا. فالجدير بالذكر أنّ أيًّا مِن أبي أو أمّي لَم يستعمِل معي العنف الجسديّ أو حتّى المعنويّ، أوّلاً لأنّهما كانا مُتوازنَين نفسيًّا، وثانيًّا لأنّني كنتُ فتاة هادئة وأفعلُ ما عليّ فعله مِن دون تهديد أو ترهيب. لكنّ المُديرة كانت مليئة بالعقَد النفسيّة، وصبَّت عليّ كلّ حقدها وامتعاضها عليّ... وبدأ عذابي.

تعرّضتُ للتعنيف مجّانًا، أيّ مِن دون سبب، لكن بطريقة خفيّة جدًّا. فالآنسة مُنى لَم تستعمِل عصاها، بعد أن أدركَت أنّ ذلك سيتركُ آثارًا على جسَدي وأنّ أمرها سيُفضَح حتمًا. لذلك هي فضّلَت شدّ شعري وشَمط أذنَي، واستعمال المسطرة الخشبيّة على أطراف أصابعي. وسرعان ما صرتُ أصرخُ قَبل أن تقترِب منّي، لأنّني بتُّ أعلَم مدى الألَم الذي ينتظرُني. إضافة إلى ذلك، كانت تلك الشرّيرة تحتجزُني في خزانتها الكبيرة والمُظلِمة لساعة كاملة لو أنّني أخطأتُ التصرّف معها. وسرعان ما أصبحتُ كالدمية لدَيها، أُنفِّذُ كلّ ما تطلبه منّي مِن دون تردّد. وبالطبع هي هدّدَتني بإيذائي بشكل فظيع: الرسوب إن أخبرتُ أيًّا كان عن الذي كان يجري خلف أبواب مكتبها. وحدهم زملائي فهِموا ما يجري، لأنّ فتيات وصبيان آخَرين مرّوا قَبلي إلى مكتبها ورأيتُ في عيونهم الشفقة والآسف. والشيء الوحيد الإيجابيّ كان أنّني كسَبتُ الأصدقاء والمُحبّين.

بالنسبة لعلاماتي المدرسيّة، كانت كلّها وهميّة، إذ أنّ المُديرة كانت تِزوِّرُها ليقول والدايَ إنّ دروس التقوية تُعطي نتيجة جيّدة. لَم تتعجَّب المُدرّسات كثيرًا مِن الأمر، فكان قد سبَقَ أن فعلَت المُديرة الشيء نفسه مع تلاميذ غيري، واعتَدنَ ألا تُناقِشنَ قرارات الآنسة مُنى.

مرَّت السنوات وبتُّ صبيّة مكسورة تمامًا، وغير قادرة على إيقاف ما يحصل بل قبِلتُ به وكأنّه أمر محتوم لا مفَرّ منه. وصلتُ أخيرًا للسنة الأخيرة، وفِكرة تَرك ذلك المكان الرهيب ساعدَتني على تحمّل البغض الذي أفرَغته عليّ المُديرة، بعد أن أدركَت أنّني سأفِلتُ منها. فهي حطّمَت كلّ ما تبقّى لي مِن كرامة وعزّة نفس، وشرحَت لي مُبتسِمة أنّ لا فائدة مِن مواصلة حياتي لأنّني آفة على المُجتمع وأهلي، وأنّ رحيلي عن الدنيا أفضل ما عليّ إنجازه. نعَم، هي عمِلَت على إقناعي بإنهاء حياتي بنفسي، وأعترفُ أنّني، على الأقل لفترة مِن الزمَن، فكّرتُ بالانتحار. كنتُ بالفعل ضعيفة، ألَم أصبَح ضحيّتها بسهولة تامّة، وقبِلتُ التعنيف مِن جانبها والاذلال والتحقير؟ هي كانت على حقّ، أنا بالفعل صبيّة فاشِلة. إلا أنّ السنة الدراسيّة انتهَت قَبل أن تستطيع المُديرة إقناعي بالذي في بالها، فنفَدتُ أخيرًا منها. للحقيقة، دخولي الجامعة هو الذي أنقذَني، فبالرغم مِن شخصيّتي المُحطّمة، شعرتُ بالحريّة التي لَم أذِق طعمها إطلاقًا، لا في البيت ولا في المدرسة. في الجامعة كنتُ نفسي، كنتُ مسموعة ومرئيّة وكنتُ قادِرة على بناء نفسي بِصمت. فالجدير بالذكر أنّني كبَتُّ سِرّ تعذيب المُديرة لي لسنوات طويلة، ولَم يعرِف أحد مِن أهلي أو مُحيطي أنّني مُدمَّرة، بل خالوني فتاة سعيدة ومُتّزِنة. لقد مثَّلتُ ذلك الدور ببراعة، ربّما لأُقنِعَ نفسي أنّني بخير.

في الجامعة صارَ لي أصدقاء إناث وذكور ومِن كلّ المناطق، فأعطاني ذلك غنىً في علاقاتي، واتّضَحَ لي أنّني إنسانة تجذبُ إليها الناس، الأمر الذي لَم أكن أتصوّره مُمكنًا. درستُ الحقوق، لأنّني أرَدتُ أن أُعطيَ صوتًا للذين مثلي تمَّ إخراسهم. وعلى مرّ سنوات الدراسة، بدأتُ أستعيد شخصيّتي التي دهسَتها الآنسة مُنى. لَم أُخبِر أيًّا مِن زملائي في الكلّيّة عن عذابي، فلَم أرِد أن يرَوني ضحيّة. وعندما تخرّجتُ ووجدتُ عمَلاً، إلتقَيتُ بكَ يا زوجي العزيز وصارَ لدَينا ولدان. لكنّ اليوم، حين رأيتُ تلك الأفعى، عدتُ بلحظة واحدة سنوات إلى الوراء، وشعرتُ وكأنّ لا شيء سيمحو عذابي مهما فعلتُ أو أنجَزتُ. فالمُديرة على ما يبدو لها وطأة لن يمحوها دَهرٌ بكامله. نعم، ذهَبَ كلّ الذي فعلتُه سدىً! الآن وأنا أُكلّمُكَ جسمي يرتجِفُ مِن الخوف والامتعاض.

 

عانقَني زوجي بقوّة وبكيتُ على كتفه. بكيتُ كثيرًا ثمّ خلَدنا للنوم، نوم مليء بالأحلام المُزعِجة. متى سأتخلّص مِن الآنسة مُنى؟!؟

في اليوم التالي قال لي زوجي إنّ عليّ رؤية طبيب نفسيّ ليُساعدَني على القبول والنسيان، لكنّني رفضتُ بقوّة وندِمتُ أنّني أطلعتُه على عذابي ومُخاوفي. فهو أوّل إنسان يعرفُ تمامًا ما حصَلَ لي، وها هو يُعاملني كالمجنونة!

بعد ذلك لَم أذكُر أمامه موضوع المُديرة، وهو لَم يطلُب منّي رؤية مُعالِج نفسيّ. إنتهى الموضوع... أو لا؟؟؟

فبعد حوالي الشهر قال لي زوجي:

 

ـ يُمنى، لدَينا ضيفة الليلة.

 

ـ ضيفة؟ مَن تكون؟!؟

 

ـ الآنسة مُنى.

 

ـ هل فقدتَ عقلكَ؟!؟ تأتي بها إلى هنا بعد الذي أخبرتُكَ عنها؟ هل تُريدُ تحطيمي؟ خلتُكَ تُحبّني، وها أنتَ تستعمِل ضدّي أسراري ومُخاوفي القديمة! لن أستقبلها في بيتي طالما أنا على قَيد الحياة!

 

ـ ستأتي الآنسة مُنى وحسب. لقد بحثتُ عنها في كلّ مكان ووجدتُها، وهي فرِحَت كثيرًا لدى معرفتها بأنّها قادِمة إلى هنا. إسمَعي، أفعلُ ذلك لأنّني أحبُّكِ، فعليكِ أن تواجهيها أخيرًا. أنتِ لستِ الفتاة الصغيرة التي وقعَت ضحيّتها، بل مُحامية بارِعة وزوجة وأمّ. إستقبليها وأريها مَن أنتِ حقًّا. سأكون معكِ وأدعمُكِ، وأقسمُ لكِ أنّني لن أدعَها تتمادى معكِ. ألا تثقين بي؟

 

دارَ بيننا جدَل طويل ومؤلم مليء بالصراخ والبكاء، وقبِلتُ أخيرًا عرض زوجي. قضَيتُ باقي اليوم بالخوف والبكاء وألَم حادّ في معدتي. كنتُ أعلَم ضمنيًّا أنّ زوجي على حقّ، فلا يجب أن أحمِل معي تلك الذكريات حتّى مماتي، وأكبتُها على أمَل أن تختفي. فالطريقة الوحيدة لأتخلّص منها هي مواجهة جلادتي.

حين سمعتُ جرَس الباب، كدتُ أقَع على الأرض إلا أنّ زوجي أمسَكَ بذراعي وقادَني إلى الباب حيث وقفَت الآنسة مُنى مُبتسِمة، فهي كانت ستُكمِل ما بدأَته، وهي فرصة لَم تتصوّرها مُمكِنة. جلَسنا سويًّا في الصالون ثمّ قال زوجي لي:

 

ـ يُمنى، أنا سعيد أن أرى أخيرًا مُديرتكِ القديمة... لَم أخَلها هكذا... لكنّني أراها عجوزًا هزيلة البنية، أليس كذلك يا حبيبتي؟

 

ـ أنتَ على حقّ، لَم أنتبِه للأمر، هي بالفعل كبيرة في السنّ وضعيفة البنية.

 

لَم يُعجِب كلامنا المُديرة التي أبدَت استنكارها:

 

ـ أنا لستُ كذلك! كيف تقولين عنّي ذلك؟!؟ أنا مُديرتكِ وعليكِ احترامي وإلا...!

 

قالَ لي زوجي بسرعة:

 

ـ هي لَم تعُد مُديرتكِ، أليس كذلك يا حبيبتي؟

 

ـ بالفعل، هي ليست مُديرتي.

 

ـ أيّ أنّ لا سلطة لدَيها عليكِ.

 

ـ تمامًا، فأنا مُحامية اليوم ولَم أعُد تلميذة في تلك المدرسة! آه... بدأتُ أرى الصورة مِن زاوية أخرى!

 

بدأَت الآنسة مُنى بالصراخ والتهديد، سائلة لِما جئنا بها إلى بيتنا، هل لإهانتها والتقليل مِن احترامها؟ تابَعَ زوجي قائلاً لي:

 

ـ أترَين يا حبيبتي كَم مِن السهل زعزعة ثقتها حين تكون خارج نطاقها؟ هي ليست سوى سيّدة كبيرة في السنّ ومُتقاعِدة. هي تسكنُ، كمَا علِمتُ، لوحدها في شقّة صغيرة مع هرّة أيضًا عجوز. أنظري إليها جيّدًا، فأنا مُتأكِّد مِن أنّها لن تجرؤ على القدوم إلى هنا بعد أن رأيناها كما هي بالفعل وليس كما أبقَيتِها في ذاكرتكِ.

 

حاولَت الآنِسة مُنى مقاطعتنا، لكنّني كنتِ مشغولة بتحليل تلك المُعطيات الجديدة، فقلتُ عاليًا:

 

ـ يا إلهي! لَم أتصوّر أنّ الأمر سيكون بهذه السهولة... شكرًا حبيبي... لنتخلّص منها الآن!

 

أخَذَ زوجي المُديرة القديمة مِن ذراعها، وقادَها بالقوّة إلى خارج البيت وأقفَلَ الباب وراءها بالمُفتاح، ثمّ عادَ إليّ قائلاً:

 

- ما رأيكِ لو نذهب إلى المطعم ونأكل كلّ ما لدَيهم على القائمة؟

 

بالفعل لن ننسى أو نشفى إلا بعد أن ننظُر إلى جلادنا أو مشاكلنا بعَين الحاضر وليس الماضي، فنحن لسنا الأشخاص نفسهم بل كبرنا وحقَّقنا وأنجَزنا. إنّ علينا أن نواجِه يومًا شياطيننا لنقضي عليهم نهائيًّا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button