زهرة مُبارَكة

إتّسمَت حياتي بالنجاح مذ بدأتُ مسيرَتي المهنيّة. فكنتُ منذ صغَري فتًى ذكيًّا ومُتفوّقًّا على أولاد سنّي، وتنبّأ والدايَ بأنّني سأكون إنسانًا معروفًا حين أكبر، ولَم يكونا على خطأ، لكنّ باقي أخوَتي كانوا محدوديّ الذكاء وكأنّني أخذتُ منهم كلّ الذكاء الذي كان مُخصّصًا لهم، وذلك خلَقَ إمتعاضًا تجاهي كبَر مع مرور الوقت. لَم يهمّني الأمر، فلماذا آبَه لرأي هؤلاء القَوم؟

لَم أواجِه أيّة صعوبة بصعود سلّم الترقيات في مجال عمَلي، حتّى صرتُ مُدير الشركة بعد أن وجَدَ مجلِس الإدارة أنّ لا أحَد سيديرُ الأعمال بطريقة أفضَل منّي. أمّا على الصعيد العاطفيّ، فقد كنتُ مُحاطًا بأجمَل النساء اللواتي شعَرنَ بقوّة شخصيّتي وقدرتي على الاهتمام بهنّ ماليًّا، لكن ما مِن واحدة منهنّ حصلَت على قلبي. للحقيقة، لَم أعرِف ما هو الحبّ وكيف أحبّ، مُعتبرًا أنّ المشاعر ليست سوى مضيَعة للوقت. للحقيقة، لَم أؤمِن إلا بما هو ملموس ويُباع ويُشترى. أمّا بالنسبة لحياتي العائليّة، فكنتُ قد ابتعدَتُ عن أهلي بعد أن أدركتُ أنّ لا منفعة منهم، واكتفيتُ بمساعدتُهم مادّيًّا، أليس هذا ما يطلبه الأهل عادةً؟

مرَّت السنوات بسرعة كما يحصل عندما يكون المرء سعيدًا، فكنتُ بالفعل أشعرُ وكأنّ الحياة تفعل جهدها لإسعادي بشتّى الطرق. لَم أتزوّج، فلماذا أرتبط بإمرأة واحدة حين يكون بإمكاني الحصول على التي أريدُها حينما أشاء؟ لَم يعنِ لي أن أصبَحَ أبًا، فالأولاد إستثمار فاشِل. ثمّ ماتَ والدايَ الواحد تلوَ الآخَر وحزنتُ على تلك الحقبة مِن حياتي التي اختفَت معهما مِن دون عودة. رأيتُ أخوَتي حين دفنّا والِدنا ومِن ثمّ والِدتنا، إلا أنّنا لَم نتبادَل سوى بضع كلمات، فلَم يكن هناك مِن شيء نتكلّم عنه. بعد ذلك، نسيتُ أنّ لي أخوة وهم نسوا أنّني أخوهم.

كنتُ قد بلغتُ الخمسين مِن عمري حين وقَعَ عليّ الخبَر كالصاعِقة: كنتُ مُصابًا بداء خطير. ماذا؟!؟ كيف يحصلُ ذلك لي؟ ألَم أكن الولَد المُدلّل والمحظوظ لدى الحياة؟ كان الأطبّاء حتمًا على خطأ! لِذا رحتُ إلى أخصّائيّين عديدين وكلّهم أكّدوا لي الشيء نفسه: كنتُ مُصابًا بداء الباركنسون! فمنذ فترة، شعرتُ بتصلّب في مفاصلي ورجفة في شفاهي. ردَدتُ الأمر إلى الارهاق، فكنتُ أعمَل على ملفٍ مهمّ جدًّا ولَم أنَم جيّدًا مؤخّرًا. لكنّني لَم أتصوّر أبدًا أنّني سأُصاب بالباركنسون! كنتُ قد سمعتُ عن ذلك الداء ورأيتُ بعض الأشخاص يهتزّون ويجدون صعوبة بالتحرّك، لكنّني لَم أتصوّر أبدًا أنّني سأكون يومًا مثلهم!

رحتُ أختبئ في مكان لا يعرفه أحَد ريثما أنتهي مِن العلاج، غير مدرك أنّني لن أشفى منه. ما كان يهمّني هو ألا يراني أحَد بهذه الحالة، فلَم يولَد بعد الذي سيسخَر منّي أو يشفَق عليّ! سأري الكون بأسره مَن أنا وكيف أنتصرتُ على المرَض!

لكنّ العلاج لَم يشفِني إلا بصورة مؤقّتة، فذلك المرَض اللعين يهدأ ثمّ يعودُ وكأنّه لا ينوي ترك صاحبه إلّا حين يهلك.

البيت الذي استأجرتُه كان يقَع في منطقة جبليّة هادئة ومليئة بالأشجار والورود البرّيّة. للحقيقة، لَم تكن تهمّني الطبيعة بصورة خاصّة، فأنا إبن المدينة، بل ما همّني كان بُعدي عن كلّ مَن بإمكانه التعرّف عليّ. فآخِر شيء أردتُه هو شماتة مَن هم دوني فكريًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. على كلّ الأحوال، كنتُ أجدُ الكلّ دون مُستوايَ.

وبالرغم مِن الصعوبة التي كنتُ أجدُها في التحرّك، كنتُ أجوبُ القرية المُحيطة بي سيرًا على الأقدام، وتعودّتُ أن أستريحَ في مقهى صغير حيث كنتُ أتحجّج بشرب القهوة والتفرّج على المناظِر الخلابة. إلا أنّ إبنة صاحِب المقهى قالَت لي يومًا مِن دون مُقدِّمات:

 

ـ كانت جدّتي تُعاني مِن الداء نفسه... رحمها الله.

 

ـ أيّ داء تتكلّمين عنه؟!؟ أنا بألف خير! أنا فقط مُتعَب مِن السَير.

 

ـ أجل، أجل... وأنا ملكة إنكليترا!

 

ـ لِماذا التهكّم يا أيّتها الصبيّة؟!؟

 

ـ قُل ما تشاء يا أيّها المُتعجرِف! فلقد عامَلتُ جدّتي بنفسي إلى حين فارقَت الحياة. وإن أنتَ استطَعتَ تضليل الناس، فلن تستطيع تضليلي.

 

ـ ماذا تُريدين منّي؟!؟ دعيني بسلام!

 

ـ لا أُريدُ منكَ شيئًا والحمد لله! لدَيّ كلّ شيء، أهل مُحبّون وأصدقاء يغارون على مصلحتي وعمَل أشاركُ فيه أبي. أنا جميلة ولدَيّ علاقة أيضًا جميلة مع إبن الجزّار وسنتزوّج قريبًا ونُنجِب البنين والبنات!

 

ـ وهل تعتقدين أنّ كلّ ما عدَّدتِه لي هو بالفعل إنجاز؟ أنا الذي أنجَزتُ وحقَّقتُ وحصَدتُ!

 

ـ وبالرغم مِن ذلك أنتَ مريض ووحيد. لا أرى أحدًا معكَ... ستموت لوحدكَ.

 

ـ أصمتي وعودي إلى عملكِ أيّتها الشيطانة الصغيرة! سأشتكي عليكِ عند أبيكِ.

 

ـ أبي يُحبّني أكثر مِن أيّ إنسان في العالم ولن يهمّه رأيكَ بي!

 

ـ دعيني وشأني! يا إلهي، لن أرتاحَ مِن الناس في أيّ مكان؟!؟ هل يجدرُ بي الذهاب إلى القمر لأكون بسلام؟

 

ـ أدعو مِن الله أن يشفيكَ... ليس مِن مرضكَ بل مِن تعجرفكَ! الوداع!

 

وعادَت زهرة إلى داخل المقهى بينما كنتُ أغلي مِن الغضب! ووعَدتُ نفسي بألا أعود إلى ذلك المقهى ولَم أتصوّر أبدًا أنّ زهرة ستعلبُ دورًا مُهمًّا جدًّا في حياتي بل ستقلِبها رأسًا على عقَب.

فبعد أيّام قليلة إشتدَّت العوارض عليّ، ولَم أعُد قادرًا على النهوض مِن فراشي أو القيام بأيّ شيء. تذكّرتُ كيف أنّ تلك الصبيّة اهتمّت بجدّتها، فوجدتُ أنّها الانسانة الوحيدة القادرة على مُساعدتي، بالرغم مِن طباعها الشرِسة. لِذا اتّصلتُ بأبيها عارضًا دفع مبلغ طائل له ولإبنته إن سمَحَ لها بمساعدتي للقيام بالأعمال المنزليّة والطهو وبنَقلي عند الحاجة مِن مكان لآخَر. أمّا بالنسبة للباقي، فقد إقترحَت أن يقوم بذلك خطيبها بعد إقفال محلّه. إقتنَعَ الرجُل أخيرًا لكن بتحفّظ كبير، فاتّفقنا أن نقوم بفترة تجريبيّة. على كلّ الأحوال، حالتي لَم تكن تسمَح لي باستغلال صبيّة بكامل قواها.

بدأَت زهرة تأتي يوميًّا لترتيب وتنظيف البيت وتحضير مأكولات لذيذة، لكنّها كانت أيضًا تُساعدني على التنقّل مِن غرفة إلى أخرى أو الأكل والشرب بعد أن أصابَتني رجفة قويّة أيضًا. وكانت تدورُ بيننا أحاديث كثيرة، ليس كما اعتدتُ أن أسمَع خلال مسيرتي المهنيّة أو الاجتماعيّة والشخصيّة، بل كانت أخبارًا بسيطة ومُسلّية، وشيئًا يُشبه فلسفة حياة لَم أسمَع بها مِن قَبل أو أفكّر فيها. فهؤلاء الناس كانوا يمتلكون حكمة بديهيّة شبيهة بمزيج مِن العمق والبساطة، تتعلّق بالحياة اليوميّة بعيدًا عن التعقيدات ومليئة بالإيمان غير المشروط. والأهمّ عندهم كانت العلاقات العائليّة ومِن ثمّ النسيج القرويّ المؤلّف مِن الجيرة والطبيعة. فالكلّ كان جسمًا واحدًا لا يمكن تجزئته وإلا ضاعَ وتبعثَر. وللأسف لَم أكن أملكُ ما حكَت لي عنه، وحتّى ذلك الحين لَم أشعُر بوجوده أو غيابه. فهي قالَت لي يومًا:

 

ـ ستموت.

 

ـ شكرًا على هذا الكلام الجميل والمُشجّع!

 

ـ ... كما سنموت جميعًا. ولن نأخذ معنا شيئًا.

 

ـ أعلمُ ذلك، شكرًا.

 

ـ لكن ما يهمّ هو ما فعلناه أثناء وجودنا هنا.

 

ـ لقد فعلتُ الكثير!

 

ـ لا أظنّ ذلك وإلا لَما كنتَ وحيدًا.

 

ـ الناس ليسوا أوفياء.

 

ـ بل أنتَ السبب... لو كنتَ مُحِبًّا لكان مِن حولكَ أهل وعائلة وأصدقاء.

 

ـ لستُ بحاجة إلى أحَد.

 

ـ لكنّكَ طالبتَ بي.

 

ـ أجل، أنتِ تعمَلين لدَيّ مُقابل المال.

 

ـ وهل تظنّ أنّ المال هو سبب وجودي؟ فأبي يملكُ أراضٍ والبيت والمقهى، أمّا خطيبي فهو يعمَل مع أبيه في المحلّ ولدَيه رؤوس مواشٍ عديدة. أيّ أن ما لدَينا يكفينا جميعًا نحن وأولادنا القادمين.

 

ـ لماذا أنتِ هنا إذًا؟

 

ـ رأيتُ الحزن والوحدة والخوف في عَينَيكَ عندما كنتَ تأتي إلى المقهى. فهذه الأمور صعبة الاخفاء مهما حاوَلَ المرء. وأبي أقنعَني بالمجيء إلى هنا، فأنا لَم أكن أبدًا أستلطفُكَ. هو قال لي إنّ علينا ألا نتركَكَ تموت لوحدكَ، فهذه ليست مِن شيَم عائلتنا وقريَتنا.

 

ـ الموت مُجدّدًا! ما بكم أيّها القوم؟!؟

 

ـ الموت هو جزء مِن الحياة، وإن كان علينا جميعًا أن نموت، فلنفعل ذلك ببال مُرتاح وشعور بالأمان وشيء مِن الحب.

 

ـ الحبّ... كلمة فارِغة، فلَم أجِده عند أيّ انسان.

 

ـ لأنّكَ لَم تُحِبّ أحدًا! فهذا الشعور هو أسمى ما يكون! أليس جميلاً أن نُحِبّ ونُحَبّ؟

 

ـ أراكِ تبتسمين، هل تُفكّرين بخطيبكِ؟

 

ـ أجل، وبجدّتي رحمها الله وبأهلي وناسي. أحبُّهم جميعًا وهم يُحبّوني وكلّنا نُحبّ الله!

 

ـ كان الله كريمًا معي، فهو أعطاني كلّ ما أردتُه.

 

ـ أعطاكَ كلّ ما طلبتَه لأنّكَ طلبتَه وليس لأنّ ذلك خَير لكَ، فربّنا أعطانا حرّيّة التصرّف بما لدَينا. ماذا فعلَتَ بتلك الخيرات؟

 

ـ أنتِ مُزعِجة للغاية، أتعلمين ذلك؟ أنا لا أدفعُ لكِ لتعظيني مِن الصباح حتّى المساء! أنا رجُل مريض! قومي بعملكِ وحسب!

 

إبتسمَت زهرة لأنّها علِمَت أنّ كلامها صائب، وأنّني سأٌفكِّر بكلّ كلمة تفوّهَت بها. لَم أتخيّل أنّ صبيّة في الثامنة عشرة مِن عمرها تملك حكمة عجوز عاشَت الحياة بطولها وعرضها. كَم أنّ خطيبها محظوظ بها! آه، لو إلتقَيتُ بفتاة مثلها عندما كنتُ في شبابي! ثمّ عدتُ وأدركتُ أنّني كنتُ لأُبعِد عنّي كلّ إمرأة لا تُمثِّلُ لي ما كنتُ أبحثُ عنه في علاقاتي، أيّ المُتعة المؤقّتة والجمال الجسديّ وحسب. وبينما اعتقدتُ طوال حياتي أنّني رجُل ناجِح، أدركتُ أنّني لستُ سوى إنسان فارغ وتعيس ووحيد.

نظرتُ إلى السماء، وشكرتُ ربّي لأنّني اخترتُ تلك القرية بالذات وأنّني قد لا أموت لوحدي، خاصّة أنّ زهرة وخطيبها وعائلتها والقرية بأسرها لَم يكونوا مُستعدّين للتخلّي عنّي ولو للحظة واحدة. فبالنسبة لهم كنتُ النعجة الضائعة والضعيفة التي يجب الاعتناء بها والحفاظ على سلامتها. فقد إلتفّوا مِن حولي خاصّة خلال نوبات الألَم التي كنتُ أُصابُ بها بين الفترة والأخرى. فداء الباركنسون مرض لعين، يُريحُكَ لبرهة ليعود بقوّة. فبعد أن اطمأنّ بال أب زهرة مِن جانبي، جنّدَ الجميع لخدمتي، وبدأ أناس لا أعرفُهم بزيارتي حاملين الخضار والفواكة والدواجن. وأخذوني على كرسيّ مُتحرّك كان ملك أحد الأجداد المُتوفّين، وداروا بي مِن بيت لآخَر وأخذوني في نزهات طويلة في الطبيعة الرائعة التي كانت تُحيطُ بي. إعتبَروني، أنا الغريب المُتعجرِف، وكأنّني واحد منهم، فكانوا يعرفون أنّ يومًا سيأتي وأرحَل مِن هذه الدنيا، وأنّهم سيفحصون ضميرهم وسيسألُهم الله إن كانوا قد قاموا بواجباتهم حيال أحَد إبنائه. وهذا الأمر لَم أفهمه جيّدًا إلا عندما شعرتُ بالحبّ وذقتُ طعمه.

أنا اليوم أسعَد الناس بالرغم مِن صحّتي المُتأرجِحة، فلدَيّ عائلة كبيرة وإله يُحبُّني كما أنا، خلافًا للناس الذين التقَيتُ بهم أثناء حياتي والذين أحبّوني حين كنتُ شابًّا نشيطًا وأصرفُ عليهم المال. حاولتُ الإتّصال باخوَتي، إلا أنّهم لَم يُصدّقوا أنّني بالفعل أُريدُهم في حياتي، ولا أستطيع لومهم، فأنا لا أُصدّقُ بعد كيف تغيَّرتُ.

لَم أعُد أفكِّر بالموت أو أخاف منه، فلكلّ شيء نهاية. وما أجمَل نهايتي حيث أنا! لن أشكر هؤلاء الناس كفاية، فهم خلقوا منّي إنسانًا جديدًا فقط بحبّهم وقيَمَهم النبيلة. إنّهم بالنسبة لي، ملائكة وضعَهم الله على هذه الأرض لنعرفَ قيمة الحياة الحقيقيّة.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button