لَم أتوقَّع أبدًا أن أتعرَّف على فتاة أحلامي بواسطة حبيبتي السابِقة نجاة! فمنذ سنوات، كنتُ أواعِدُ تلك الأخيرة حين كنتُ في الغربة، بعد أن تعرّفتُ عليها في مكان عمَلي. وقد تقرَّبنا مِن بعضنا بسبب جنسيّتنا، فكلانا مِن البلَد نفسه. ومع الوقت، نما في قلبَينا شعور فسَّرناه على أنّه حبّ، وبدأَت علاقتُنا. لكن مع الوقت، وبعد أن انتقلَت نجاة للعَيش معي، وجَدنا أنّنا لَم نولَد لبعضنا، بل كانت مُجرَّد نزوة، فاكتشَفنا أنّنا لا نُحِبّ بعضنا، بل أنّ الغربة هي التي جمعَت بيننا. إفترَقنا بطريقة حضاريّة، وبعد فترة قصيرة، عدتُ إلى البلَد لأنّني وجَدتُ وظيفة بالفعل تُناسبُني مِن كل النواحي. بقيتُ على تواصل مع نجاة وصِرنا صديقَين بكلّ ما للكلمة مِن معنى. للحقيقة كنتُ سعيدًا لأنّنا إستطَعنا الانفصال بهذه الطريقة السلِسة والبقاء على تواصلٍ صادِق بالفعل. ولكثرة حرص تلك الصبيّة عليّ، هي وجدَت أنّني قد أتّفِق بشكل كبير مع ابنة عمّها سلوى، خاصّة أنّ هذه الأخيرة لَم تكن أبدًا على عِلم بعلاقتنا السابِقة، فأبقَينا الموضوع سرّيًّا لاعتبارات لها علاقة بتقاليدنا، ولأنّنا لَم نكن واثقَين مِن أنّنا سنتزوّج في آخِر المطاف.
ولَم تكن نجاة مُخطئة، فحين هي أتَت إلى البلَد خلال فرصة العيد وعرّفَتني على سلوى، شعَرتُ بما لَم أشعُر به مِن قَبل تجاه أيّ فتاة. مِن جانبها، أُعجِبَت بي سلوى كثيرًا، فبدأنا نتواعد برفقة نجاة في البدء، ثمّ لوحدنا. وبقيَت "صديقتي" تُتابِع المُستجدّات عن بُعد وتُعطيني التعليمات لإنجاح تلك العلاقة، فهي كانت تعرفُ جيّدًا ما تُحبّه أو لا تُحبّه ابنة عمّها.
وهكذا، تمَّت الخطوبة وبدأنا نُفكِّر ونُخطِّط للزواج بفرَح لا يوصَف. لكن في أحَد الأيّام، قالَت لي خطيبتي بِنبرة جدّيّة:
ـ قَبل أن نتزوّج، أريدُ شيئًا منكَ، شيئًا هامًّا للغاية وخاصّة بالنسبة لي.
ـ أطلبي ما تشائين!
ـ أُريدُ أن تقولَ لي إن كنتَ قد كذبتَ عليّ يومًا أو أخفَيتَ أمرًا عنّي... الموضوع بغاية الأهمّيّة، فلدَيّ مُشكلة في ما يختصّ بالثقة، فأنتَ تعلَم أنّ خطيبي القديم قد كذِبَ عليّ وخانَني.
ـ أعلمُ ذلك وأنا آسِف لِما مرَّرتِ به يا حبيبتي. لكن إعلَمي أنّني لَم أخُنكِ ولن أخونكِ أبدًا!
ـ حسنًا... وهل أخفَيتَ عنّي أمرًا عليّ معرفته؟
ـ بالطبع لا! فأنا شفّاف كالزجاج!
كنتُ صادِقًا بما قلتُه، لكن لحظة خرجَت تلك الجُملة الأخيرة مِن فَمي، تذكّرتُ نجاة وعلاقتنا السرّيّة ولَم أعُد قادِرًا على التراجع. على كلّ الأحوّال، كان الأمر مُعقَّدًا للغاية وفاتَ الأوان لتعرِف خطيبتي بعلاقتي مع ابنة عمّها، واستيعاب الموضوع كما هو، فكان مِن المُحتمَل جدًّا أن تُسيء الفَهم وتأخذ موقِفًا سلبيًّا جدًّا منّي. لكن عُدتُ وتذكّرتُ أنّ لا أحَدًا على الاطلاق على عِلم بتلك العلاقة، فلا خوف مِن المضيّ بالإدّعاء بأنّني لَم أخفِ شيئًا عن سلوى. قبّلَتني هذه الأخيرة واطمأنَّ بالها حيالي.
بعد دقائق، أسرَعتُ بإرسال تنبيه لنجاة على هاتفها بألّا تقول شيئًا على الاطلاق لسلوى عنّي وعنها، وأطلعتُها على الحديث الذي دارَ بيننا. وأكّدَت لي نجاة أنّ لا خوف مِن ناحيتها أبدًا.
تابَعتُ حياتي الهنيئة مع سلوى وأكمَلنا العمَل على تنظيم زواجنا الذي كان سيضمّ عددًا كبيرًا مِن المدعوّين، ونسيتُ بالفعل حواري مع سلوى ومخاوفي. لكن، في تلك الفترة بالذات، بدأتُ أُلاحِظ تغيّرًا في مُعاملة خطيبتي لي، فهي صارَت بارِدة معي وتؤجِّل لقاءاتها بي بحجّج غير مُقنِعة. ردَدتُ الأمر إلى خوف ما مِن الارتباط، فذلك يحصل لبعض الناس، فلَم أسألها مِمّا تشكو. إلّا أنّ الأمر تفاقَم لدرجة أنّني لَم أعُد قادِرًا على رؤية سلوى، وبالكاد كانت تُجيب على اتّصالاتي ورسائلي. عندها قرّرتُ طبعًا سؤالها عمّا يجري. وهي قالَت:
ـ لقد رأيتُ الرسائل التي تبادلتَها مع نجاة حول سرّيّة علاقتكما.
ـ أنتِ فتحتِ هاتفي؟!؟
ـ أجل، فلا يجب أن يكون بيننا أسرار، أليس كذلك؟ ألَم تجزم لي بأنّكَ لا تخفي عنّي شيئًا؟
ـ أجل، لكن...
ـ يوم سألتُكَ إن كنتَ صادِقًا معي، رأيتُ في عَينَيك نظرة إرباك وهَمّ. وبما أنّني لستُ غبيّة، راقبتُكَ ورأيتُكَ حامِلًا هاتفكَ وترسل الرسائل لأحَد ما. لذلك، قرّرتُ التأكّد بنفسي. ألَم تجِد أحَدًا سوى قريبتي لخيانتي معها؟!؟ أيّ صنف مِن الرجال أنتَ؟!؟
ـ أنا لا ولَم أخُنكِ!!! إسمعي، سأخبرُكِ كلّ شيء، وأقسمُ لكِ أنّها الحقيقة!
وروَيتُ لِسلوى القصّة بأكملها وبصدق هذه المرّة. لاحظتُ أنّ خطيبتي لَم تُصدِّقني بشكل كلّيّ، لكنّها حاولَت جهدها لأنّها تُحبُّني. ثمّ قالَت:
ـ حسنًا... سأسألُ نجاة بدورها، وسنرى إن كنتَ تقول الحقيقة.
ـ ألا تصدّقيني؟
ـ بالطبع لا، فأنتَ كذبتَ عليّ في ذلك اليوم، وكسَرتَ الثقة الموجودة في قلبي تجاهكَ. والذي يكذِبُ مرّة، يُعيد الكرّة!
أسِفتُ كثيرًا إلى ما آلَت إليه علاقتنا، فوصَلَ الأمر بخطيبتي إلى التفتيش في هاتفي واتّهامي وعدَم تصديقي. كنتُ المُذنِب الوحيد طبعًا، وخفتُ أن أكون قد دمَّرتُ قصّة حبّ رائعة. أمَلي الوحيد كان أن تُصدِّق سلوى نجاة، ففي آخِر المطاف هما كانتا بنات عمّ، وبينهما إلفة قد تُساعِد على استرجاع ثقة خطيبتي.
إنتظرتُ بفارغ الصبر انتهاء موعِد سلوى ونجاة، لأضمَّ خطيبتي إلى صدري وأقسمُ لها بأنّ حبّي لها صادِق وشريف، فلستُ كاذبًا أو خائنًا، بل أحيانًا إخفاء بعض الأمور يكون أفضل مِن الإفصاح عنها. كنتُ مُخطئًا طبعًا، فالحقيقة تظهرُ دائمًا عاجِلًا أم آجِلًا، وعلى المرء أن يُواجِه تداعيات أفعاله وأقواله. فلَم تعُد إليّ سلوى بعد لقائها بنجاة، بل فسخَت خطوبتنا على الفور وبتُّ كالمجنون أُحاوِل معرفة سبب موقفها هذا.
وبعد مُحاولات لا تُحصى بالاتصال بسلوى، إستطعتُ أخيرًا إقناعها بأن نتكلّم هاتفيًّا معًا. وخلال تلك المُكالمة، علِمتُ أنّ نجاة قالَت لها إنّنا كنّا ولا نزال على علاقة غراميّة لأنّ حبًّا قويّ يربطُنا. لَم أصدِّق أُذنَيّ، فكيف لنجاة أن تفعل ذلك بي؟؟؟ وبالطبع لَم تُصدّقني سلوى على الاطلاق عندما نفِيَتُ الأمر برمّته، بل طلبَت منّي عدَم ازعاجها بعد ذلك الحين.
إتّصلتُ على الفور بنجاة للاستفهام، فكان بالتأكيد هناك سوء تفاهم، إلّا أنّها قالَت لي ببرودة:
ـ وماذا كنتَ تنتظِر؟
ـ أنتِ عرّفتِني على سلوى وساعدتِني على التفكير بالزواج منها!
ـ حسبتُ نفسي تخطََّيتُ ما حصَلَ بيننا وأنّني أستطيع لعِب دور الصديقة.
ـ تخطَّيتِ ماذا؟ فلقد انفصَلتُ عنكِ برضاكِ، فأنتِ الأخرى لَم تشائي مواصلة علاقتنا!
ـ هذا ليس صحيحًا... أنا قلتُ ذلك آنذاك بعد أن شعرتُ بأنّكَ لَم تعُد تُريدني. فكان الأمر واضِحًا كالشمس ولَم أكن أريدُ أن أبدو سخيفة بالبكاء والمُساومة معكَ.
ـ قلتِ إنّكِ أصبحتِ صديقتي، لماذا بدَّلتِ رأيكِ؟ لماذا دمّرتِ خطبتي وزواجي المُقبِل؟
ـ لأنّني استوعَبتُ أخيرًا أنّكَ لهَوتَ بي... إستفَدتَ مِن حبّي لكَ حين كان ذلك مُفيدًا لكَ في الغربة، ثمّ سئِمتَ منّي. فأنتَ لَم تعرض عليّ الزواج، بل ركضتُ تتزوّج مِن أوّل فتاة رأيتَها في البلَد. الحقّ يقَع عليّ أيضًا، فلقد ضحَّيتُ بما هو أغلى لدَيّ مِن أجلكَ، على أمَل أن تُحبَّني ونعيش سويًّا إلى الأبد. لكنّكَ اعتبرتَني علاقة عابِرة وليس أكثر.
ـ لقد أحبَبتُكِ أو بالأحرى ظنَنتُ أنّه حبّ... على كلّ الأحوال، أنا لَم أجبِركِ على شيء، فكان ذلك خياركِ!
ـ صحيح... أنتَ لَم تُجبِرني على شيء... كنتُ واقِعة في الحبّ و...
ـ ماذا سأفعل الآن؟ ساعديني!
ـ لن أساعدكَ على الاطلاق، يا عزيزي، فلَم يُجبرِكَ أحَد على إخفاء الحقيقة عن سلوى، كان ذلك خياركَ!
ـ أرجوكِ، وحدكِ تستطعين إصلاح الأمور!
ـ أعلَمُ ذلك لكنّني لن أفعَل شيئًا مِن أجلكَ بعد الآن. دَعني وشأني ولا تتّصل بي أبدًا!
إنتابَني الغضَب ثمّ الحزن، واستوعَبتُ أخيرًا أنّني كنتُ المُذنِب في خسارة خطيبتي والتي كنتُ أحسِبها صديقتي. فلقد جرَحتُ مشاعر نجاة العميقة تجاهي، وخنتُ ثقة سلوى، لأنّني خلتُ أنّني أستطيع تصليح كلّ شيء ببضع كلمات، وكنتُ مُخطئًا. تعلَّمتُ الدرس جيّدًا لكنّ الثمَن كان غاليًا علينا كلّنا.
حاورته بولا جهشان