تركَني خطيبي

يوم كَتب كتابي، لَم يأتِ مروان خطيبي ولا أبوه ولا مَن كان مِن المُقرَّر أن يُرافِقه. حاوَلنا الاتّصال بمروان، خاصّة أنّ والدي كان غاضِبًا لأقصى درجة، لكنّه لَم يُجِب، بل أقفَلَ خطّه بعد ثاني مُحاولة لي. بكيتُ كثيرًا إذ أنّني خلتُ في البدء أنّ مكروهًا حصَلَ له، لكن فهمتُ أنّه تراجَعَ عن قراره، مِن دون أن أفهَم السبب. بعد حوالي الساعتَين، جاءَتنا مُكالمة مِن عَمّ مروان مفادها أنّ الزواج أُلغِيَ لأنّ العريس غيَّرَ رأيه. غيَرَ رأيه بعد سنتَين مِن خطوبة مليئة بالحبّ؟!؟ قَبل يوم واحِد، أكَّدَ لي عريسي أنّه ينتظرُ بفارغ الصبر أن أصبَحَ زوجته، لِنعيشَ أجمَل قصّة حبّ ونَبني عائلة جميلة!

إنهَرتُ كلّيًّا وأخذوني إلى المشفى حيث مكَثتُ حتّى اليوم التالي، لأعودَ إلى بيت خلتُ أنّني سأتركه قريبًا لأسكنَ في الشقّة الجميلة التي زيّنتُها بنفسي. كيف يفعل مروان ذلك بي، وكيف له أن يتهرَّبَ مِن مواجهتي، فكان ذلك أقَلّ ما بإمكانه فعله بعد العار والخذلان اللذَين أُصِبتُ بهما! عائلتي هي الأخرى كانت مذهولة بعد أن فتَحوا لخطيبي بيتهم وأذرعهم واعتبروه واحِدًا منّا. كنتُ أسمعُهم وهم يتهامسون حول الموضوع، ويُحلِّلون الأسباب التي حمَلَت خطيبي على تَركي في آخِر لحظة. كنتُ أعلَم أنّهم يلقون اللوم عليّ، فكان لا بدّ أنّني اقترَفتُ خطأً جسيمًا ليهربَ منّي. لكنّني بالفعل لَم أقترِف ولا أيّ هفوة، بل كنتُ كعادتي خطيبة مُحِبّة وهادئة. لماذا يُلقون اللوم دائمًا على النساء وكأنّنا حتمًا مُذنبات؟

وهكذا بدأَت الأقاويل تنتشِر مِن حولي، فقرَّرتُ التصرّف ومواجهة ذلك الجبان الذي لَم يأبَه لِسُمعتي، هو نفسه الذي أقسَمَ لي أنّه سيحميني ويصونُني إلى الأبد. فحتّى ذلك الحين، لَم أٌفكِّر بأنّني قادِرة على رؤيته أو سماع صوته مِن كثرة امتعاضي منه.

وهكذا قصدتُه في مقرّ عمَله، وهي شركة تجاريّة زرتُها مرّات عديدة وتعرّفتُ على الموظّفين فيها حين كنتُ لا أزال "الخطيبة المحبوبة".

تفاجأ مروان لأقصى درجة حين رآني واقِفة أمامه في مكتبه، ثمّ غضِبَ منّي قَبل أن ينتبِه إلى ضرورة عدَم احداث فضيحة في الشركة، لِذا هو هدأ وسألَني ماذا أريد. فأجبتُه:

ـ ماذا أُريد؟؟؟ ماذا أُريد برأيكَ؟؟؟

 

ـ لا تبدَئي الآن... أرجوكِ. لقد اتّخذتُ قراري و...

 

ـ لَم آتِ لتغيير رأيكَ، صدّقني، فأنا لَم أعُد أُريدُكَ. إلّا أنّ سُمعتي تشوّهَت بسبب فعلتكَ، فالناس يتكلّمون عنّي ويقولون إنّكَ عدَلتَ عن الزواج لأنّني بلا أخلاق!

 

ـ أنا آسِف... لَم أقصُد أذيّتكِ هكذا.

 

ـ عليكَ إصلاح الوضع، فأنوي إيجاد زوج آخَر يومًا ما! فإن كنتَ تعتقِد أنّني سأبقى عازِبة وغير قادِرة على نسيانكَ، فأنتَ مُخطئ تمامًا!

 

ـ لا داعٍ لهذا الكلام، أرجوكِ. سأقولُ لمَن حولي إنّكِ إنسانة شريفة وإنّ الذنب هو ذنبي، أعدُكِ بذلك. أتركيني وشأني الآن.

ـ سأترُككَ وشأنكَ، إطمئنّ!

 

خرجتُ غاضِبة مِن الشركة، فمشيتُ لوحدي في الشوارع لأهدأ قَبل العودة إلى البيت. لَم أخرج مُنتصِرة مِن ذلك اللقاء، مع أنّني كنتُ الأقوى بموقفي، فشيء في نظرة ونبرة صوت مروان دلَّ على حزن أو تعَب أو استسلام. فقد شعرتُ خلال مُقابلتي معه، أنّ شيئًا مُهمًّا حصَلَ لمروان، شيء لا يُريدُ التكلّم عنه، حتّى لو عنى ذلك فقداني للأبد. لكن كيف لي أن أكتشِف الحقيقة في حين كلّ مَن يمتلكونها قاطعوني وحظَروني. فحتّى أقرَب الناس إلى مروان، هؤلاء الذين أحبّوني واستقبلوني، قطَعوا نهائيًّا علاقتهم بي منذ يوم كَتب الكتاب.

تذكّرتُ فجأة تلك الجدّة اللطيفة التي زرتُها مع مروان في أحَد الأيّام، والتي عاملَتني وكأنّني بالفعل حفيدتها. هي كانت تسكنُ في مكان بعيد كلّ البُعد عن العاصمة، وتعيشُ حياة شبه مُنعزِلة بين حيوانات المزرعة الصغيرة التي كانت تسترزِق منها. لكن هل هي الأخرى قرَّرَت مُقاطعتي أم أنّها لا تزال تحبُّني؟ كان لدَيّ أمَل صغير، وهو أنّ تلك الجدّة لَم تكن تُحِبّ الاختلاط بباقي العائلة، وبالكاد تعرفُ أخبارهم. أخَذتُ صديقة لي ورحنا إلى تلك القرية الصغيرة.

إستقبلَتنا الجدّة بفرَح وقبّلَتني كثيرًا، وسألَت لماذا مروان ليس بصحبتي. عندها استنتَجتُ أنّها لا تعرِف ما حصَلَ لي، فاغتنَمتُ الفرصة لأروي لها أنّه تركَني. رأيتُ الذهول على وجهها ثمّ الغضب ومِن بعده الحزن. عانقَتني العجوز وراحَت على الفور تُقدِّمُ لي قطعة حلوى قائلة: "كُلي، فالحلويات تقوّي القلوب الحزينة". وعدَتني الجدّة بأنّها ستفعل جهدها لمعرفة سبب تصرّف حفيدها، طالبةً منّي الصبر. ثمّ أخذَت رقم هاتفي وودّعَتني وصديقتي، داعية لنا بالوصول إلى البيت سالمتَين.

وبدأ انتظاري، ولا أخفي عنكم أنّني أصِبتُ باليأس مرارًا، وظننتُ أنّ تلك السيّدة الطيّبة تخلََّت عنّي هي الأخرى. وذات يوم، وصلَني اتّصال منها تدعوني للقدوم إليها. أسرعتُ بالذهاب، لكن لوحدي في تلك المرّة لأنّ الجدّة طلبَت منّي ذلك، فالموضوع كان شائكًا للغاية وخاصًّا جدًّا.

قدتُ بسرعة على تلك الطريق المُتعرِّجة صعودًا، ووصلتُ لأجِد العجوز بانتظاري وعلامات الهمّ على وجهها. قالَت إنّها فكّرَت مليًّا إن كان يجِب أن تُكلّمني عن سبب تَرك مروان لي أم لا، لكنّها لَم تتراجَع يومًا عن وعد قطعَته لأحَد. جلَسنا في صالونها العتيق وهي بدأَت بالكلام:

ـ مروان ليس ابن أبيه... بل ابن رجُل آخَر.

 

ـ كيف؟!؟

 

ـ كنّتي، ليُسامحها الله، لَم تكن امرأة وفيّة على ما يبدو، وحفظَت سرّها إلى ما قَبل موعِد كَتب الكتاب بيوم واحِد. لَم يشكّ بها أحَد على الأطلاق، وأظنُّ أنّ الأمر كان هفوة عابِرة، لأنّها لطالما كانت زوجة جيّدة لابني. وفي ذلك اليوم بالذات، دارَ شجار كبير بينها وبين ابني حول موضوع الزفاف والتحضيرات والمال الذي سيُنفَق، فهي أرادَت صرف الكثير على عرس مروان الذي هو ابن وحيد. إلّا أنّ ابني لَم يرَ داعٍ لذلك، خاصّة أنّ أحواله المادّيّة هي عاديّة للغاية. كبُرَ الشجار لدرجة لا توصَف، وتدخَّل مروان لتهدئة الوضع. لكنّ أمّه بقيَت مُصِرّة وتقول: "أريدُ الأفضل لابني، لوحيدي!". فأجابَها ابني: "هذا إبننا نحن الاثنَين، وليس ابنكِ وحدكِ! ولدَيّ ما أقوله في هذا الموضوع، فأنا أبوه!". لكنّها صرخَت به مِن دون أن تنتبِه لكلماتها: "لا! هو ليس ابنكَ! وأنتَ لستَ أباه!". وحين أدركَت ما قالَته، حاولَت أن تتراجَع وأن تُفسِّر ما قالَـه بشتّى الطرق، لكنّ وجهها خانَها، فأدرَكَ ابني أنّها لَم تُخطئ بالكلام، بل قالَت الحقيقة. بدأَت كنّتي بالبكاء والتوسّل ليُسامحها زوجها إلّا أنّ المُصيبة وقعَت، فطردَها على الفور مِن البيت. عندها، علِمَ مروان أنّ حياتهم تغيّرَت إلى الأبد، فماذا سيكون موقفه مِن ذلك الرجُل الذي اعتبرَه أباه منذ فتَحَ عَينَيه على هذه الدنيا؟ وماذا سيقولُ الناس وخاصّة أنتِ وعائلتكِ؟ أنّه ابن حرام؟

 

ـ يا إلهي! إنّها حقًّا كارِثة! لكن لماذا لَم يقُل لي مروان الحقيقة؟

 

ـ هو خافَ أن تحتقرينه وأن يفقدَ مكانته في نظركِ ووسط العائلة التي كنتما ستؤلّفانها لاحقًا. هو حاوَلَ اختلاق عذر مُقنِع للتراجع عن الزواج، لكنّه لَم يجِد شيئًا يُبرِّر فعلته، ففضَّلَ السكوت ومَنع أيّ كان مِن اخباركَ الحقيقة.

 

ـ لا أزال لا أجِد له عذرًا، يا جدّتي.

 

ـ هكذا هم الرجال، يا صغيرتي، كبرياؤهم فوق كلّ اعتبار.

 

ـ وفوق حبّه لي!

 

ـ عليكِ أن تفهميه... تصوّري أنّه اكتشَفَ حقيقة مِن أصعَب الحقائق، فالأمر وكأنّه فقَدَ هويّته فجأة.

 

ـ أنتِ على حق. ما العمَل الآن؟ فبعد معرفتي الحقيقة، لَم أعُد غاضِبة منه أو حاقِدة عليه، وقد...

 

ـ عليكِ أن تكوني صبورة... وصبورة جدًّا. قولي لي، هل تعتقدين أنّكِ قادِرة على الانتظار إلى حين يجِد مروان طريقه إليكِ مِن جديد؟

 

ـ أجل.

 

مرَّت الأسابيع ثمّ الأشهر ولَم تصطلِح الأمور بيني وبين مروان، إذ هو بقيَ يُعاني مِن كَونه ابن علاقة عابِرة، وهذا بالرغم مِن جهود الجدّة التي بقيَت تطلبُ منّي أن أصبر. لكن أصبر إلى متى؟ إلى أن أهدرَ شبابي مِن أجل شابّ لا يعرفُ كيف يُدير الأمور الصعبة التي تحصل له؟ هل هذا هو الرجُل الذي يجِب بناء عائلة معه؟ لا أظنُّ ذلك. فمروان غرِقَ بمصيبته مِن دون أن يُفكِّر بمشاعري وسُمعتي يوم ترَكني مِن دون تفسير، وبقيَ لأشهر يرفض مواجهتي.

لذا قرّرتُ نسيانه، لأنّ ليس عليّ إصلاح ما كسَرَه غيري.

وكنتُ قد اتّخذتُ القرار الصائب، إذ تقدّمَ لي شابّ مُمتاز، وأنا اليوم زوجة وأمّ سعيدة للغاية.

أمّا بالنسبة لمروان، فهو تزوّجَ أيضًا، وعلِمتُ مِن الجدّة التي بقيتُ على تواصل معها، أنّ حفيدها صارَ انسان غاضب وعنيف وأنّ زوجته تُهدِّد بتركه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button