كنتُ مُتحمِّسًا للغاية لتلك السفرة التي كانت مفصليّة لباقي حياتي، إذ أنّني سألتقي أخيرًا بحبيبتي "آنّا" التي تنتظرُني في بلَدها لأتعرَّف إلى ذويها وأخطبها منهم لنتزوّج بعد فترة قصيرة. للحقيقة، إختَرتُها لأنّها ليست ابنة بلَدي، فبناتنا مُتطلِّبات كثيرًا وبِتنَ مُتحرِّرات، ولدَيهنّ رأي في كلّ شيء ولا تتأخّرنَ عن مُجادلة أزواجهنّ. أنا لا أُريدُ زوجة بمثل هذه الصفات، بل فتاة عاقِلة وقنوعة وتحترمُ الرجُل وتصغي إليه. وهذا بالذات ما وجدتُه في آنّا بعد أن تعرّفتُ عليها عبر الانترنت، وتبادَلنا الأحاديث خطيًّا وبالفيديو لمدّة ستّة أشهر.
أهل حبيبتي كانوا أناسًا مُتعلّمين لكن فقراء ووجدتُهم لطفاء. أمّا بالنسبة لآنّا، فهي كانت أروَع مِمّا تصوّرتُ وكبُرَ حبّي لها أثناء زيارتي، فعدتُ بعد الخطوبة وقلبي مليء بالأمل والحبّ.
لكنّ أهلي لَم يكونوا مسرورين بمشروعي هذا، فكانوا يريدون أن أتزوّج مِن فتاة مِن بلَدي، تُشارِكُني عاداتي ولغتي وتفهمُني. لكنّني لَم آبَه لرأيهم، فهم لا يعرفون كَم أنّ خطيبتي رائعة وجميلة. فالجدير بالذكر، أنّ بنات تلك البلدان تتّصِفنَ بالجمال الفائق!
بدأتُ بتحضير الأوراق اللازمة لِجَلب حبيبتي لأتزوّجها هنا، وكنتُ مليئًا بحماس لا مثيل له، فبعد أشهر قليلة، كنتُ سأصبح أسعَد زوج! مِن ناحيتها، حاولَت والدتي تغيير رأيي، بجَلب صبيّة وأهلها إلى البيت بحجّة أنّهم أصدقاء قدامى، لكنّني كنتُ أعلَم أنّ الفتاة هي عروسة تُريدُني أمّي أن أختارَها بدَلًا مِن آنّا. ويا للفرق بين الاثنتَين! فآنّا كانت طويلة القامة وشقراء ولها عينَان زرقاوان، بينما "العروس" كانت قصيرة القامة وسمراء الشعر كما شأن بنات بلَدي. بقيتُ مُصِرًّا على رأيي، ولَم يجرؤ أحَد على إجباري على العدول عن مشروعي، فكنتُ المُعيل الأساسيّ لعائلتنا بفضل عمَلي الذي كنتُ أجني منه الكثير.
حضَّرتُ شقّة جميلة للعَيش فيها مع عروستي في الحَيّ نفسه الذي يعيشُ فيه أهلي، فكنتُ مُتعلِّقًا كثيرًا بهم وأكنُّ لهم محبّة عميقة. إضافة إلى ذلك، أمِلتُ أنّ ذلك القُرب الجغرافيّ سيجمَع القلوب ويتقبَّل ذويّ زوجتي الأجنبيّة.
وصلَت آنّا أخيرًا بعد أن جهزَت أوراقها، ومعها والداها وتزوّجنا وسط فرحة أرَدتُها أكبَر، لكنّني كنتُ أعلَم أنّ الكلّ لَم يكن مسرورًا باختياري. فيوم عقد القران، جاءَت إليّ والدتي مُحاولة تغيير رأيي قَبل فوات الأوان:
ـ يا إبني... لا نعرفُ مَن تكون آنّا... فمَن نسأل عنها؟ ولا نعرفُ كيف يُفكِّر هؤلاء الناس وكيف يتصرّفون في مواقِف مُعيّنة. واللغة... كيف لنا أن نتواصل مع آنا؟ تراجَع أرجوكَ، وخذ تلك الصبيّة التي تعرّفتَ إليها عندنا في البيت.
ـ لا تهدري وقتكِ يا ماما، لن أُبدِّل رأيي، فأنا كبير كفاية لأعرف ماذا ومَن أُريد. آنّا هي فتاة أحلامي وهي ستُسعدُني وتجلِبُ لي البنين والبنات والأحفاد.
ـ حسنًا يا بُنَي... كما تُريد... لكن اعلَم أنّني وأبوكَ سنكون دائمًا إلى جانبكَ عندما تستفيق مِن حلمكَ هذا.
ـ ما هذا الكلام يوم فرَحي؟!؟ هل تنوين تعكير أجمَل يوم في حياتي؟!؟
ـ أنا آسفة... لكن كان عليّ المُحاولة لإراحة ضميري.
إستأتُ كثيرًا مِن أمّي، لكن سرعان ما نسيتُ غضَبي حين رأيتُ آنّا داخِلة بفستانها الأبيض. كانت تبدو كالملاك وذرَفتُ دموع فرَح أدهشَت الكلّ، فالرجال عندنا لا يبكون، حتّى مِن كثرة السعادة.
طِرتُ وزوجتي إلى إيطاليا لقضاء شهر عسَل لن أنساه أبدًا... برفقة والدَي آنّا اللذَين طبعًا ترَكانا وشأننا طوال المدّة ومكَثا في فندق آخَر. سبب مُرافقتهما لنا إلى إيطاليا كان أنّهما لَم يُسافِرا أبدًا طوال حياتهما، وحزِنا لأنّهما سيعودان مُباشرةً إلى بلَدهما بعد الفرَح، فلَم يتسنَّ لهما زيارة بلَدي، إذ هما كانا مُنشغلَين بالفرح وتحضيراته. طلبَت منّي زوجتي أن أُقدِّم لهما تلك السَّفرة واعِدة بأنّهما لن يُزعجانا. وقبِلتُ على الفور، ناسيًا أنّ والدَيّ أيضًا لَم يخرجا مِن بلَدنا يومًا. ولولا عتاب أمّي لي، لمَا انتبهتُ للأمر. إعتذرتُ منها ومِن أبي بحرارة، وهزَّت والدتي برأسها قائلة: "كنتُ أعلَم أنّنا سنخسركَ لزوجتكَ وعائلتها، لكن ليس بهذه السرعة". حاولتُ أن أشرَحَ لها أنّ والِدَي آنّا فقراء وأنّها فرصتهما الوحيدة لرؤية إيطاليا، ووعدتُها بأنّني سأعوّض لها تلك الهفوة في القريب العاجِل.
لكن حصَلَ أن حمِلَت زوجتي، فانشغَلتُ طبعًا بها ولَم يتسنَّ لي الوفاء بوَعدي لوالدَي.
خبَر حَمل آنّا لطَّفَ الأجواء مِن ناحية موقِف أهلي منها، فقدوم حفيد كان أمرًا يعلو فوق كلّ اعتبار آخَر، فبدأَت أمّي بالطهو لي ولزوجتي، ومُساعدتها في الأعمال المنزليّة كَي لا تتعَب كثيرًا. كنتُ مسرورًا للغاية، إلى حين قالَت لي آنّا:
ـ أُريدُ عامِلة لتُساعدني.
ـ لماذا؟ فأمّي تأتي كلّ يوم لهذا الغرَض.
ـ أُريدُ عامِلة... فليس عليّ تحمّل أمّكَ يوميًّا.
ـ تحمّل أمّي؟ وهل أنّ وجودها مُزعِج؟
ـ للغاية! أنا لَم أتزوّج أمّكَ أو عائلتكَ، بل تزوّجتُكَ أنتَ! أتعرِف، لا أُريدُ لا عاملِة ولا أمّكَ! سأطهو وأنظّف لوحدي حتّى لو عنى ذلك أن أتعَب. فمِن الواضح أنّكَ لا تكترِث لأمري.
ـ ما هذا الكلام؟ بالتأكيد أكترِث لأمركِ، بل أحبُّكِ لأقصى درجة!
ـ تُحبُّني ولا تُريد أن تُعطيني ما أُريدُه؟
ـ حسنًا، حسنًا... سأجلِبُ لكِ عامِلة، لكنّ أمّي ستظلّ تأتي!
ـ تأتي أمّكَ حين أسمَح لها بذلك، فهذا بيتي!
ـ بيتنا، يا آنّا.
وجدتُ صعوبة قصوى لأقول لوالدتي أن تكفّ عن الطهو لها... وعن المجيء حينما تشاء، بل أن تطلبَ موعدًا مُسبقًا. وهي نظرَت إليّ باندهاش ثمّ ذرفَت دموعًا صامِتة. شعرَتُ بالخزي وأردتُ تقبيلها لكنّها لَم تقبَل، بل أدارَت وجهها عنّي لأوّل مرّة في حياتي. لماذا هي لا تفهَم أنّ آنّا آتية مِن بلَد حيث لدَيهم تقاليد وعادات مُختلِفة، ويُحبّون المُحافظة على خصوصيّاتهم؟
قاطعَتني أمّي لمدّة، إلّا أنّها عادَت وصارَت تأتي لزيارتنا... بعد أخذ موعد مع آنّا التي لَم تسمَح لها بالقدوم سوى مرّة كلّ أسبوعَين. تحمّلَت والدتي الأمر فقط مِن أجل عدَم اغضاب كنّتها، خوفًا مِن أن تحرمها مِن رؤية حفيدها، الذي وُلِدَ صحيحًا والحمد الله.
لكن فورًا بعد الولادة، تغيّرَت تصرّفات آنّا تجاهي، فصارَت أقلّ لطافة معي وتصرخُ بي وبالخادمة طوال الوقت. ردَدتُ الأمر إلى اكتئاب النفاس الذي يُصيب العديد مِن النساء بعد التوليد، فتحمَّلتُ الوضع راجيًا ألّا يطول. واغتنمَت آنّا تلك الفترة العصبية لتمنَع قدوم أهلي إلى بيتنا بصورة قطعيّة، فأقنعتُ عائلتي بعدَم الاعتراض لهذا القرار إلى حين تعودُ زوجتي إلى حالتها العاديّة. لكن أمّي قالَت لي: "هي لا تشكو مِن شيء، بل تُريدُ فقط فرض سلطتها بعد أن صارَت أمًّا وأعطَتكَ ابنًا". لَم أُصدِّق كلامها، بل أدَرتُ ظهري وعدتُ إلى زوجتي الحبيبة لأُساعِدها على اجتياز تلك الفترة الصعبة.
ثمّ طلبَت منّي آنّا أن ننتقِل إلى مسكَن آخَر، لأنّها لَم تُحِبّ ذلك الحَيّ ولأنّ كلّ المدارِس الجيّدة لابننا هي بعيدة عنّا. مدارِس؟!؟ الطفل وُلِدَ للتوّ! علِمتُ عندها أنّها تتحجَّج بالولَد، فلَم أُعطِ أهمّيّة لكلامها.
وذات يوم، عدتُ إلى البيت فلَم أجِد زوجتي أو ابني أو الخادمة! إتّصلَتُ على الفور بآنّا التي قالَت لي إنّها في فندق وستمكثُ فيه إلى حين آخذُ طلَبها على محمَل الجَدّ، فهي ترفُض رفضًا قاطِعًا العَيش حيثُ نحن.
يا إلهي، ما هذه المُصيبة؟؟؟
يتبع...