يا ليتني لم أتزوجها...

كانت غادة كلّ ما يتمنّاه قلبي أو قلب أيّ رجل. فتلك الصبيّة كانت جميلة ورقيقة ومُحبّة، ورأيتُ فيها زوجة المستقبل. حسَدَني عليها كلّ أصدقائي وسألوني إن كانت لها أخت، وكنتُ أجيبُهم أنّها إبنة وحيدة لأنّ الله شاء أن تكون فريدة مِن نوعها.

أضحكُ اليوم على هذا الوصف لغادة. أضحكُ وأبكي بمرارة في آن واحد. فكَم كنتُ بعيدًا عن حقيقة تلك المخلوقة! فالكثير مِن الناس يلبسون ثياب نعاج لنَيل مرادهم، وحين يصلون إلى أهدافهم يُزيلون قناعهم ليظهر وجههم الحقيقيّ. كانت غادة مِن هذه الفئة. نعم، لقد غشَّتني تلك المرأة وأعترفُ جهارةً بغبائي. وكلّ الذين كانوا يحسدوني عليها باتوا يأسفون عليّ، لا بل يهربون منّي بسبب ما فعلَته بي تلك الشيطانة. فهذا الكم مِن الشرّ لا يقومُ به إلا مَن سلَّمَ روحه لإبليس.

بعدما تزوّجنا بأقلّ مِن شهرَين، بدأَت تظهر على غادة علامات الإنزعاج مِن أشياء كثيرة كانت تتقبّلُها بسرور. فمثلاً، صارَت تتذمّر مِن لقاءاتي مع أصدقائي أو حتى مِن قدومهم إلى بيتنا. فبنظرها كنتُ أقضي وقتًا طويلاً معهم وأُهملُها هي. بالطبع لَم يكن ذلك صحيحًا، ففرحَتي بزوجتي كانت لا تُقاس وكنتُ أهتمُّ بها لأقصى درجة. ردَدتُ الأمر إلى التغيّر الذي حصَلَ لها بالإنتقال مِن حياة العزوبيّة إلى الحياة الزوجيّة، وقرّرتُ مُجاراتها قليلاً كي لا أُفزِعُها. قلّلتُ مِن خروجي مع أصدقائي ولَم أعدُ أدعوهم إلى البيت. فارتاحَت غادة. ولتُكافئني، أخذَت تطهو لي أطباقي المُفضّلة وتُدلّلُني كثيرًا. ووجدتُ أنّ التضحية التي قُمتُ بها كانت تستحقُّ العناء، وكافأتُها بدوري بإعطائها بطاقتي الإئتمانيّة لتشتري ما تُريدُه مِن دون أن تضطرّ إلى طلَب المال منّي.

لكن سرعان ما تبدّلَت الأحوال، فصارَت زوجتي تتضايقُ مِن ما أسمَته: "قلّة ترتيبي ونظافتي". إستغرَبتُ الأمر كثيرًا، فكنتُ ولا أزالُ رجلاً مُرَتّبًا ونظيفًا للغاية! وحين طلبتُ مِن غادة ألا تنتقدني، بدأَت تصرخُ بي وتنعتُني بألفاظ قاسية جدًّا. حافظتُ على هدوئي ولَم أجِب، وقرّرتُ الإنتباه إلى تصرّفاتي داخل المنزل كمثل أين أضع أغراضي وكيف أهتمّ بنظافتي الشخصيّة، مع أنّني لم أكن أرى خطبًا بالذي كنتُ أفعلُه حتى ذلك الحين.

سرعان ما أصبَحَ الجوّ في البيت مُتشنجًّا، خاصّة بعدما نعَتتني غادة بالبخيل حين أخذتُ منها بطاقتي الائتمانيّة لتتسوّق.

 


فالحقيقة أنّ زوجتي كانت تصرفُ الكثير مِن المال على أمور غير ضروريّة. وبالرّغم مِن أنّني كنتُ صاحب شركة ناجحة، كان لا بدّ لنا أن ننتبه إلى مصروفنا لنستطيع القيام بمشاريع مهمّة، كالسّفر أو دفع أقساط بيتنا الجديد على شاطئ البحر أو حتى القيام بواجباتنا الإجتماعيّة التي باتَت للأسف قليلة، بسبب رفض غادة مُرافقتي إلى تلك المُناسبات.

فحين رأَت زوجتي أنّها لَم تعد قادرة على البذخ كما في السابق، بدأَت تمتنِعُ عن القيام بواجباتها الزوجيّة الحميمة. ووجدتُ الأمر مُبالغًا به، فهذا الأسلوب لا يليقُ بزوجة محبوبة تعيشُ حياة هنيئة. تركتُ غادة على سجيّتها بانتظار أن تعود إلى رشدها، وتُقدِّرُ تعَبي ولو قليلاً وتعود الزوجة المحبّة التي عرفتُها في أوّل فترة مِن زواجنا.

لكنّ غادة صارَت أكثر عدائيّة، ولَم تعد تكنّ لي أيّ احترام، حتى عندما أخذتُها لترى كيف انتهَت الأعمال في بيت الشاطئ الذي كان رائعًا. كلّ ما قالَته لي كان:

 

ـ أريدُه لي.

 

ـ إنّه لكِ يا حبيبتي.

 

ـ أعني لي وحدي، فهو بإسمكَ. أريدُه بإسمي.

 

ـ كلّ ما هو لي هو لكِ، نحن زوجان ولا فرق بيننا.

 

ـ أقول لكَ إنّني أريدُه بإسمي، ما بالكَ لا تفهم؟!؟

 

نظرتُ إلى غادة باندهاش، فنبرة صوتها كانت قاسية ومُستهزئة، ونظراتها لي مليئة بكره لَم أتصوّره مُمكنًا. ماذا فعلتُ لتلك المرأة لتكرهني إلى هذه الدرجة؟ أين ذهَبَ حبّها لي ووعودها بإسعادي مدى حياتي؟ فكلّ ما فعلتُه كان مِن أجلها: أقمتُ لها فرحًا عظيمًا، وقدّمتُ لها الحُلى والمجوهرات، وأخذتُها إلى أجمل العواصم الأوروبيّة خلال شهر عسلنا، واشترَيتُ بيتًا على الشاطئ لأنّها تحبّ البحر، ونحن نعيشُ في بيت فخم في أرقى أحياء العاصمة، وأعطيتُها بطاقتي المصرفيّة لتتسوّق، هذا قبل أن أدرك أنّها تشتري بلا وعي. والآن تريدُ غادة وضع يدها على البيت الجديد مع أنّها تُسيءُ مُعاملتي، ولا تتصرّفُ معي كزوجة تعشقُ زوجها. عندها قلتُ لها:

 

ـ لا أدري ماذا يحصلُ لكِ يا حبيبتي، لكنّكِ تغيّرتِ كثيرًا معي. أعملُ ليلاً نهارًا، وابتعَدتُ عن أصدقائي مِن أجلكِ وكل ذلك ليس كافيًا. لن أكتبَ بيت البحر باسمكِ، على الأقل ليس وأنتِ تعامليني بهذه القساوة.

 

ـ هذا قراركَ النهائيّ؟

 

ـ أجل

 

لَم أكن أعلمُ أبدًا كَم كان سيُكلّفَني هذا القرار، فمَن يتصوّر ما فعلَته لاحقًا غادة؟

بعد أسبوع على حديثنا هذا، وصلَني في البريد السريع ظرفٌ يحتوي على دعوى طلاق مِن محامي غادة. لَم أكن أعرف أنّ لَديها مُحاميًا أو أنّها تريد تَركي. إعتبرتُ الأمر مُبالغًا به، فلَم تكن قد مضَت سنة على زواجنا. رحتُ أسأل زوجتي عن موضوع الطلاق، فأجابَتني بكلّ برودة: "لَم أعدُ أريدُكَ، فأنتَ رجل بخيل وسخيف ووسخ. سأطلّقُكَ وآخذُ ليس فقط بيت البحر بل هذا البيت أيضًا والسيّارة وأرميكَ خارجًا." ضحكتُ عاليًا، فكيف لها أن تفعل ذلك؟ واكتفَيتُ بالقول لها:

 

- إفعلي ما شئتِ، لن تنالي شيئًا، فأنتِ امرأة وصوليّة وطمّاعة ولقد غشَّيتِني وهذا يكفي لأقف بوجهكِ.

 


لكنّ سلاح غادة لَم يكن الحقّ والقانون بل الطرق الملتوية كعقلها وقلبها. لِذا، في اليوم التالي، وأنا في الشركة، وصلَت إلى هاتفي صوَرٌ لي عاريًا وأنا أستحمّ ورسالة مرفقة بها وتقول: "سأنشرُ هذه الصوَر في كلّ مكان... وسأرسلُها إلى أهلكَ وأصدقائكَ وموظّفيكَ." ومع أنّ الرّقم لَم يكن رقم غادة، علِمتُ أنّها هي التي تُمارس تهديدًا دنيئًا عليّ، فمَن غيرها يُمكنُه التقاط صور لي وأنا أستحمّ؟

عندما وصلتُ إلى البيت ونيّتي مواجهة زوجتي، وجدتُ المكان خاليًا. كانت غادة قد أخذَت قسمًا مِن أمتعتها ورحَلَت، ليس خوفًا منّي، بل لتتمكّن مِن التنكيل بي عن بُعد.

عاودَ محامي زوجتي الإتصال بي ليعرف مدى استعدادي لإعطاء غادة مطالبها، فقلتُ له إنّها لن تحصل على شيء بعد أن صارَت تتصرّف بقباحة معي. وفي اليوم نفسه، جاءَتني رسالة على هاتفي مِن صديق مُقرّب لي مُرفقة بصورتي وأنا أستحمّ تقول: "ما الذي يحصل لكَ يا صاحبي... هل فقدتَ عقلكَ؟ لماذا تنشرُ صورًا كهذه؟!؟" تلبّكتُّ طبعًا، وبدأتُ أشرحُ له أنّ لا دخل لي بذلك وأنّ غادة تحاولُ تدميري. وطلبتُ منه بإلحاح حذف تلك الصورة مِن هاتفه وعدَم عرضها على أحد. إلا أنّني لَم أسمَع مِن صديقي منذ ذلك الوقت. عندها علِمتُ أنّ زوجتي لَم تكن تمزح وأنّها قادرة على تنفيذ تهديدها.

إتصلتُ بغادة، وهذا ما قالَته لي:

 

ـ هل غيّرتَ رأيكَ؟

 

ـ أريدُ أن نتناقش... فما تطلبينَه كثير للغاية. كيف لي أن أُعطيكِ كلّ ما لدَيّ؟

 

ـ لقد تحمّلتُكَ لمدّة سنة، أي لوقت طويل للغاية، وهذا تعويضي.

 

ـ كنتِ تحبّيني بجنون... أين ذهَبَ حبّكِ؟

 

ـ أريدُ كلّ شيء! أُريدُ البَيتَين والسيّارة ومالاً و...

 

ـ لماذا؟ ماذا قدّمتِ لي بالمقابل؟

 

ـ ألَم أتحمّل يدَيكَ القذرتَين على جسدي؟ يقشعرُّ بدني كلّما أفكّرُ بتلك الليالي. آه، كدتُ أنسى! بالنسبة لِما فعلناه في غرفة النوم، قد يكون لدَيّ أيضًا ما أعرضُه على الناس.

 

ـ ماذا؟!؟ لقد صوّرتِنا ونحن في السرير؟

 

ـ لَم أقل شيئًا... لكن مَن يدري؟

 

ـ أنتِ إنسانة شرّيرة! لي سمعَتي، فأنا رجل ذو مركز مرموق في المجتمع.

 

ـ تمامًا! ولا أنصحُكَ بالوقوف بوجهي وإلا...

 

كانت غادة قد فتحَت أوراقها وما رأيتُه كان قبيحًا للغاية. ما كان عليّ فعله؟ أخذتُ نفَسًا عميقًا وقصدتُ مركز الشرطة. كان بإمكاني إرسال أحد محامي الشركة مكاني، لكنّني لَم أرِد أن ينتشر الخبر. قابلتُ المحقّق وشرحتُ له مشكلتي، وأرَيتُه بخجل صورتي العارية في الحمّام. إبتسَمَ الرجل وقال لي ببساطة:

 

ـ لا أرى شيئًا مُعيبًا في هذه الصورة، فأنتَ رجل وهذا لا يضرّكَ بشكل كبير.

 

ـ ماذا؟!؟ وإن كنتُ رجلاً، فهل يعني هذا أنّ لا خطبًا في أن يراني الناس عاريًّا؟

 

ـ مِن الأفضل أن تحلّ مشاكلكَ حُبّيًّا مع زوجتكَ، فليس لدَيكَ دليل قاطع.

 

ـ هي تبتزّني، أليس هذا جرمًا يعاقبُ عليه القانون؟

 

ـ بلى ولكن... أعني لو كنتَ امرأة... لكنّكَ رجلاً ولا أرى...

 

ـ مِن الواضح أنّ معنى كلمة "عَيب" ليس مألوفًا لدَيكَ. سأرحل.

 

بعد عودتي مِن القسم، أقفلتُ خطّي على أمل أن تسأم غادة، لكنّها زادَت شراسة. فبعد أقل مِن أسبوعَين، إنتشرَت الصورة بين موظّفي وموظّفات الشركة، وباتَ العمل في هكذا ظروف مُستحيلاً. فكيف أُديرُ أعمالي مع فريق قد رآني مِن دون بذّتي وربطة عنقي، لا بل مِن دون ملابسي الدّاخليّة؟ أين سطوَتي؟ وسرعان ما صارَ الكلّ ينظرُ إليّ مُبتسمًا ومُستهزئًا وأسمعُ مِن حولي الهمسات الساخرة. أوكلتُ نائبي بمتابعة العمل عنّي بحجّة أنّني مُسافر، ورحتُ أحبسُ نفسي في بيتي... طالما كان لا يزال مُلكي.

إنهارَت أعصابي ولَم أعد أفعلُ شيئًا سوى النوم طوال النهار والليل، ولَم أكفّ عن التفكير بحلّ يُخرجُني مِن مُصيبتي. وفجأة وجدتُ الثغرة: المحامي. فكما قلتُ سابقًا، تفاجأتُ كثيرًا بأنّ لزوجتي محاميًا توكَّلَ بحماس واندفاع لقضيّة بهذا الكمّ مِن الوساخة. لِذا بدأتُ أستقصي عن ذلك الرجل، وما وجدتُه قلَبَ الموازين رأسًا على عقَب.

ولأنّني كنتُ أملكُ متّسَعًا مِن الوقت لذلك، بدأتُ أراقبُ المحامي بعد أن حصلتُ على عنوانه. وما نتَجَ عن مُلاحقتي له كان فظيعًا. فذلك الرجل كان يزورُ زوجتي كلّ مساء في مسكنها المؤقت في فندق حقير مثلها. وبعد أن أعطَيتُ موظّف الإستقبال بعض المال، علِمتُ منه أنّ غادة ومحاميها كانا يتواعدان في ذلك الفندق... مِن قبل زواجنا حتى! كانا على علاقة حميمة وخطّطا عن تصوّر وتصميم للنَيل منّي.

هكذا إذًا... كنتُ ضحيّة لعبة مُحكمة. لكن بعدما علِمتُ الحقيقة، أصبحتُ أملكُ وسيلة للدفاع عن نفسي، خاصّة أنّ المحامي كان رجلاً متزوّجًا وأبًا لثلاثة أولاد. لذلك قرّرتُ معاملته بالمثل. فبمساعدة موظّف استقبال الفندق الذي قبَضَ منّي مبلغًا كبيرًا، إستطعتُ الحصول على دليل على علاقة العاشقَين بشكل صورة أخذَها لهما وهما يُقبّلان بعضهما على السلالم.

وفور حصولي على الصّورة، أرسلتُها بدوري إلى هاتف المُحامي قائلاً: "ما رأيكَ سيحصل لو رأت زوجتكَ ما تفعلَه كلّ ليلة؟ أو أولادكَ؟ فلدَيّ رقم هاتف كلّ أفراد عائلتكَ... وقد حانَ دوري الآن لألهو بكَ!". لَم أكن أنوي طبعًا زجّ أولاد المحامي بالأمر، بل كنتُ أراوغُ فقط. على كلّ حال، كنتُ أعلم أنّ الرّجل سيخافُ على نفسه مِن ردّة فعل زوجته وأنّه سيتخلّى عن غادة.

وبعد يوم واحد، وصلَني بالبريد السريع كتاب مفاده أنّ زوجتي تريدُ الطلاق وليس لدَيها أيّ طلَب آخر. كنتُ قد انتصرَتُ! فأسرعتُ بإعطاء الطلاق لغادة لينتهي كابوسي إلى الأبد.

لكنّ حياتي العمليّة والإجتماعيّة كانت قد تضرّرَت كثيرًا، لِذا جمعتُ الموظّفين وعرضتُ عليهم مبالغ كبيرة ليستقيلوا، ويرحلوا مِن الشركة لأتمكّن مِن متابعة أعمالي. لَم أكن قادرًا على إجبارهم على الرحيل، لكنّ معظمهم قَبِلَ لأنّ العرض كان مُغريًا جدًّا. وهكذا لم يبقَ معي سوى الأوفياء لي والذين علِموا كَم عانَيتُ مِن نشر صورتي.

لا أزالُ حتى اليوم متأثّرًا بالذي حصَلَ لي، فأنا أعيشُ لوحدي بعد أن قطعتُ صِلَتي بأصدقائي ومعارفي. لَم أعاود الزواج، فكيف لي أن أثق بامرأة بعد الذي حصل معي؟ أفضّلُ الجلوس في بيتي بعد انتهاء دوام العمل، والقراءة أو مشاهدة التلفاز وأنا برفقة الكلب الذي جلبتُه لتسليَتي. وأستطيع القول إنّ رفقة هذا الحيوان أفضل مِن رفقة الكثير مِن البشر، فهو على الأقل لا يعرفُ الغدر والغشّ بل يُحبّ بوفاء وصدق.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button