يا لهذا الصديق!

خسِرتُ كلّ ما لدَيّ بسبب عامر صديقي. صدّقتُه مع أنّني كنتُ أعلَم مدى تهوّره في مجال الأعمال والتجارة، لكنّه كان يجدُ دائمًا طريقة لحَمل الآخرين على السَير وراءه. وحين أقولُ خسِرتُ كلّ شيء، لا أعني فقط أموالي بل أيضًا عائلتي.

تعودُ معرفتي بعامر إلى أيّام الدراسة، أي صفوف القسم الابتدائيّ ولقد كبرنا سويًّا، وفي مُعظم الأحيان جلسنا على المقعد ذاته في الصفّ. فبالطبع وُلِدَت بيننا مودّة متينة وبتنا نعرفُ بعضنا عن ظهر قلب.

سنوات المُراهقة كانت الأكثر تسلية، إذ أنّنا صرنا نُلاحظُ وجود الصّبايا حولنا ونُحاول جذب انتباههنّ. للحقيقة كان صديقي الأكثر حظًّا في هذا المجال، إذ أنّ الجنس اللطيف كان يجده أكثر إثارة منّي. ولَم يكنَّ على خطأ، فلطالما كنتُ إنسانًا خجولاً ومُنطويًّا، على عكس عامر. وأظنّ أنّ اختياري لصديق بهذه الشخصيّة كان بسبب حاجتي لمَن يُعطيني الشجاعة التي لا أملكُها أو يُحقّقُ ما لا أجرؤ على الإقدام عليه.

بعد ذلك، دخلنا الكلّيّة نفسها، فقط كي لا نفترق، وأعترفُ أنّني لَم أكن أرغب بالتخصّص بالأعمال بل بما هو أكثر قربًا لشخصيّتي الفنّيّة. إلا أنّني حصلتُ على شهادتي الجامعيّة بسهولة، لأنّني أحبُّ أن أفعل ما يلزَم وما يُطلَب منّي. مِن جانبه، برَعَ عامر في ذلك الاختصاص وبصحبته لِمعظم صبايا اختصاصنا وحتى كلّيّتنا. فكانت له شعبيّة عارمة جعلَت منه الشاب الذي تتعارَك البنات مِن أجله.

تعرّفتُ إلى التي كانت ستصبحُ زوجتي خلال سنتي الجامعيّة الأخيرة، وبقيَ صديقي ينتقّل مِن صبيّة لأخرى كالنحلة في مرج زهور. هو لَم يشأ الارتباط ولو عاطفيًّا ... وهذا حقّه.

لَم يكن أهلنا أغنياء لكنّنا كنّا مُرتاحين مادّيًّا، لِذا عرَضَ عليّ عامر أن نستقرِض بعض المال مِن أبوَينا لشراء درّاجات ناريّة رخيصة الثمَن وبيعَها بسعر أعلى والاستفادة ماليًّا. أعجبَني المشروع إلا أنّ أبي وجَدَ الفكرة غير صالحة بسبب نوعيّة تلك الدرّاجات الرديئة. لَم أشأ الاستسلام وباتَ صديقي يسخَر منّي، لِذا أخذتُ بعض الحلى الذهبيّة التي أهداني إيّاها الأقرباء حين ولِدتُ ورحتُ أبيعها. لَم آخذ إذن والدتي التي كانت تحتفظُ بها في أحد أدراج خزانتها، مُعتبرًا أنّني أستخدمُ ما هو لي.

كان أبي على حقّ بتقديراته، إذ أنّ الدرّاجات التي اشترَيناها لَم تكن ذات نوعيّة مقبولة، ولَم نستطِع بَيعها إلا بخسارة. لمتُ صديقي كثيرًا فلَم أعُد قادرًا على شراء ما بعتُه مِن ذهب وإعادته إلى الخزانة. أمّا هو، فضحِكَ عليّ ونعتَني بالجبان لا بل بالمُخنّث، مُضيفًا أنّ هناك دائمًا مُخاطرة في التجارة، وأنّ على قلبنا أنّ يكون أكثر شجاعة. إكتشفَت والدتي أمر "سرقتي"، ووبّخَتني بصرامة إلى حين وعدتُها بدفع ثمَن الذهب لها بكامله.

 


بعد فترة، وجدتُ عملاً وكذلك عامر، وصرنا نتواصل بصورة مُتقطّعة ونرى بعضنا أحيانًا في فُرص نهاية الأسبوع أو عطلات الأعياد. تزوّجتُ مِن حبيبتي التي لَم تكن تحبُّ عامر بسبب تهوّره وإصراره على إشراكي بكلّ خطّة جديدة، وكَونه دائمًا مُحاطًا بالحسناوات. فكَم كانت فرحتها كبيرة حين علِمنا بأمر سفره إلى الخارج.

صارَت لي عائلة مؤلّفة مِن ولدَين، وبقيتُ أُتابعُ أخبار صديقي التي كانت دائمًا مُثيرة. فحياتي كانت بالفعل مُملّة بالنسبة إليه، وأعترفُ أنّني كنتُ أحسدُه. وتصوّرتُ نفسي مرارًا معه حيث هو بدلاً مِن الذهاب كلّ يوم إلى عمَل لا أُحبّه، للعودة إلى بيت مليء بصراخ الأولاد وتأنيبات زوجتي لي.

جاء عامر إلى البلد لقضاء عطلة أرادَها مُسلّيّة، لكنّني لَم أستطِع قضاء وقت طويل معه، بسبب انشغالاتي ورفض زوجتي أن أخرج برفقته حتى لو أخذتُها معي. رحَلَ عامر واعدًا بالعودة في القريب العاجل، فانتظرتُ أن أراه مُجدّدًا بعد أن قرّرتُ أنّني لن أخضَع في تلك المرّة لأوامر أحد بل سأستمتع مع صديقي كما يجب.

لَم يطُل غياب عامر بل رجعَ إلى البلد وبصورة دائمة. لَم أعلَم حينها أنّه هرَبَ مِن حيث كان بسبب مشروع قام به تسبّبَ للناس بخسائر جسيمة، لكن صدى تلك العمليّة وصلَت إلى آذان والدي الذي عادَ وحذّرَني منه قائلاً:

 

- الناس لا تتغيّر يا بنَيّ إلا أذا هم أرادوا ذلك، فإخذَر مِن عامر واحترِس ألا يجرُّكَ معه في مُغامراته الفاشلة. حافظ على ما لدَيكَ وحسب ولا تكن طمّاعًا.

 

للحقيقة، لَم أحسب حساب ما كان سيحصل لاحقًا، لِذا وجدتُ كلام أبي مُبالغًا به. إشترى عامر بيتًا جميلاً على مشارف المدينة، وسكَن فيه مع امرأة رافقته مِن المهجر. سألتُه لِما لا يتزوّجها ويستقرّ عاطفيًّا ويُنجِب، فأجابَني:

 

- أمثالي لا يستقرّون وإلا ماتوا مِن الداخل... تُريدُني أن أصبحَ مثلكَ؟ لا شكرًا!

 

وبدأَت مِن جانبه ما أسمّيها الآن "حملة" لإبراز سيّئات نمَط حياتي بالمُقارنة بـ "حسنات" حياته، الأمر الذي فكّرتُ به مرّات عديدة خلال صداقتنا. فكما أشَرتُ سابقًا، كنتُ أتمنّى لو كنتُ أشبهُه إلا أنّ شخصيّتي وتربيتي لَم تسمحا لي بذلك.

صرتُ أزورُ صديقي بشكل يوميّ، وأستمِع إلى قصصه المُثيرة في مجال الأعمال والنساء، وأحسُّ أيضًا بشكل يوميّ، كَم أنّ حياتي مُملّة وعاديّة في ما يخصّ عمَلي وزواجي. بعد فترة، عادَت صديقة عامر إلى موطنها بعد أن أنهى علاقته بها، لأنّها توقّفَت عن إثارة أيّ شيء فيه. وحسدتُه لقدرته على التحكّم بما يُريدُه وما لا يُريدُه.

آه... لو أنّني أيضًا قادر على إنهاء علاقتي بزوجتي التي لا تنفكّ عن توبيخي، وإعطائي التعليمات في كيفيّة إدارة حياتي! لَم أٌفكّر في ولدَيّ على الإطلاق، فهما أيضًا كانا مصدر إزعاج لي كَونهما يأسراني فقط بوجودهما. أجل، وصَلتُ إلى ذلك الحدّ بسبب صديقي، الذي صوَّرَ لي الحياة بشكل "زهريّ اللون" باسم الحرّيّة والقرار الحرّ.

 


بدأتُ أنام عند عامر في عطلة نهاية الأسبوع، بالرّغم مِن رفض زوجتي لذلك، فصرنا نتشاجر بقوّة. كيف لها أن تقول لي ما عليّ فعله؟ ألستُ مَن يصرفُ على البيت وعليها؟ ألا تحصل تلك المرأة على ما تشتهيه لنفسها؟ لِتتركني وشأني إذًا! لكنّها راحَت تشتكيني لدى أبي الذي طلَبَ رؤيتي بسرعة، وقال لي حين لبَّيتُ طلبه:

 

ـ لقد حذّرتُكَ في ما مضى مِن عامر، وحسبتُكَ فهمتَ أنّه لن يجلبَ لكَ سوى المتاعب. لقد عملتُ وأمّكَ جهدنا لتبقى مُحاطًا بخيرة الأصدقاء، ولتُحافظ على ما لقّنّاه إيّاك منذ صغركَ. لكنّ تأثير ذلك الرجُل عليكَ يبدو قويًّا، ليس فقط لأنّه قويّ بل لأنّكَ ضعيف. فشيء في داخلكَ يهوى أن يكون مثله لكن احذَر ممّا تتمنّاه يا بُنَي. حياة عامر ليست كما تتصّورها أو يُصوّرها هو لكَ. فهو وحيد في الدنيا وينتقّل مِن بلد لآخر، ويفرّ مِن كلّ الذين استفادَ منهم أو دمَّرَ حياتهم. إنّه هارب دائم ليس لدَيه مكان يرسو فيه. أمّا أنتَ، فلدَيكَ أهل مُحبّون وعائلة جميلة وعمَل ثابت. لا تخرب هذا التوازن ولا تخسَر ما لدَيكَ، فالذي ترمي إليه ليس إلا سرابًا.

 

لَم أجِبه احترامًا له، لكنّني قلتُ في نفسي: "هذا ليس مِن شأنكَ يا أبي، أفعلُ ما أشاء بحياتي". وكان مِن الواضح أنّني مُصمّم على الركض وراء "سراب" اسمه عامر.

ويوم عرّفَني صديقي على امرأة جميلة وأقمتُ معها علاقة، أضعتُ روحي. وليتأكّد عامر مِن أنّني لَن أتركه يومًا ولأمشي معه على دربه، راحَ يُخبر زوجتي بعلاقتي السرّيّة. هي واجهَتني بالأمر واعترفتُ لها بسرعة، وبفخر، بأنّ ما سمعَته هو الحقيقة. عندها طردَتني مِن البيت بعد أن رمَت أمتعَتي خارجًا. لَم آسَف على شيء، بل فرحتُ أنّني سأعيشُ بصورة دائمة مع عامر وحبيبتي.

لكنّ الأمور تسارعَت بعد ذلك، إذ أنّ صديقي أقنعَني بترك عملي "لأكون بالفعل حُرًّا"، والدّخول معه في الشركة التي أسّسَها. قدّمتُ استقالتي في غضون أيّام، وحضّرتُ نفسي لجَني المال بطريقة ذكيّة ومُسليّة بدلاً مِن الذهاب كالرجُل الآلي في كّل صباح إلى وظيفتي، وتحمُّل أوامر مُديري وثرثرة زملائي.

أخذتُ كلّ ما أملُك مِن مال وكلّ ما بعتُه مِن مُقتنيات شخصيّة ووضعتُه في تلك الشركة، وبدأتُ وعامر العَمل على إقامة مشروع يدرُّ علينا المال الوفير والربح السريع. كانت تلك فترة جميلة للغاية قضَيتُها مع أعزّ صديق وأجمَل عشيقة. نسيتُ الدنيا بأسرها وذقتُ أخيرًا طعم الحرّيّة المُطلقة.

لكن في أحد الأيّام، زفّ عامر لي خبرًا سيّئًا: مشروعنا فشِلَ وخسرنا، نحن وباقي المُستثمرين، أموالنا. ماذا؟!؟ فهو كان قد أكّدَ لي أنّ الموضوع آمَن! إعتذَرَ صديقي منّي بكلّ بساطة وأخبرَني أنّه مُسافر إلى بلد بعيد. أردتُ مُرافقته إلا أنّه رفضَ قائلاً:

 

- تُسافر معي؟ وبأيّ مال؟ لا، فستُعيقُ مساري وأنا بحاجة إلى فُسحة حولي لأكون حرًّا طليقًا. جِد لنفسكَ وظيفة مِن جديد.

 

كيف يقولُ لي ذلك بعدما أقنعَني بترك الوظيفة التي شغلتُها؟!؟ ثمّ تركَتني عشيقتي طبعًا بعدما صِرتُ غير قادر على الصّرف عليها. إنهرتُ كلّيًّا وتذكّرتُ فجأة أنّ لي أهلاً... وعائلة! رحتُ أدقُّ بابهم إلا أنّ أبي رفضَ رؤيتي فبكيتُ كالولد الصغير. الشيء نفسه حصَلَ مع زوجتي ولَم يعُد لي أحد أنتمي إليه أو مكان أذهبُ له.

بقيتُ في بيت عامر الفارغ إلى حين تمّ بَيعه. خلال هذا الوقت، كنتُ قد وجدتُ عمَلاً لكن ليس كالذي سبقَه، لكنّني اكتفَيتُ به لأنّه سمَحَ لي باستئجار غرفة في مبنى قديم.

أنا اليوم لوحدي وأُحاولُ إثبات جدارتي كأب مع ولدَيّ اللذَين أراهما بين الحين والآخر واللذَين يعتبراني جبانًا وخائنًا. أرجو أن يفهما لاحقًا مدى تأثير مَن نُعاشر علينا، وأنّنا لسنا جميعًا مُحصّنين ضدّ المُغريات. وأريدُهما أن يفهما أن ليس هناك مِن حرّيّة مُطلقة، فهناك واجبات ومسؤوليّات تجاه الآخرين وأنفسنا وإلا حلّ خراب قد لا نستطيع يومًا إصلاحه.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button