وهكذا دخَلَ "الذئب" الحظيرة

أخَذتُ على عاتقي إخبار قصّة صديقتي ندى، لأنّني واثقة مِن أنّها كانت ستريد أن يعرف الناس ما جرى لها. فقد حملَت المسكينة سرّها حتى آخر لحظة، ولم تجد سوايَ لإفراغ ما سوَّدَ عيشتها وحَمَلَها على اقتراف الأفظع بحق نفسها.

 

والمذنب الأوّل والأخير في هذه المأساة اسمه نديم وهو خال صديقتي. ولكنّ الذنب يقع أيضًا على أمّها التي كانت بسيطة إلى حدّ السذاجة والتي لم ترَ فقط ما يحصل وسهَّلت، مِن دون قصد، الطريق للمجرم أخيها. وهناك أيضًا الصُّدف التي لعِبَت دورها حين تعرَّضَ أب ندى لحادث مروّع في المهجر... كلّ تلك الظروف أوصلَت صديقتي إلى مصير أشبه بكابوس لم ينتهِ إلا بطريقة مأساويّة.

 

كلّ شيء بدأ عندما كانت ندى في الثامنة مِن عمرها. كان أبوها مسافرًا، ويقضي معظم وقته بعيدًا عن عائلته ليأتي لها بما يُمكنّها مِن الإستمرار. وكي لا تبقى الأم لوحدها، جاءَت بأخيها المراهق نديم إلى البيت.

وكان ذلك الشاب ينام في غرفة صديقتي بسبب وجود سرير اضافيّ، بينما كان أخوَي ندى ينامان في غرفة أخرى.

وكان نديم يدلل ندى كثيرًا، يجلب لها الهدايا ويروي لها القصص الجميلة ليلاً بعدما يترك سريره وينام بالقرب منها. كان يُداعب شعرها حتى تغفو والبسمة على وجهها. فتلك الفتاة الصغيرة كانت قد وجَدَت في خالها الدفء والأمان اللذَين افتقَدَتهما بسبب غياب والدها.

 

ومرَّت السنوات وكبرَت ندى لتصبح مراهقة جميلة جدًا ومِن أوائل حصّتها. كانت تروي لنا عن اهتمام خالها بها، وأتذكّر أنّنا كنّا نحسدها عليه، ونتمنّى أن يكون لنا خال أو عمّ بهذا الكمّ مِن الحنان واللطف.

 


وشاءَت الظروف أن يتعرّض والد ندى لحادث فظيع تركَه معلّقًا بين الحياة والموت. وبالطبع توجَّب على زوجته الذهاب إليه وبسرعة. لذا أوكَلَت إلى نديم مهمّة الإعتناء بأولادها، فذلك كان أفضل مِن أن تنقلهم إلى بيت أهلها ويُصبحوا بعيدين عن مدارسهم وأصدقائهم.

إلى جانب ذلك، كانت ندى قد أصبحَت في الرابعة عشرة مِن عمرها وباستطاعتها الإعتناء بأخوَيها الصغار.

 

وبالطبع لم يتأخّر الخال عن القبول، فكيف له أن يرفض تلك الفرصة الذهبيّة؟ كانت قد فتحَت أمّ ندى بنفسها باب حظيرة النعاج للذئب المفترس.

وحين أصبَحَ سيّد المكان، بدأ نديم بعمليّة غسل دماغ صديقتي. يومًا بعد يوم، أخَذَ يُقنعها بأنّها المفضّلة لدَيه وبأنّه يُحبّها بشكل قويّ وبأنّ ما سيحصل بينهما شيء طبيعيّ ومحتوم. ولِصغر عمرها وقلّة خبرتها بالحياة، رضخَت ندى للذي مهّد طريقه على مدى سنوات.

 

ولم نشك أبدًا بالذي كان يجري مع صديقتنا، إلا أنّنا بدأنا نلحظ عليها تغيّرًا في سلوكها وطباعها. فمِن الفتاة الفرحة، صارَت تجلس لوحدها تنظر بعيدًا وفي عَينَيها حزن عميق. ومِن الفتاة المجتهدة صارَت ترسب في المدرسة. أي أنّها لم تعد كما كانت، وبقيَت ترفض التكلّم حين كنّا نحثّها على إخبارنا بالذي يُؤثّر عليها بهذا الشكل. وصارَت المسكينة تنتظر رجوع أمّها بفارغ الصبر، على أمل أن تنتهي مأساتها. وبعد ثلاثة أشهر، عادَت والدتها مصطحبة زوجها الكسيح. ولم يعد لنديم أيّ سبب للبقاء فترَكَ المكان على مضض.

 

وباتَت صديقتي ترتعب كلّما جاءَ نديم ليأخذها مِن المدرسة، وتتوسّل إلينا كي نبقى معها ونرافقها حتى البيت. لم نفهم سبب خوفها مِن الذي كانت تتغنّى بمزاياه أمامنا، لذا اعتبرنا الأمر حركات مراهقة. وكنّا نراها تذهب معه والدّمعة في عينها، غير مدركات الذي كان ينتظرها. إلى أن قرّرَت ندى أخيرًا أن تفتحَ قلبها لي بالذات.

حَصَلَ ذلك بعد أن جاءَ نديم في الصّباح الباكر إلى مدخل المدرسة وأمَرَها بمرافقته. وأمام رفضها بدأ يصرخ كالمجنون حتى قَبِلَت خوفًا مِن لفت الأنظار. وعادَت إلى الصف بعد حوالي الساعة بحالة مزرية. حينها علِمتُ أنّ عليّ معرفة ما يجري مهما كلّف الأمر. وفي وقت الإستراحة، أخذتُها جانبًا وأصَرّيتُ على أن تقول لي ما يُرعبها بِنديم.

 

وحين انتهَت مِن إخباري، بكيتُ كما لم أبكِ في حياتي. كيف لم أصغِ إلى نداءاتها المتكرّرة؟ أيّة صديقة كنتُ؟ عانقتُها وبكينا سويًّا. وبعدما أصبَحَ أحدٌ يعرف ما يحصل لها، شعَرَت ندى أنّها لم تعد لوحدها. إلى أن سافَرَ نديم بصورة مفاجئة. لم يتكبّد عناء إخبارها بالأمر، وشعَرَت صديقتي أنّها فقدَت في آن واحد مغتصبها والرّجل الوحيد الذي عَرَفته.

 


فالجدير بالذكر أنّ هناك حالة نفسيّة تُسمّى "متلازمة ستكهولم"، وتحدث عندما يتعاطف الفرد مع مَن أساء إليه. وبالرّغم أنّ ذلك التعاطف يبدو غير منطقيّ، إلا أنّه إحدى الطرق للدّفاع عن النفس. فالضحيّة التي لا تستطيع السّيطرة على مصيرها، تستجيب وتتعاون مع المعتدي. ولم أعرف بتلك المتلازمة إلا بعد سنوات، بفضل قراءاتي العديدة والثقافة الواسعة التي وصلتُ إليها.

لِذا أصيبَت ندى بالإحباط والكآبة بعد رحيل نديم، خاصّة عندما وصلَتها أخبار زواجه. ولم تعد تعلم المسكينة إن كان عليها كرهه أم حبّه. ولسؤ حالتها النفسيّة، قصَدَت طبيبًّا مختصًّا وصَفَ لها المهدّئات والمنوّمات لتسطيع التغلّب على إحباطها.

 

واستمَرَّ وضعها لسنوات عديدة، حتى بعدما أُعجِبَ بها زميل لنا في الجامعة اسمه فؤاد. كان ذلك الشاب وسيمًا وذكيًّا جدًّا وله مستقبل لامع. أحبّها كثيرًا، ولكنّها رفضَته طبعًا بسبب سرّها الثقيل وعدم ثقتها بالرّجال. فكما قلتُ سابقًا كان نديم الرجل الوحيد الذي دخَلَ حياتها وكان أبشع مثال لأبناء جنسه.

وحتى بعد تخرّجنا جميعًا، بقيَ فؤاد يُلاحقها وهي تبعده عنها، حتى أصرَّ على معرفة سبب موقفها منه، خاصّة أنّه بدأ بالعمل وبجني المال الوفير.

ولأنّها لم تعد تملك ما تخسره، قرَّرَت ندى اخباره بالحقيقة ولكن ليس بكاملها، عالمة تمام العلم أنّ لا أحد سيستطيع تقبّل ما حصَلَ فعلاW. إكتفَت بالقول إنّها أحبَّت شخصًا كثيرًا ولم تعد عذراء بسببه، وإنّه تركها ليتزوّج مِن غيرها ممّا حملَهَا على رفض الإرتباط مجدّدًا. ولكثرة حبّه لها، لم يُغيّر فؤاد رأيه بها.

وهكذا تزوّجا. ولكنّ ندى لم تشعر بسعادة الزواج، لأنّ شيئًا فيها كان قد مات منذ زمن المراهقة. ولكنّها كانت قد قرَّرَت أن تبدأ مِن جديد مع ذلك الشاب الطيّب والمحب.

ووصلتَها رسالة مِن نديم يُهنّئها بها على زواجها. وعادَت إليها الذكريات الأليمة، ولكنّها لم تجب على خالها بل مزَّقَت الرسالة ورَمتها في النار، وكأنّها بذلك تطهّر نفسها التي دنَّسها ذلك الوحش. ورأَت في حملها وعدًا بالخلاص فانتظرَت مولودها بفارغ الصبر.

وحين أبصَرَ ولَدَها النور نظَرَت إليه وقالت له:

 

ـ أنتَ أمَلي الوحيد. سأحبّكَ وأحميكَ مِن كل أذى... لا تخف.

 

إلا أنّ لم يُكتَب لها أن تفرح أو أن تعيش حياة طبيعيّة. ففي ذات ليلة اختنَق طفلها في قيئه. كان في الشهر الثاني مِن حياته القصيرة. ورأَت ندى بتلك الفاجعة عقابًا على ما فعَلَته. لم تفكّر أنّها كانت هي الضحيّة بل حمَلَت ذنب خالها لوحدها.

وجدوها جثّة هامدة بعدما ابتلَعَت كامل محتوى علبة الأقراص منّومة، لترتاح مِن عذابها وتذهب إلى مكان حيث لا خطايا أو تأنيب ضمير.

ماتَت ندى، وحمّلَتني بطريقة غير مباشرة مهمّة اخبار قصّتها، ليعرف العالم بأسره ما يجري في الغرف المغلقة حين نُدخِل إليها ذوي النفوس المريضة ونسلّم لهم أطفالنا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button