ولاء أعمى

كنّا نعيش في بلدة صغيرة مؤلّفة مِن بيوت متواضعة وقصر كبير تسكنه عائلة ثريّة كانت في ما مضى تملك كامل الأراضي المجاورة، إلى حين تغيَّرَت الأيّام وانتقلوا مِن حالة إقطاعيّين إلى أثرياء فقط.

ولكنّ هَيمنتهم بقيَت راسخة في عقول الناس الذين كانوا يكنّون لهم احترامًا فائقًا، وكانوا يُنفّذون أوامرهم حتى لو كان ذلك مِن دون مقابل. كنتُ أسمع أبي يتكلّم عن السيّد فؤاد وكأنّه أحد الملوك، أي باحترام شديد وبصوت خافت، وكنتُ أضحك في سرّي على أمور اعتبَرتُها قديمة الطراز في زمن الألفيّة الثالثة.

وفي إحدى المرّات قلتُ لوالدي، بعدما طَفَحَ كيلي مِن ذلك التبجيل المفرط:

 

ـ أبي... لم يعودوا يملكون الأراضي وناسها، بل فقط ذلك القصر القديم الذي سينهار يومًا على رؤوسهم.

 

ـ لا سمَح الله! ما هذا الكلام يا مريَم؟ أنسيتِ مَن هم؟ لقد بنوا القرية وأعطوا السكان عملاً، ولولاهم...

 

ـ كان ذلك منذ زمن بعيد... الآن هم مثلنا تمامًا.

 

ـ السيّد فؤاد رحمه الله كان لطيفًا معي... أذكر أنّه ألقى التحيّة عليّ يوم مرَّ بالقرب مِن المنزل.

 

ـ ها ها ها! يا للمعاملة المميّزة! ألقى التحيّة عليكَ؟ أناس متشاوفون يُمنّنون الآخرين بالقاء التحيّة! وابنه، ذلك الذي اسمه وليد...

 

ـ السيّد وليد!

 

ـ لا يهم... إنّه متعالٍ ويقود سيّارته بسرعة فائقة وكاد أن يدهسني ذات يوم... حتى أنّه لم يُخفّف مِن سرعته ليرى إن كنتُ بخير أو يعتذر منّي.

 

ـ يعتذر منكِ؟ ومَن تكوني ليفعل ذلك؟

 

لم أجِب لأنّني كنتُ أعلم أنّ لا جدوى مِن الدخول في جدال عقيم مع أبي، وفضَّلتُ الانسحاب وتركه يُفكّر في كم أنّ ابنته عديمة الاحترام مع أسياده.

أمّا أمّي فكانت تشاطر أبي رأيه، ولكن بتحفّظ لأنّها كانت ترى أنّ زوجها يُبالغ بكلامه عن هؤلاء الناس.

 


ونما في قلبي كره للسيّد وليد ولأمّه العجوز، ولم أعد قادرة على سماع الأخبار التي كان السكان يتبادلونها عنهما، فلم يكن يهمّني أبدًا إذا اشتريا سيّارة جديدة أو أنّ طبّاختهما مرضَت أو أيّ شيء مِن هذا القبيل. كلّ ما كنتُ أريده هو الذهاب إلى المدينة للالتحاق بالكليّة واكمال دراستي، بعد أن بلَغتُ الثامنة عشرة مِن عمري.

وشاءَت الظروف أن تجري انتخابات البلديّة وأن يفوز أبي برئاستها وأن يذهب للقصر القديم لتقديم ولائه، كما كانت تجري العادة في الأيّام القديمة. هناك استقبَلَه وليد وهنّأه وأعطاه وسامًا كان يُزيّن صدر فؤاد الأب. لن أستطيع شرح مدى افتخار أبي الذي عَرَض الوسام في الصالون في إطار ذهبيّ وزجاجة لحماية الهديّة الثمينة، وباتَ يشرح للزوّار وبالتفاصيل كيف جَرَت المقابلة، وهم كانوا يستمعون إليه باحترام فائق بعد أن أصبَحَ أبي مِن "المختارين".

ولكنّ والدي لم يكن يعلم أنّ كان لهذا الرضى مِن قِبَل سكّان القصر ثمَن، وأنّ ولاءه سيكون مِن غير حدود. هكذا كانوا، يأخذون كلّ شيء ولا يُعطون إلا الفتافيت.

كنتُ قد وجَدتُ كليّة في العاصمة ومكانًا أسكن فيه، وبالطبع عارَضَ أبي أن أعيش لوحدي حتى لو كان ذلك لتحصيل العلم. وتعالَت أصواتنا، فهو كان يُهدّد وأنا أصرّ، وأمّي تحاول تهدئة الوضع قدر المستطاع. وصَرَختُ به:

 

ـ لن أبقى مِن دون شهادة لأنّكَ لا تثق بي!

 

ـ ولكنّ الناس... ماذا سيقولون عنّي؟ أنسيتِ مركزي في البلدة؟

 

ـ وما دخلي إن كنّا نعيش في مكان بعيد عن كلّ شيء؟

 

عندها تدخّلَت والدتي وقالت لأبي:

 

ـ يا معين... البنت تريد دخول الجامعة، وفي أيّامنا مَن لا يحمل شهادة جامعيّة لا يجد عملاً... لِما لا تشتري لها سيّارة، هكذا لن تضطر ابنتنا للنوم بعيدًا عن البيت... لدَينا المال الكافي لذلك فلقد وضعناه جانبًا خصّيصًا لِدراسة مريَم.

 

وقَبِلَ أبي أن يشتري لي سيّارة، ولكن بشرط إلا تكون جديدة بل مستعملة كي يبقى له ما يكفي لدفع تكاليف الجامعة، وكم كانت فرحَتي كبيرة خاصّة أنّ السيّارات كانت قليلة في البلدة، فأكثر المركبات كانت مخصّصة لنقل المحاصيل والمواشي.

تعلَّمتُ القيادة، وحصَلتُ على رخصة، وتسجّلتُ بالجامعة وبدأتُ أقود إلى الكليّة ذهابًا وأيّابًا. كان الطريق طويلاً ومتعبًا ولكنّني كنتُ في سنّ لا يُتعبه شيء.

وبعد حوالي السّنة، حصَلَ ما لم أتصوّره حتى في أبشع كوابيسي، ولن أنسى ما دمتُ على قَيد الحياة ما شعَرتُ به بتلك الليلة حين جاء أبي وطلَبَ أن يُكلّمني على انفراد. كان مِن الواضح أنّ الموضوع بغاية الأهميّة لأنّه بالكاد كان ينظر إليّ. وتمتَم شيئًا لم أفهمه وطلبتُ منه أن يُعيد كلامه، فقال بخجل:

 

ـ مريَم... تعلمين كم أحبّكِ، أليس كذلك؟ أنتِ وحيدتي ولم أتمنَّ يومًا أن يكون لكِ أخ أو أخت لكثرة فخري بكِ...

 

ـ ما الأمر يا أبي؟ أنتَ تخيفني.

 

ـ وأريدكِ أن تثبتي لي أنّني محقّ بافتخاري بكِ يا صغيرتي.

 


ـ وهل خذَلتُكَ يومًا؟

 

ـ لا، لا، ولكن... ما سأطلبُه منكِ هو تضحية كبيرة... إفعلي ذلك مِن أجلي فأنا الذي جلبتُكِ إلى الدّنيا وكبَّرتُكِ... أنا أبوكِ وعليكِ اكرامي.

 

ـ ماذا تريد؟!؟ تكلّم!

 

ـ سأقول لكِ، ولكن أرجوكِ ألا تقاطعيني... منذ حوالي الساعتَين دهَسَ السيّد وليد أحد سكّان البلدة... تعلَمين كم أنّه يُسرع أثناء القيادة... الرّجل لم يمت... على ما أظنّ... والسيّد وليد لم يتوقّف لتفقّده لأنّه خافَ على نفسه... الرّجل لم يرَه لأنّ الصدمة جاءَته مِن الخلف ولأنّ السيّد أطفأ أنوار السيّارة فورًا بعد أن صَدمه...

 

ـ يا إلهي! كيف ترَكه هكذا! كيف لم يُنجده؟!؟

 

ـ خافَ السيّد على سمعة العائلة... هم أناس مهمّون.

 

ـ لم أفهم ما الذي تريده منّي؟ وهل أنا مسعفة أو ممرّضة أو طبيبة؟

 

ـ فور عودة السيّد وليد إلى القصر أخبَرَ والدته بالأمر، وهي استدعَتني لإيجاد حلّ لتلك المصيبة... تعلَمين كم أنّهما يثقان بي فأنا...

 

ـ كفى يا أبي! أدخل في صلب الموضوع.

 

ـ طلبَت منّي السيّدة أن نقول إنّكِ أنت التي دهَستِ الرّجل بسيّارتكِ.

 

ـ ماذا؟؟؟ أنا حتمًا أحلم! كم أنّهما شرّيران! وماذا قلتَ لهم؟ هل صَرَختَ فيهما وشتمتَهما؟

 

ولكنّ أبي بقيَ صامتًا. عندها صَرَختُ:

 

ـ ما بكَ لا تجيب؟ ماذا قلتَ لهما؟

 

ـ حبيبتي... الرّجل لم يمت... فلَن تكون جريمة... وعداني بأن يهتمّا بمستقبلكِ... حتى آخر أيّامكِ... أفعلُ ذلك مِن أجلكِ.

 

ـ بل مِن أجل نفسكَ! أسياد القصر يملكانكَ ولكنّهما لا ولن يملكان شعرة واحدة مِن رأسي! لقد تحمَّلتُ ولاءكَ السخيف لهما طوال سنين! أنتَ مدين لهما بوسام لا قيمة له إلا بذهنكَ! تريد زجيّ في السّجن وتلطيخ سمعَتي إلى الأبد لتحمي ابن الست؟ عار عليكَ! صحيح أنّ عليّ إكرام أبي ولكن فقط لو كان أبًا حقيقيًّا، أمّا أنتَ فسلتَ سوى رجل مِن دون شَرَف!

 

ـ لا أسمح لكِ!!!

 

ـ لا... لا تسمح لي ولكنّكَ تسمح لهما! ماما! تعالي بسرعة!

 

ركضَت أمّي، وأخبَرتُها عمّا يُريدني أبي أن أفعل، نظَرَت إليه بغضب شديد وقالَت له:

 

ـ كفى... ولاؤكَ أصبح شبيهًا بالمهزلة... تريد أن تضحّي بلحمكَ ودمكَ مِن أجل غرباء؟ وإن بقيتَ مصرًّا على موقفكَ سأترك لكَ البيت ولن ترى وجهي مجدّدًا... أسمعتَني؟

 

ثمّ استدارَت نحوي وأضافَت:

 

ـ لا تخافي يا صغيرتي... لن يُلصق أحد أيّة تهمة بكِ ما دمتُ على قيد الحياة... حين تنتهي تلك المسألة ويُعاقَب المجرم الجبان، ستذهبين للعيش في المدينة... أتركِي أباكِ لي.

 

خجِلَ أبي مِن نفسه وخَرَج مِن البيت ذليلاً. كيف تجرّأ حتى على التفكير بتقديم ابنته ككبش محرقة لانقاذ سمعة هؤلاء الناس، لا أدري. حاولتُ إيجاد الأعذار له ولكنّني لم أجد ما يُبرّر فعلته. ولكثرة مكرهما، وبالرّغم مِن أنّ أبي رفَضَ أخيرًا أن يُضحّي بي، قال وليد وأمّه للشرطة أنّ لا بدّ أن أكون أنا الفاعلة لأنّني وحسب قولهما أقود بسرعة فائقة، ولكنّهما ولكثرة غبائهما نسيا أنّ الحوادث تترك آثارًا على السيّارات. وحين جاء المفتّش إلى بيتنا ورأى سيّارتي، لم يجد طبعًا أيّ أثر عليها. عندها قلتُ له:" لِما لا تفحص سيّارة الذين دلّوكَ عليَّ".

 

وتمّ القبض على وليد ورُميَ في السجن حيث مكانه الحقيقيّ.

وبعد تلك الحادثة، تغيّرَت نظرة الناس إلى تلك العائلة، إذ أدركوا أنّ أحد السكان كاد أن يموت بسبب الذي كانوا يُسمّونه السيّد، وأنّه فرّ كالجبان وسط الليل.

لم يعرف أحد بما كان ينوي فعله والدي وإلا لاحتقروه حتى مماته.

إنتقَلتُ إلى العيش في المدينة بعدما أعطَتني أمّي المال اللازم لذلك، وبعد فترة لحِقَت بي لأنّها لم تعد قادرة على العيش مع زوجها، خاصّة أنّه بقيَ يذهب إلى القصر ليُلبّي أوامر الستّ وكأنّه لم يتعلّم شيئًا مِن الذي حصل.

هل أحبَّني أبي يومًا؟ ربمّا إلى حين كان عليه أن يختار بيني وبين ولائه لأسياده. نفسٌ صغيرة لا تكبر إلا مِن خلال مَن هم أكبر منه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button