وقعت ضحية قلبي الطيب

مِن أجمل ذكريات طفولتي، عندما كانت أمّي تقرأ لي ولأختي قصصًا قبل النوم. كنتُ أغمض عَينَيَّ على صوَر مغامرات الأمير الشجاع الذي كان يُسرع لإنقاذ الفتيات المظلومات ويخوض معارك مِن أجلهنّ. كبرتُ وفي قلبي كره عميق للظالمين واندفاع لحماية الضعفاء. خصال حميدة، تقولون لي، ولكنّ هذا بالذات ما أوقَعَني في شباك أناس بلا رحمة يخالون أنّ الطيبة هي ضعف والشهامة غباء.

كلّ شيء بدأ عندما كنتُ في أوّل مسيرتي المهنيّة كمحامٍ، أيّ غير قادر بعد على التمييز بين الناس بسبب قلّة خبرتي. فيوم جاءَت إليّ سعاد باكية وشاكية، إنتابَتني رغبة قويّة بمسح تلك الدموع واسترجاع حقّها بسرعة. لن أنكر انّ تلك المرأة كانت جميلة جدًّا وجذّابة للغاية، الأمر الذي لعِبَ دورًا أساسيًّا في تعلّقي بها.

كانت سعاد متزوّجة مِن رجل عنيف وبخيل، وكانت تريد إنهاء عذابها بسرعة، والحصول على تعويض للسنوات التي قضَتها معه بالذل ومِن دون أولاد بسبب عقر أخفاه عنها.

كانت القضيّة صعبة، فلم يخطر ببال موكلّتي تصوير كدماتها أو زيارة طبيب أو مشفى، ولم أستطع العثور على شهود مِن بين الجيران أو الأقارب لإثبات سوء معاملة الزوج أو معرفته المسبقة بعقره. فالحقيقة أنّ الرجل كان يعرف كيف يُخفي عن الناس طبعه البشع ليبدو أمامهم زوجًا صالحًا لا بل مثاليًّا. حلّي الوحيد كان أن أحصل مِن الزوج نفسه على تعويض لسعاد، بعد أن أقنعه بتطليقها، وذلك بالايحاء له أن قضيّتنا رابحة وأنّه سيتعرّض للإهانة لو مضى بالمحاكمة.

يوم جلَسَ الرجل في مكتبي، رأيتُ أمامي شخصًا هادئًا وموزونًا، ولكنّني لم أقع في فخّه بعدما أخبرَتني سعاد أنّه بارع بالتمثيل. إلا أنّني تفاجأتُ به يقول لي:

 

ـ لا داعٍ لكلّ هذه الجلبة... سأطلّق سعاد ساعة تشاء وأعطيها ما تريده... ما يهمّ هو أن ترحل بعيدًا عنّي.

 

لم أعلم بما أجيب، فاكتفَيتُ باعطائه نسخة عن طلباتنا وتحديد موعد للتوقيع على أوراق الطلاق. وبعد أيّام معدودة، أصبحَت موكّلتي امرأة حرّة وسعيدة.

 


أصرَّت سعاد أن تدعوني إلى مطعم جميل للاحتفال بنصرنا، وقبلتُ مُحرجًا لأنّني لم أكن معتادًا أن تدفع امرأة عنّي وجبات طعامي. لِذا سُرِرتُ جدًّا عندما استطعتُ إقناعها عند انتهاء العشاء بأن تدَعني أدفع عنها. ودّعتُها وتمنَّيتُ لها مستقبلاً جميلاً وهادئًا، وخلتُ حقًّا أنّني لن أراها مجدّدًا. لكنّها اتصلَت بي بعد أيّام لتقول لي إنّها أعدَّت عشاءً في بيتها وتصرّ على مجيئي. أقول بيتها، ولكنّني أعني بذلك بيت زوجها الذي تركَه لها حسب اتفاقيّة الطلاق. ذهبتُ إلى المكان المذكور وباقة ورد في يدَي، غير مقتنع بدخول بيت امرأة تعيش لوحدها. صحيح أنّني كنتُ معجبًا بسعاد، إلا أنّني كنتُ أيضًا مِن الذين يتقيّدون بالقيَم والتقاليد.

كانت سعاد بكامل أناقتها. ومِن رائحة الطعام الشهيّة علِمتُ أنّها طاهية ماهرة، أي المرأة المثاليّة في نظر الرجال. قضَينا وقتًا ممتعًا حتى بدأَت المسكينة بالبكاء بعد أن تذكّرَت عذابها مع زوجها. أسرعتُ طبعًا بمواساتها، وقلتُ لها إنّ الأسوأ انتهى. عانقتُها ولفَّيتُ مِن حولها ذراعَيَّ القويّتَين. لم أتوقّع أن تقبّلني سعاد، ولم أمانع. وهكذا دخَلَت تلك المرأة حياتي، ويا لَيتني تذكّرتُ ما قاله عنها زوجها السابق: "ما يهمّ هو أن ترحل بعيدًا عنّي."

عرّفتُ سعاد إلى أهلي ولم يُحبّوها، ممّا أزعجَني إلى أقصى حدّ، خاصّة أنّهم لم يتمكّنوا مِن إعطائي سببًا وجيهًا بل اكتفوا بالقول إنّ الأمر انطباع فقط. ولأنّ سعاد كانت حبّي الأوّل، تناسَيتُ تحفّظات أهلي بشأنها وبقيتُ مصرًّا على ربط حياتي بحياتها. وهكذا تزوّجنا وسط فرحة خجولة وتمنّيات ممزوجة بالحذر.

في ذلك الحين كانت سعاد قد باعَت بيت زوجها لتنتقل إلى شقّة إشترَيتُها لنبني فيها أسرتنا، فكان مِن المستحيل أن أعيش في بيت الذي عذّبها والذي أجبرتُه على تركها.

عشنا أيّامًا سعيدة سويًّا وبدأت عائلتي تعتاد على زوجتي وتستلطفها، ولكن سرعان ما بدأ طباعها بالتغيّر. فلقد صارت سعاد سريعة الغضب وكثيرة المطالب. صحيح أنّني كنتُ مِن عائلة عريقة وثريّة، لكنّني كنتُ مصرًّا على جني مالي مِن تعَبي، وكان الأمر يتطلّب بعض الوقت، فكما ذكرتُ كنتُ لا أزال محاميًا ناشئًا.

وكلّما رفضتُ لزوجتي طلبًا غير معقول كانت تصرخ بي:

 

ـ أنتَ بخيل! لدَيكم الكثير من المال!

 

ـ أهلي هم أصحاب المال وليس أنا... أصبري قليلاً... سأصبح مشهورًا وستحصلين على كلّ ما تتمنّاه نفسكِ... لدَينا شقّة جميلة في حيّ راقٍ، وسيّارة حديثة الطراز ونخرج إلى المطاعم مرّة في الأسبوع، أي أنّ حياتنا هنيئة.

 

ـ أنتَ كزوجي السابق! الفرق الوحيد بينكما هو أنّكَ لستَ عنيفًا.

 

كان كلامها يؤذيني ولكنّني تفهّمتُ وضعها، فهي عانَت كثيرًا وكان يلزمها بعض الوقت لتستعيد ثقتها بالرّجال.

إنتظرتُ بفارغ الصبر أن نُرزَق بطفل، ولكن مرَّت ثلاث سنوات مِن دون جدوى. لِذا أخذتُ سعاد إلى الطبيب الذي أجرى لنا الفحوصات اللازمة. كانت زوجتي ترتجف كالورقة وتلومني على إجبارها للخضوع على ما أسمَته "فحوصات مهينة"، لكنّني لم أردّ على كلامها بل انتظرتُ النتائج بفارغ الصبر.

وَقَع الخبر عليّ كالصاعقة عندما علِمتُ أنّ سعاد عاقر، ليس لأنّني لن أحظى يومًا بذريّة، بل لأنّها اتّهمَت زوجها السّابق بالعقر. ولكن لماذا لم يُدافع الزوج عن نفسه عندما جاء إلى مكتبي؟ وهل كانت هناك أكاذيب أخرى بانتظاري؟

عندها بدأتُ أشكّ بكون سعاد امرأة معنّفة، فكما ذكرتُ لم يكن لدَيها صوَر أو تقارير تثبت ذلك. ونما في قلبي اشمئزاز تجاه تلك المرأة التي لم تشأ حتى تبرير أنّها عاقر.

 


بدأتُ أقضي معظم وقتي في مكتبي وعند أهلي، ولا أعود إلى البيت إلا بعد أن تكون سعاد قد خلَدَت إلى النوم. أمّا هي، فبقيَت تتصرّف كعادتها، أي تطالب بالمزيد والمزيد.

ثمّ مات والدي وحصلتُ على حصّتي مِن الميراث، الأمر الذي هدّأ مِن روعة زوجتي. ولكن كم كانت خيبتها كبيرة عندما أخبرتُها أنّني سأستثمر المال بمكتبي لتكبيره، وجلب موظّفين وإقامة شبكة علاقات عامّة واسعة، وبالمال المتبقٍّ سأساعد بعض الأقرباء والأصدقاء. كنتُ قد ضخّمتُ الأمر عن قصد لأرى ردّة فعلها، وإذ بها تنفجر غضبًا وتصيح وتشتم. فقلتُ لها:

 

ـ لا أفهم استياءكِ... نعيش جيّدًا ولدَيكِ المال الذي حصلتِ عليه مِن بيع شقّة زوجكِ.

 

ـ هذا المال لي.

 

ـ ومال أبي لي.

 

ـ كلا! هو لي! أنا زوجتكَ.

 

ـ لا أفهم طريقة تفكيركِ... أعمل مِن الصباح حتى الليل لأجلب لكِ المال وأنتِ لا تفعلين شيئًا طوال النهار، وتريدين أيضًا أن أعطيكِ تعب أبي؟

 

ـ أجل.

 

ـ ولا تريدين إعطائي مِن مالكِ؟

 

ـ صحيح ذلك.

 

في تلك اللحظة استوعبتُ أنّ عليّ ترك زوجتي، إذ فهمتُ إصرار زوجها السّابق على التخلّص منها. ولكنّني لم أكن مستعدًا مثله أن أعطيها شيئًا، خاصّة بعدما كذبَت عليّ بشأن تعنيفها وعقرها، وقلتُ لها ذلك بكلّ وضوح. ولكن قبل المضيّ بالطلاق، تعرّضتُ لحادث اعتداء عنيف مِن قِبَل مجهولَين.

كنتُ عائدًا مِن منزل أهلي واستعدّ لركن سيّارتي تحت مبنانا، حين رأيتُ رجلاً واقفًا أمامي يُلوّح بيدَيه. نزلتُ مِن المركبة لأرى ما باله، حين انقضّ عليّ آخر مِن الوراء وضربني بقوّة على رأسي. وعندما فتحتُ عَينيَّ أخيرًا، كنتُ في المشفى محاطًا بالأطبّاء والمحبّين الذين قالوا لي إنّ حادثتي وقعَت قبل أسبوعَين وإنّهم خالوا أنّني لن أستفيق أبدًا. لم أجد سعاد إلى جانبي وقلتُ للحاضرين:

 

ـ مع أنّني لا أملك أيّ دليل على ذلك، أنا متأكّد مِن أنّ زوجتي هي وراء محاولة قتلي.

 

عندها أجابَتني أختي:

 

ـ لا تخف يا أخي فهي الآن موقوفة مع أخَويها... فور معرفتنا بما حصَلَ لكَ، إتّصَلنا بالشرطة وقلنا لهم إنّنا نشكّ بسعاد. وبعد أن حقّقوا معها لأيّام، إعترفَت أخيرًا بأنّها أرادَت التخلّص منكَ قبل أن تطلّقها. لا تخف، فهي لن تزعجكَ بعد الآن ولمدّة طويلة جدًّا.

حضَرتُ محاكمة سعاد وأخوَيها، ورأيتُهم يُقادون إلى السّجن لسنين عدّة. أعلم أنّ ما حَدَث لي هو، على الأقل جزئيًّا، خطئي، إلا أنّني لم أكن لأتجنّب الوقوع بفخّ سعاد لأنّني كنتُ أفتقد للخبرة وهي كانت متمرّسة بالكذب والاحتيال.

أنا اليوم محام قويّ آخذ أكبر القضايا، لكنّ قلبي بقيَ خائفًا مِن الحب. أنا متأكّد مِن أنّه سيشفى يومًا، وحتى ذلك الحين، سأتابع دفاعي عن المظلومين الحقيقيّين.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button