هوَس الإنجاب

عندما تزوّجنا، كانت حالتي الماديّة جيّدة جدًّا بفضل وضعي الذي كان يُمكّننا مِن العَيش بدون أن نحسب حسابًا لأيّ شيء. كنّا قد أنجَبنا ولدَين، ونتحضّر لجَلب المزيد إلى هذه الدّنيا، فقد كانت نسرين زوجتي تعشق الأطفال، وتودّ منافسة أختها التي صارَت أمًّا لعائلة كبيرة. وجدتُ الأمر طريفًا، فغالبًا ما تتنافسُ النساء على المقتنيات الثمينة ولكن نادرًا على الإنجاب. لم أبالِ آنذاك لأنّني كنتُ قادرًا على الصّرف على أيّ عدد مِن أطفال قد تجدُه نسرين مناسبًا لها. همّي الوحيد كان صحّتها وقدرتها على القيام بواجباتنا الإجتماعيّة العديدة، فالجدير بالذكر أنّني كنتُ مِن الرّجال المرموقين وأتمتّع بمكانة عالية في محيط الصناعيّين.

إلا أنّ أوضاع البلد بدأَت تتردّى، وشريكي في المصنع أخَذَ ذات يوم الجزء الأكبر مِن رأس مالنا وسافَرَ به إلى بلد بعيد جدًّا. حاولتُ التعويض عن خسارتي بشتّى الطرق، لكن مِن دون جدوى. فلَم يعد أحد قادرًا على الإستثمار في وقت أرادَ الكلّ الحفاظ على ما لدَيه خوفًا مِن التّدهور الحاصل. بعتُ أسهمًا كنتُ أملُكها، لكنّ المبلغ لم يكن كافيًا.

حاولتُ متابعة حياتنا مِن دون أن تشعر نسرين بشيء. لكن عندما أرادَت إنجاب ولد ثالث، طلبتُ منها الترّيث وشرحتُ لها الوضع الدقيق الذي كنّا فيه. إلا أنّها لم تسمع منّي بل بقيَت مصمّمة على رأيها. وبعد 9 أشهر، وُلِد لدَينا توأمان وشعرتُ بغضب شديد أخفَيتُه هو الآخر.

تلك الولادة المزدوجة أعطَتني حافزًا لأجد ما يُمكّنني مِن استعادة ما خسرتُه، فرحتُ أدقّ أبواب معارفي الرفيعي المستوى، إلا أنّهم أداروا لي ظهرهم. فما مِن أحد يُحبّ المُفلسين، وهم باتوا يخجلون منّي إلى درجة عدَم القاء التحيّة عليّ حين أصادفُهم. صِرتُ بالنسبة إليهم العنزة الجرباء التي يجب الإبتعاد عنها ونسيان وجودها.

إضطرِرتُ لصرف معظم عمّالي، وصارَ المصنع يعمل على ماكينة واحدة، الأمر الذي لم يكن كافيًا طبعًا، ورأيتُ أنّ لا منفعة مِن المواصلة. وبعد شهرَين، أقفلتُ المصنع وأعلَنتُ إفلاسي.

لامَتني نسرين كثيرًا بالرّغم مِن أنّني شرحتُ لها أنّ لا دخل لي بما أصابَنا. لكنّها بقيَت مُصرّة على أنّني كنتُ قادرًا على إيجاد طريقة للحفاظ على مستوى عَيشنا، خاصّة أنّها كانت تنوي الإستمرار بتكبير عائلتنا:

 

ـ علينا أن نُنجب ولدَين إضافّيَين.

 

ـ ماذا؟!؟ ألا يكفيكِ أربعة؟

 

ـ لا... فأختي لدَيها خمسة وأنا مصمّمة على التغلّب عليها.

 


ـ ألا تجدين كلامكِ سخيفًا في ظلّ ما نمّر به؟

 

ـ لن أقبل أن تشمت بي أختي والناس... سنواصل العَيش كما في السابق وأنجبُ قدر ما أشاء! تريد أن يعلم الجميع أنّنا فقراء؟

 

ـ لستِ واقعيّة أبدًا... إرحميني وارحمي أولادنا الذين يحقّ لهم أن ينالوا الأفضل. على كلّ حال، لن تستطيعي الإنجاب مِن دوني. أنا أرفض قطعيًّا.

 

ـ ماذا ستفعل؟ ستتوقّف عن معاشرتي؟

 

ـ نعم، إن تطلّب الأمر ذلك. تعقّلي يا نسرين، إن تحسّنَت أحوالنا، أعدُكِ بأن أملأ البيت أطفالاً!

 

صِرتُ أتجنّب الإقتراب مِن زوجتي، لأنّني كنتُ متأكّدًا مِن أنّها ستغتنم الفرصة لتنفّذ ما في رأسها، الأمر الذي أبعَدَنا عن بعضنا أكثر. حاولَت نسرين إغوائي بارتداء ملابس مُغرية والتحرّش بي، إلا أنّني قاومتُها بصرامة. كنتُ فعلاً لا أفهم منطقها وإصرارها على قيادتنا جميعًا إلى الهاوية.

وجدتُ عملاً إستشاريًّا في إحدى الشركات الصناعيّة، لأنّني كنتُ قد أصبحتُ خبيرًا في ذلك المجال، وكان راتبي بالكاد يكفي لمصروفنا اليوميّ والمدارس. وكم كانت فرحَتي كبيرة عندما أخبرَتني زوجتي أنّها تنوي هي الأخرى العمل، فذلك كان يعني أنّها أدركَت أخيرًا حقيقة وضعنا الماليّ. قرَّرَت نسرين وضع التوأم عند أختها، بينما يذهب الولدان الكبيران إلى المدرسة وهي إلى مكتب محام حيث كانت ستعمل لدَيه كسكرتيرة.

بعد ذلك، تحسّنَت أحوالنا الماديّة بشكل طفيف وعادَت البسمة ترتسم على وجه نسرين. فالذهاب إلى العمل يوميًّا أعطاها دفعة معنويّة، لأنّها باتَت ترى أناسًا جدد وتنال راتبًا أتاحَ لها الإنفاق ولو بعض الشيء.

لكنّني لم أجرؤ على الإقتراب مِن زوجتي خوفًا مِن أن تحمل مجدّدًا، وبقيتُ آمل أن تعي ما كانت تنوي فعله.

بعد فترة، حدَث تغيّر بتصرّفات نسرين تجاهي، أي باتَت أكثر تعقّلاً وتجاوبًا. وكَم كنتُ مسرورًا يوم عادَت مِن عملها قائلة:

 

ـ حبيبي... قصدتُ الطبيب اليوم وطلبتُ منه أن يصف لي حبوبًا لمَنع الحمَل، فلقد اشتقتُ لكَ ولحضنكَ الدافئ... أعلَمُ أنّني السّبب بمقاطعتكَ لي وأنا آسفة جدًّا... هل تسامحني؟

 

وأرَتني علبة الأقراص ووصفة الطبيب التي تُثبت بأنّها فعلاً تمنع الحمل. أخذتُ زوجتي بين ذراعيَّ وقبّلتُها بحرارة. كنتُ قد استعَدتُ حبيبة قلبي، الأمر الذي سيُسهّل لي التركيز على عملي وربّما استرجاع ما ضاعَ منّي.

وفي الليلة ذاتها، أخَذَت نسرين أمامي قرصًا، ووعَدتني بأنّها ستفعل ذلك كلّ يوم وعلى مرأى منيَّ.

صِرتُ أسعد رجل في الدّنيا، ووعدتُ نفسي بأن أجلب هديّة جميلة لزوجتي حالما أحصل على راتبي وذهبتُ أختار لها ما قد يُعجبها. وفي نهاية الشهر، قدّمتُ لها خاتمًا جميلاً وهي شكَرتني باكية وعانقَتني بحب وحنان قائلة:

 


ـ أهي هديّة مِن زوج سيُصبح أبًا لولده الخامس؟

 

ـ ماذا؟!؟ مِن المؤكّد أنّكِ تمازحيني!

 

ـ لا يا حبيبي... ولا أدري كيف حصل ذلك! أخذتُ الأقراص أمامكَ! سألتُ الطبيب عن السبب وقال لي، وللأسف، إنّ أقراص منع الحمل هي فعّالة بنسبة 99% ومِن الواضح أنّها مشيئة الله، وإلا كيف تفسّر ذلك؟ مِن المؤكّد أنّ القدير لا يُريدنا أن نتوقّف عن الإنجاب وعلينا قبول هذا الطفل وكأنّه هديّة مباركة.

 

لم أعد أعلم ما عليّ ظنّه أو فعله، واكتفَيتُ بالتغلّب على غضبي وعدم صبّه على زوجتي وأولادي. فربما كانت نسرين على حق. حملها كان يُعتبر شبه عجائبيّ وكان عليّ تقبّله.

سارَ حمل نسرين مِن دون مشاكل، وأخذتُ أفتّش عن مصدر رزق إضافيّ لأتمكّن مِن إطعام عائلتي حين تتوقّف زوجتي مِن العمل بعد الولادة. لكن لقائي بأحد الأطبّاء صدفة في مقرّ عملي غيّر معطيات كثيرة. فحين سألتُه عن تقييمه لحمل زوجتي سارعَ بسؤالي:

 

ـ هل أخذَت الأقراص يوميًّا؟

 

ـ أجل، فعلَت ذلك أمامي ولم تفوّت ولو مرّة واحدة.

 

ـ هل تشرب زوجتكَ الكحول أو تتعاطى المخدّرات؟

 

ـ أبدًا!

 

ـ هل تقيأَت وراجعَت بعد تناولها أحد الأقراص بقليل؟

 

ـ لم يحصل ذلك أبدًا.

 

ـ إذًا عليكَ التأكّد مِن أنّها أخَذَت فعلاً أقراص منع الحمل.

 

ـ رأيتُ العلبة وقرأتُ التعليمات التي في داخلها وهي فعلاً لهذا الغرض.

 

ـ ولكنّكَ لا تعلم إن كانت الأقراص الموجودة في العلبة هي لمنع الحمل. خُذها إلى صيدليّ وأنا متأكّد مِن الذي سيقوله لكَ. لكن عليكَ التعقّل قبل أن تتخذّ قراركَ... لا تنس أنّ زوجتكَ حامل.

 

ركضتُ إلى البيت وجلبتُ علبة الأقراص إلى الصيدليّ الذي أجابَني بسرعة فائقة: "إنّها أقراص لألم الرأس". ونظَرَ الرجل إليّ بأسف مضيفًا:

 

- لستَ الرّجل الوحيد الذي وقَعَ بهذا الفخ.

 

لم أستطع استيعاب مكر نسرين وإلحاحها على الإنجاب الذي تطلّب منها كلّ ذلك التخطيط والتنفيذ. كنتُ قد أصبحتُ بالنسبة لها ماكينة إنجاب وليس زوجًا وحبيبًا وصديقًا. عندها اضطرِرتُ لأخذ قرار صَعب جدًّا وهو التوقّف عن اعتبراها زوجتي، على الأقل نفسيًّا وعاطفيًّا وجسديًّا. وفي غضون لحظات أمسَت نسرين غريبة عنّي، إمرأة تسكن معي فقط.

أطلعتُها على قراري، والغريب في الأمر أنّها لم تستأ كثيرًا، بل سألَتني إن كنتُ سأتابع الإنفاق عليها وعلى" أولادها"، كما قالَت. طمأنتُها بأنّني سأقوم بواجباتي الماديّة، وهي عادَت إلى تحضيراتها لاستقبال مولودها الخامس. كانت بذلك ستعادل رقم أختها.

عشتُ فترة طويلة أعود إلى بيتي لألعب مع أولادي وأتناول العشاء وأذهب مِن بعدها للنوم في غرفتهم، إلى أن وجدتُ الحبّ أخيرًا بشخص امرأة رائعة جاءَت لتعمل في الشركة. أحبَبتُ شخصّيتها الهادئة ومنطقها الذي افتقَدتُه عند نسرين. وباتَ مِن الواضح أنّ الحياة تقدّم لي فرصة جديدة لأكون سعيدًا. وهكذا تزوّجتُ وانتقلتُ للعَيش في بيت زوجتي الثانية.

إرتاحَت نسرين لرحيلي، فبذلك كانت ستتفرّغ لأولادها، الأمر الذي أكَّدَ لي مرّة أخرى، أنّني لا أعني لها شيئًا.

لم أفوّت يومًا مِن دون رؤية أولادي وقضاء وقت معهم، وتمكّنتُ مِن تأمين كلّ ما يحتاجون إليه. لم تنجب زوجتي الثانية فقد كان ذلك شرطي الأوحد لها، ولقد مضى على زواجنا أكثر مِن عشر سنوات، وأستطيع القول إنّني في قِمّة السّعادة، خاصّة أنّني استعَدتُ مكانتي الإجتماعيّة بفضل إنسانة وقفَت بجانبي وحثّتني على إخراج ما بداخلي مِن طاقات وقدورات.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button