هل الإنجاب ضروري؟

هاجَرتُ إلى أوروبا حين كنتُ في الثامنة عشرة مِن عمري، لأدخل الجامعة وأبقى حيث أنا لاحقًا بسبب أوضاع بلادنا الرديئة. واجهتُ صعوبات في البدء، لكنّني تأقلمتُ أخيرًا مع التقاليد الغربيّة وطريقة العَيش التي كانت تختلفُ كثيرًا عن الذي عرفتُه حتى ذلك الحين. رحتُ الجامعة ونلتُ شهادتي وبدأتُ بالعمَل. كنتُ سعيدًا لأنّني وجدتُ نفسي على درب النجاح والراحة، وبالرغم مِن التكاليف والضرائب الباهظة.

حياتي العاطفيّة لَم تكن موجودة في البدء، إلى حين فَهمتُ العقليّة النسائيّة الأوروبيّة وصارَت لي صديقات. لَم أكن أنوي الزواج في تلك المرحلة، خاصّة أنّ أمّي أصرَّت على أن أتّخذ زوجة مِن بلدنا. لكن، مع الوقت، رأيتُ الفرق الشاسِع بين البنات الغربيّات والشرقيّات مِن حيث القناعة والمطالب. وحين تعرّفتُ إلى نيكول، نسيتُ توصيّات والدتي بسرعة، مُنبهرًا بجمالها وبساطتها وطريقة عَيشها.

كانت نيكول عارضة أزياء فائقة الجمال والجاذبيّة، ولَم أتصوّر أنّها ستقبل بمواعدة موظّف أجنبيّ. إضافة إلى ذلك، لَم أكن مِن ضمن دائرة مَن تُعاشِر عادةً، بل أقضي وقتي إمّا في شقّتي الصغيرة أو في المقاهي أقرأ الكتب وأشرب القهوة في المقهى. إلتقَينا صدفة في أحد تلك المقاهي حين كانت جالسة لوحدها إلى طاولة مُجاورة وهي التي بدأَت بالكلام. بعد دقائق، قامَت نيكول مِن مكانها وجلسَت قُبالتي وتابَعنا حديثنا. تبادَلنا أرقام هاتفَينا وصرنا نتّصل ببعضنا ونتواعد. للحقيقة، كنتُ مبهورًا بها وفخورًا بنفسي، فلو كانت نيكول فتاة مِن بلَدي، لَما نظرَت حتى إليّ.

رأيتُ الغيرة في عيون أصدقائي وزملائي، الأمر الذي شدَّني أكثر إلى مُتابعة علاقتي بحبيبتي، وبعد أشهر عرضتُ عليها الزواج. تفاجأت نيكول كثيرًا لكنّها لَم تُمانع، بل طلبَت مُهلة للتفكير وأبدَت رغبة بالتعرّف إلى عائلتي. خفتُ أن تغضبَ والدتي منّي حين تراني آتيًا مع فتاة أجنبيّة، لكنّ حبّي لنيكول أعطاني الشجاعة للسفَر معها إلى بلَدي الحبيب.

لَم أتوّقَع أبدًا ردّة فعل عائلتي ومُحيطي وخاصّة أمّي لدى رؤيتهم حبيبتي، فكلّهم أُخِذوا بجمالها الأوروبيّ واستقبلوها أفضل استقبال.

قضَينا فرصة جميلة وكانت نيكول ممنونة مِن كلّ شيء: الطقس والطعام والتقاليد. إلا أنّ شيئًا واحدًا أزعجَها أطلعَتني عليه لدى عودتنا: كلام أمّي لها عن الإنجاب، فهي طلبَت منها أن تُنجِبَ لي دزّينة أولاد يُشبهونها. إلا أنّ حبيبتي لَم تكن تنوي فعل ذلك على الإطلاق:

 

ـ عمَلي يتوقّف على قوامي، فليس مِن الوارِد أبدًا أن يتغيّر شكلي بسبب الحمَل، أنا آسفة. يُمكنُكَ التراجع عن الزواج منّي وسأتفهّم قراركَ.

 


أتراجع عن الزواج مِن نيكول؟ فأنا لَم أُصدِّق أنّني وجدتُها! وعدتُها بأنّني لن أفتَح موضوع الأولاد معها قطّ وبعد أشهر تزوّجنا. كنتُ أسعَد الرجال حقًّا.

إنتقلنا إلى شقّة نيكول التي كانت أكبر مِن شقّتي وعشنا سعداء سويًّا... إلى أن بدأتُ أختلِط فعليًّا مع مُحيطها. فعلتُ جهدي لأستمتِع بسهرات زوجتي وجلساتنا مع أصدقائها، إلا أنّ ذلك لَم يكن جوّي. أعرفُ أنّ نيكول كانت تودّ أن أكون معها في كلّ وقت وأسِفتُ أنّني لَم أكن قادرًا على ذلك. فصارَت تذهبُ لوحدها إلى تلك اللقاءات وعُدنا وكأنّنا نتواعد، أي نرى بعضنا بضع ساعات في اليوم فقط. بعد فترة شعرتُ بالوحدة مع أنّني كنتُ متزوّجًا، خاصّة حين سافرَت نيكول بداعي العمَل. قرأتُ كتبًا عديدة وخرجتُ مع أصدقائي، لكنّ قلبي كان حزينًا. فلو كان لنا ولدٌ...

عادَت زوجتي مِن الخارج وأنساني وجودها فراغي، لكن سرعان ما عادَ إليّ. عندها أجبَرتُ نفسي على مُرافقة نيكول إلى سهراتها ولقاءاتها فقط لأكون معها وأشبَع منها. لكن مُحيطها بِدوره لَم يتقبَّلني وشعرتُ بذلك في كلّ مرّة إجتمَعنا. لا ألومهم، فأنا مُختلِف عنهم ولدَيّ اهتمامات أخرى. عندها أدركتُ حقًّا أنّني ونيكول لسنا مُلائمَين لِبعضنا بالرغم مِن أنّنا كنّا مُتحابَّين للغاية، الأمر الذي ساعدَني على الصمود. بعد فترة، صِرتُ أذهَب إلى البلَد كلّما أُتيحَت لي الفرصة، لأشعر بأنّني مُنتَسِب لمكان ما ولأشخاص مُعيَّنين، وكنتُ أعودُ إلى زوجتي مُرتاحًا وسعيدًا. وبالطبع كانت والدتي تسألُني بإلحاح أين حفيدها ولماذا لَم تُنجِب زوجتي بعد. إختلَقتُ لها أعذارًا عديدة، لكنّني لَم أقُل لها إنّ إبنها لن يصبحَ يومًا أبًا، فذلك كان سيقتلُها حتمًا.

لَم تكن نيكول غبيّة، فهي فهِمَت مدى ملَلي ووحدتي. قالَت لي في أحَد الأيّام:

 

ـ سأُعطيكَ حرّيّتكَ حين تشاء.

 

ـ لماذا تقولين ذلك؟

 

ـ لأنّكَ لستَ سعيدًا معي.

 

ـ وهل أنتِ سعيدة معي؟

 

ـ للغاية... إلا أنّني لَم أُغيّر شيئًا في طريقة حياتي بل أنتَ فعلتَ، وأُريدكَ أن تعلَم أنّني أُقدِّرُ لكَ ما تقومُ به مِن أجلي. لكنّني لا أُريدُكَ أن تكون تعيسًا.

 

ـ لستُ تعيسًا لِدرجة لا تُطاق، لكن لو كان لدَينا ولو...

 

ـ أنتَ وعدتَني بألا تفتَح معي هذا الموضوع.

 

ـ أُدركُ ذلك وأنا آسِف... خلتُ أنّني قادر على العَيش مِن دون أن أكون أبًا. وأعرفُ أنّني وافقتُ على شرطكِ هذا بكامل إرادتي لكن...

 

ـ أُحبُّكِ كثيرًا إلا أنّ عمَلي هو كلّ ما لدَيّ.

 

ـ ظننتُ أنّني كلّ ما لدَيكِ.

 


حصَلَ الطلاق بسرعة وكان قلبي حزينًا لِدرجة لا توصَف. بكينا نحن الاثنَين حين أخذتُ أمتعتي مِن شقّة نيكول لأعودَ إلى سكَني القديم. أطلعتُ أهلي بما حدَث وقالت لي أمّي بحماس: "لدَيّ العروس المُناسبة لكَ! لا تحزَن يا صغيري."

عروستي الجديدة كانت أيضًا جميلة ومِن عائلة مُحترمة. تواعدنا قليلاً في المرّات التي سافرتُ فيها إلى البلد، وتزوّجنا. لَم أحبّها بالمعنى الحقيقيّ للكلمة إلا أنّها كانت زوجة مثاليّة، وهي فعلَت جهدها للتأقلم بسرعة مع حياتي في أوروبا.

مرَّت سنة ولَم تُنجِب زوجتي بالرغم مِن كلّ الفحوصات التي أُجرِيَت لها... لأنّني كنتُ عاقرًا!

أجل، قرأتم جيّدًا، فلستُ قادرًا على الإنجاب. عندها أدركتُ أنّني خرَبتُ زواجي مِن نيكول سدىً، وتزوّجتُ مِن فتاة لا تُثيرُ فيّ أيّ شيء سوى الإحترام.

تقبّلَت زوجتي وضعي كما تفعلُ الزوجات الشرقيّات عادةً، وقارنتُ بين موقفها منّي وموقفي مِن نيكول. فكنتُ قد طلقّتُ زوجتي الأولى لأنّها لَم تكن تُريدُ الانجاب. كَم كنتُ أنانيًّا!

وصارَت حياتي تعيسة، أذهبُ إلى عمَلي لأعود إلى بيت لا يوجَد فيه حبّ، بل مرارة زوجة غير محبوبة وغير قادرة على إشباع أمومتها بسببي. كان عليّ إعطاؤها حرّيتها، فمِن حقّها أن تعرفَ سعادة الحَمل والإنجاب وتربية ولَد. وهكذا، بعد فترة قصيرة، طلّقتُ زوجتي.

غصتُ في تعاسة لا أوّل ولا آخر لها، وحبَستُ نفسي في البيت بعد أن أخذتُ إجازة مِن عمَلي وصارَت حياتي مُزرية. حاوَلَ معارفي الترفيه عنّي وعلِمَ صديقي الحميم سبب وضعي هذا، مُستغربًا هذا الكمّ مِن الحزن. ففي أوروبا، عدَم الإنجاب والعقر ليسا مِن الأمور المُخجِلة بل الناس هناك يتقبّلون تمامًا الوضع، على خلافنا، لأنّهم يُركّزون على الشخص نفسه وقراره الخاصّ وقدراته. لكنّه فهِمَ أنّني إنسان شرقيّ تلقَّيتُ تربية شرقيّة.

بعد أشهر على حزن طالَ كياني بأَسره، عدتُ أخرجُ مع رفاقي لكنّ فكرة المواعدة أو الزواج كانت بعيدة كلّ البُعد عنّي. وفي إحدى المرّات، إلتقَيتُ بِصوفي. وجدتُها جميلة وذكيّة ومُسليّة للغاية، إلا أنّني تصرّفتُ وكأنّها لا تُعجِبُني. لكنّ صديقي قال لي:

 

ـ أنا دبَّرتُ لقاءكما.

 

ـ لماذا فعلتَ ذلك؟ أنتَ تعلَم مِمّا أشكو.

 

ـ وأعلَم أيضًا أن لِصوفي ولدَين صغيرَين، فلقد ماتَ زوجها حين كان إبنها الصغير لا يزال في بطنها. صوفي إنسانة رائعة وأمّ مثاليّة ولا ترغب بالمزيد مِن الأولاد. ها أنا أقدّمُ لكَ عائلة جاهزة.

 

ـ ماذا لو لَم أُحبّ ولدَيها أو أنّهما لَم يُحبّاني؟

 

ـ لن تعرفَ إلا أذا حاوَلتَ!

 

يوم عرّفَتني صوفي على ولدَيها، علِمتُ أنّني سأُحبُّهما. وكونهما صغيرَين ساهمَ بِتقبُّلِهما لي بسرعة. لَم أصدّق كيف أنّ القدَر، بواسطة صديقي، قد قدَّمَ لي فرصة لأكون سعيدًا بعد زواجَين غير ناجحَين.

اليوم، حين أُفكّرُ بحياتي، أستغرِبُ كيف أنّني مرَّرتُ بمراحل عديدة ونادرة. في البدء تزوّجتُ مِن إمرأة لا تُريدُ الإنجاب، ثمّ مِن أخرى إكتشفتُ معها أنّني عاقر، ولاحقًا مِن ثالثة لدَيها ولدان. أمر غريب... وأسألُ نفسي هل أنّ الإنجاب بالأهميّة التي نخالُها؟ ماذا لو لَم أتعرَّف على صوفي؟ هل كنتُ سأقضي حياتي تعيسًا وشاعرًا بأنّني ناقص؟ ماذا عن حياتي الفعليّة كشخص، كإنسان؟ وتذكّرتُ تلك النساء اللواتِي تُطلَّقنَ بسبب عقرهنّ مثل بضاعة مضروبة. يا إلهي... ما تلك الفظاعة التي تُقترَف بحقّ الانسان؟

ولأُطمئنُكم، لَم أفوِّت تلك الفرصة الذهبيّة التي أُعطيَت لي، وأنا سعيد لأقصى درجة مع صوفي وولدَيها اللذَين صارا بمثابة ولدَيّ، مع أنّهما لن يحملا إسمي. وبالطبع لَم تُمانِع أمّي زواجي مِن إمرأة لدَيها عائلة... فقط لأنّها تعلَم أنّني عاقر. لكن ماذا لو كنتُ قادرًا على الإنجاب؟ أنا مُتأكّد مِن أنّها كانت ستفتعِل المشاكل وتحاول مَنعي مِن الزواج مِن صوفي. فللأسف الشديد، المُمانعات هي عديدة في شرقنا، لأنّنا نُريدُ أن يكون كلّ شيء مثاليًّا، ناسين أنّ الإنسان ليس مثاليًّا وأنّ الحياة لا تجري كما نُريد.

أُحبُّ بلدَي كثيرًا لكنّني لن أعودَ إليه سوى للزيارة، فأنا أعيشُ حيث يُقدَّر الإنسان فعلاً لِشخصه، وحيث لستُ مُجبرًا على إرضاء أحد بل فقط العَيش حياة هنيئة ومُرضية مع مَن اختارَه قلبي.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button