هكذا يكون الحب

لَم أكتشِف ما كان يتحضّر لي، فطوال سنوات خلتُ أنّ العمّ خليل هو فقط صديق العائلة، ويأتي مِن وقت لآخر ليطمئنّ على أمّي وعليّ بعد موت والدي. لكنّ الرجل كان يزورُنا ليتفقّد البضاعة التي اشتراها... أي أنا. نعم، فلقد باعَتني أمّي له حين كنتُ لا أزالُ في التاسعة مِن عمري، مُشترطةً عليه الا يحصل عليّ قبل أن أبلغ الثامنة عشرة. مُقابل ذلك، أعطى العمّ خليل لأمّي مبلغًا شهريًّا ثابتًا ودفَعَ أقساط مدرستي وكلّ ما يلزمني.

قد يخطرُ ببال القارئ أنّ والدتي لَم ترَ سوى ذلك الحلّ لتؤمّن لي حياةً كريمة وعِلمًا أستحقّه بعد موت زوجها، إلا أنّها لَم تعمل ليوم واحد أو تُحاول حتى إيجاد عمل كما تفعل الأرامل لتربية أولادهنّ. بدل ذلك، باعَتني لأنّها وجدَت مَن يحمل حملي عنها. لستُ قاسية معها، ستعرفون كلّ شيء بعد أسطر قليلة.

كنتُ أجهلُ ما ينتظرُني ووقعتُ في حبّ جاري جواد، وهو شاب وسيم له أحلام كثيرة وطموحات أكبر منه. لَم يكن حبّنا حبًّا فعليًّا، بل إعجاب كبير تبادَلناه معظم الوقت عن بُعد. ففي السابعة عشرة لا نعرفُ شيئًا بعد عن الحياة. لَم أخبِر أمّي عن جواد، فقد كانت صارمة جدًّا عليّ وبالكاد تسمحُ لي بالذهاب إلى المدرسة... حتمًا للحفاظ على البضاعة التي وعدَت بها العمّ خليل.

لكن في يوم عيد ميلادي الثامن عشر، جاء ضيفنا العزيز مُحمّلاً بالهدايا ككلّ سنة لكن مع بسمة ونظرة غير إعتياديّتَين. لَم أعِر الأمر أهميّة كبيرة بل احتفلتُ بعيدي بِفرح كبير، إذ كان يعني ذلك دخولي عالم البالغين بعد أن طفَحَ كيَلي مِن سماع أمّي تردّد لي عند كلّ طلَب: "عندما تبلغين سنّ الرشد القانونيّ."

وفي تلك الليلة بالذات وبعد أن غادَر العمّ خليل وتحضّرتُ للنوم وبسمة كبيرة على وجهي، دخلَت والدتي غرفتي وقالَت لي بعدما جلسَت على حافة سريري:

 

ـ لدَيّ خبر سارّ يا صغيرتي.

 

ـ لَم أعُد صغيرة يا ماما! ما بالكِ؟

 

ـ صحيح ذلك... لِذا دعيني أُخبرُكِ بمفاجأة كبيرة!

 

ـ قولي!

 


ـ عمُّكِ خليل... أقصد خليل... طلَبَ يدكِ منّي!

 

ـ ماذا؟ ذلك العجوز يودّ الزواج منّي؟!؟ لكنّه العمّ خليل! أعرفُه مذ كنتُ طفلة!

 

ـ لهذا السبب هو الأنسب لكِ.

 

ـ إنّه بسنّ والدي لو بقيَ على قَيد الحياة! لا أُريدُه! ولا أُريدُ رؤيته بعد الآن!

 

ـ لقد أعطَيتُه وعدًا.

 

ـ إسحبيه!

 

عندها أخبرَتني أمّي بالذي كان يجري منذ طفولتي، وكيف أنّ ذلك الرجل الشاذ أُعجِبَ بطفلة لدرجة إنتظرها سنوات طويلة. لَم يهمّني طبعًا أنّه دفَعَ مصاريف دراستي وأمَّنَ لنا الحياة التي عشناها، فلَم أطلب منه أو مِن أيّ أحد شيئًا!

إستاءَت والدتي مِن ردّة فعلي فتغيّرَت نبرة صوتها وأمَرتني بالقبول. فقلتُ لها:

 

ـ ألا يهمُّكِ أن يكون ذلك الرجل بسنّ والدي أو أنّني لا أحبُّه ولا أُريدُه؟

 

ـ رأيكِ بالموضوع ليس مطلوبًا يا آنسة! نحن مدينتَان له.

 

ـ أنتِ مدينة له! على كلّ الأحوال أحبّ شخصًا آخر وأنوي الزواج منه!

 

صفعَتني أمّي بقوّة ونعتَتني بالفاسقة ومنعَتني مِن الخروج مِن غرفتي. بقيتُ على كذبتي، أي أنّني اتّفقتُ مع جواد على الزواج، وأُعطيتُها إسمه وكلّ التفاصيل المُمكنة. فقد كان عليّ حَمل أمّي على تصديق أمر ارتباطي بجواد.

لَم يهمّني إن كانت والدتي قد قرّرَت حجزي في البيت طالما أنا بمنأى مِن العمّ خليل، وازدَدتُ اشمئزازًا مِن ذلك الرجل المُقزّز.

طوال مدّة عزلي فكّرتُ كثيرًا بِجاري الوسيم، وصرتُ أتخايل نفسي في يوم فرَحي معه، الأمر الذي لَم أفكّر به مِن قَبل إذ كنتُ أنوي مُتابعة دراستي ودخول الجامعة لأصبحَ يومًا طبيبة أسنان. هو كان يُريدُ دخول عالم الأعمال وإنشاء شركات كبيرة لجني الكثير مِن المال والشهرة.

وفي أحد الأيّام، سمعتُ وكأنّ شيئًا يُلقى على شبّاك غرفتي. ركضتُ لأرى ما يحصل فإذ بجواد أسفل المبنى. قال لي بصوت منخفِض:

 

ـ ما بكِ لا تردّين؟ لقد رمَيتُ حجارًا على كلّ نوافذ بيتكِ!

 

ـ أنا محجوزة في الغرفة... إنّها قصّة طويلة سأرويها لكَ عندما ينتهي كابوسي.

 

ـ أعرفُ كلّ شيء.

 

ـ ماذا؟!؟ كيف؟

 

ـ لقد انتظرَني الرجل الذي يزوركمُا أمام مدخل المبنى، وأخذَني جانبًا ليعرض عليّ مبلغًا مِن المال للعدول عن زواجي منكِ. قولي لي... هل اتّفقنا على الزواج؟ لا أذكرُ ذلك.

 

ضحكتُ لهذا الإستفسار البريء فأجبتُه:

 

ـ إنّها حجّة اختلقتُها لِتفادي الزواج مِن ذلك الإنسان البغيض. فلقد وعدَته أمّي بي لأنّه ساعَدَنا ماليًّا منذ وفاة والدي، ودفَعَ تكاليف دراستي ولا يزال يهتمّ بنا. سامحني.

 

ـ لقد أعجبَتني الفكرة... إلا أنّني لا نزال صغارًا وأمامي الكثير لأُنجزه. لكن إن كنتِ مُستعدّة لانتظاري فسأتشرّفُ بِربط حياتي بحياتكِ.

 

إحمرّ وجهي ولَم أعد أعلم ماذا أقول، فتابَعَ جواد:

 

ـ إن كان يظنّ عريسكِ العجوز بأنّه قادر على شرائي فهو مُخطئ، ففي يوم مِن الأيّام سأصبحُ ثريًّا للغاية. إضافة إلى ذلك، لا أحد يمكنُه لَمس حبيبتي!

 

رحَلَ جواد وأنا بدأتُ أحلمُ به كما تفعلُ المراهقات. شعرتُ بقوّة عظيمة وازدادَ عنادي على عدَم الزواج مِن العمّ خليل.

 


مرَّت الأيّام والأسابيع وصارَ مسموحًا لي التجوّل في البيت والخروج لكن برفقة أمّي التي بقيَت غاضبة وبالكاد توجّه لي الكلام. إقترَبَ موعد دخولي الجامعة، وكنتُ خائفة مِن أن تتبخّر طموحاتي بسبب كلمة أعطَتها والدتي لمَن أراحَها مِن المسؤوليّة. توسّلتُ إليها لتسمحَ لي بمُتابعة دراستي إلا أنّها أجابَتني: "وما نفع العلم لِزوجة وأمّ؟"

بكيتُ كثيرًا وكانت زيارات جواد لي السرّيّة تُعطيني بعض العزاء. فكنتُ أنتظرُ قدومه بفارغ الصبر وهو كان يروي لي كيف أنّه سيجتهد لينال شهادته الجامعيّة ليؤمّن لي حياة كريمة. صدّقتُه لأنّه لَم يكن يعرف الكذب، وشعرتُ حقًّا بأنّه سيفعل المستحيل لنكون معًا.

إحتارَت أمّي أمام عنادي ولَم تعد تعلم كيف تضعظ عليّ، فحاولَت إقناعي بهدوء بالعمّ خليل إلا أنّها فشِلَت طبعًا. فما مِن قوّة في العالم كانت ستحملُني على القبول.

لكنّ جواد إختفى فجأة وشعرتُ وكأنّ العالم بأسره يتواطأ عليّ. كان قد تركَني حبيبي لمصيري وصرتُ وحيدة أمام الذي ينتظرُني. لَم أغضب منه، فكان ما يجري أكبر منه ومنّي وفي آخر المطاف، لَم يكبر حبّنا إلا بعد أن حبسَتني أمّي. قبل ذلك كنّا مجرّد صديقَين مُعجبَين الواحد بالآخر عن بُعد.

عندها خطَرَ ببالي الإنتحار، فكلّ شيء كان أفضل مِن الإستسلام. كان جواد قد دخَلَ الجامعة، ومَن يدري فربّما وجَدَ فتاةً أخرى لها حياة أقلّ تعقيدًا.

لِذا أخذتُ خفيةً مقصًّا بِغرَض فتح شريان معصمَيّ وإنهاء عذابي ووحدتي، لكنّني لَم أنفّذ ما في رأسي.

ففي مساء اليوم نفسه، سمعنا طرقًا على الباب، وتفاجأنا بِجواد واقفًا أمامنا وبيدَيه أكياس عدّة. دخَلَ مِن دون إذن وقال لأمّي:

 

ـ لقد وجدتُ عملاً إلى جانب دراستي وقبضتُ راتبي الأوّل. مِن الآن وصاعدًا، سأكون مَن يهتمّ بكما. يُمكنّكِ، يا سيّدتي، الإطمئنان والقول لذلك العريس بأن ينسى أمر إبنتكِ.

 

إبتسمَت والدتي ونظَرَت في الأكياس التي جلَبَها جواد ثمّ قالَت له:

 

ـ أين وجدتَ عملاً؟

 

ـ في أحد المطاعم. الراتب قليل لكن بفضل الإكراميّات سأتمكّن مِن الإهتمام بكما.

 

ـ وهل يكفي راتبكَ لكَ ولنا؟

 

ـ لا طبعًا لكنّني لستُ بحاجة إلى شيء... سأصرفُه بكامله عليكما. كلّ ما يهمّني هو سهى. سأتزوّجها بعدما ننهي كلانا إختصاصنا وسنُنجبُ أطفالاً عديدين.

 

ـ أهكذا قرَّرتَ؟!؟

 

ـ أجل سيّدتي. أنا إنسان جدّيّ ومُثابر.

 

ـ أرى ذلك بوضوح.

 

الذي أقنَعَ والدتي بإبعاد العمّ خليل عنّي، كان تصرّف جواد الشجاع وحجم حبّه لي. فبعد رحيله، وجدتُها تبكي في غرفتها. قالَت لي بعدما اقتربتُ منها لأواسيها:

 

ـ كنتُ قد نسيتُ كيف يكون الحبّ، فلقد تغلّبَ عليّ خوفي مِن مصيرنا بعد موت أبيكِ... هو الآخر كان يُحبّني كثيرًا. أردتُ تأمين حياة كريمة لكِ مِن خلال خليل، كي لا تحتاجي إلى شيء إن نزل بنا مكروه، لكن ما فعلَهَ جواد فاق كلّ تصوّراتي. أنا مُتأكّدة مِن أنّكِ ستكونين بألف خير معه. ستذهبين إلى جامعة مجانيّة وستجدين عملاً إلى جانب دراستكِ. لن أستطيع فعل شيء لأساعدكِ بسبب سنّي وعدَم خبرتي في العمل. لن نعود بحاجة إلى خليل بعد الآن. لكن عديني بشيء واحد.

 

ـ ما هو يا ماما؟

 

ـ أُريدُكِ أن تحبّي جواد بقدر ما هو يُحبُّكِ، فهو إنسان نادر الوجود.

 

كلّما أتذكّر هذه القصّة تدمعُ عينايَ وأنظرُ إلى جواد زوجي وإلى ولدَينا بِفخر. فلقد أنجَزنا أحلامنا كلّها. لَم يكن الأمر سهلاً إلا أنّنا نجحنا بذلك، وها أنا طبيبة أسنان وزوجي رجل أعمال ناجح وحبّنا لا يزال قويًّا كما في اليوم الأوّل. أمّي تعيشُ معنا واختفى العمّ خليل مِن حياتنا منذ زمن بعيد.

ما فعلّه جواد مِن أجلي علّمَني أنّ لا حدود لإرادة الانسان، خاصّةً إن كان الحبّ ما يُحرّكها ولا شيء سواه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button