هكذا التقَينا

يُقال إنّ العالم صغير، وهو كذلك، فبالرّغم مِن كِبره وعدد سكّانه الذي يتزايد على مرّ الثواني، يحدث أن يتلاقى شخصان في مكان وزمان غير متوقّعَين، وكأنّ مصيرَيهما مربوطان ببعضهما، ولا أحد أو شيء يُمكنه الفصل بينهما مهما كانت الإعتبارات والفوارق الإجتماعيّة شاسعة.

أتكلّم عنّي وعن فَيصل، الرجل الوحيد الذي أحبَبتُه بصدق والذي أحبَّني بكلّ جوارحه. لا شيء كان يُنذر بأنّنا سنكون لبعضنا، فقد كنّا مختلفَين تمامًا. كان فَيصل يعيش في شمال البلاد وأنا في جنوبه، كان هو من عائلة ثريّة وأنا ابنة فقراء، وكان مخطوبًا وأنا موعودة لإبن عمّي، أي أنّ حياة كل منّا كانت سائرة في اتّجاه معيّن، ولم يكن هناك مِن مؤشّر ولو ضئيل لأن نلتقي. وما هو أغرب مِن ذلك... أن نحبّ بعضنا.

لم أكن أحبّ إبن عمّي بل كنتُ أكرهُه، لأنّه كان يُمثّل بالنسبة لي الرّجل الجاهل والمتشاوف والكسول، إلا أنّ أبي قرَّرَ لحظة ولادتي أنّني سأكون لابن أخيه. ومع الوقت، بدأتُ أخشى وصولي سنّ الرشد الذي كان يعني زواجي مِن ذلك الإنسان البغيض. حاولتُ جهدي لتغيير رأي أبي، لكن مِن دون جدوى، ففي بلدتنا تكون تلك الأمور بغاية الجدّيّة، والتراجع عن كلمة أُعطيَت قد يُولّد مشاكل كبيرة لا بل مصائب قد تصل إلى إراقة الدّماء. أجل، كانت بيئتي بدائيّة جدًّا، لا تحترم إرادة الانسان بتقرير مصيره، خاصّة إن كانت صاحبة القرار أنثى. فالمرأة عندنا كانت شبيهة بسلعة تُهدى لتوطيد علاقات أو حتى تسديد الديون.

مِن جهّته، كان فَيصل لا يُحبّ خطيبته هو الآخر، فحتى عند الأغنياء تُبرَم الصفقات مِن خلال الزيجات وربط عائلتَين قويّتَين ببعضها للزيادة مِن نفوذها ورصيدها. أرادَ فَيصل طبعًا التملّص مِن خطوبته، لكنّه لَم يفعل لأنّه لم يكن هناك آنذاك مِن بديل لتلك الصبيّة المتعلّمة والتي تحمل اسمًا مرموقًا.

ومرَّت الأيّام وتزوّجتُ مِن إبن عمّي، وتزوّجَ فَيصل مِن عروسه وأكمَلنا حياتنا كما خطَّطَ لها الآخرون.

لكنّنا لم نعرف السعادة، كلّ منّا مِن جهّته، فطلّقَني إبن عمّي بعد خمس سنوات ليتزوّج مِن جارتنا التي كان يُقيم معها علاقة، وفي الفترة نفسها توفَّيت زوجة فَيصل وهي تولِد إبنهما الثاني. وبعد موت زوجته مباشرة، أخَذَ ولدَيه وسافَرَ بهما إلى أوروبا ليعيشوا هناك بصورة دائمة.

 


وبما أنّني وجدتُ نفسي مع ولدَين صغيرَين ومِن دون معيل، وجبَ طبعًا عليّ إيجاد عمل وإلا متنا جوعًا. فالجدير بالذكر أنّ أهلي تخلّوا عنّي لأنّني، وحسب قولهم، كنتُ السّبب بترك زوجي لي، وأنّه كان ليبقى معي لو عرفتُ كيف أحسن معاملته. فعند هؤلاء القَوم، يقع اللوم دائمًا على المرأة وليس على الرجل الذي، وبكلّ بساطة، قد يكون منحطًّا وفاسدًا كزوجي. وعليّ أن أشكرُه لأنّه خانَني وتركَني وأجبرَني على إيجاد لقمة العيش، وإلا لَما تعرّفتُ إلى فَيصل وتغيّرَت حياتي بأسرها.

وجدتُ أخيرًا عملاً في إحدى مستشفيات المنطقة، أنظّفُ الغرف والأروقة وأساعد المرضى على دخول الحمّام. كان مقرّ عمَلي بعيدًا عن مسكني وكانت الطريق شاقّة، لذا كنتُ أتركُ ولدَيَّ عند جارتنا، وأقضي الليل في المشفى بضع مرّات في الأسبوع.

بعد سنوات على دخولي مُعترَك العمل في المشفى، صرتُ أعرفُ أشياءً كثيرة عن عالم الطب. صحيح أنّني كنتُ أهتمّ بالتنظيف، لكنّني شاهدتُ الأطبّاء والممرّضات وهم يُسعفون ويُعالجون المرضى والجرحى، وهذا بالذات الذي ساهَمَ، وبشكل مباشَر، على باقي الأحداث.

فذات صباح، وبعد أن أنهَيتُ عملي الليليّ في المشفى، إستقلَّيتُ سيّارة أجرة لأعود إلى بيتي وولدَيَّ. كنتُ تعبة جدًّا وكان الطقس ممطرًا والطريق منزلقًا، فطلَبتُ مِن السائق توخّي الحذر أثناء القيادة. لكنّ سيّارة مُسرِعة جاءَت تصطدم بنا بقوّة فائقة.

بعدما استوعَبتُ ما حدَثَ لنا وتأكّدتُ مِن أنّ سائق الأجرة بخير، ركضتُ إلى السيّارة الأخرى لأجد فيها رجلاً شبه مُغمىً عليه وولدَين بحالة حرِجة. كانت يد الأوّل مكسورة فثبّتُها، أمّا الولَد الثاني فكان ينزف بقوّة لذا حزَمتُ مكان النزيف للحدّ مِن تدفّق الدماء الذي كان سيُؤدّي حتمًا إلى موته. أمّا سائق الأجرة فاهتمّ بالأب، وأخَذنا الجرحى الثلاثة بسرعة إلى المشفى.

الرجل كان طبعًا فَيصل، وكان بصحبة ولدَيه بنزهة غرضها تعريفهما إلى قرى ومناطق بلدهم الأصليّ.

كانت إصابَة فَيصل بسيطة إذ كان يضع حزام الأمان، لكنّ ولدَيه كانا بحالة حرجة أكثر، ولولا تدخّلي، لكان واحد منهما على الأقل ميّتًا. وشعَرَ أبوهما بامتنان كبير لي، بالرغم مِن أنّني فعلتُ واجبي، مستعملةً ما رأيتُ الأطبّاء يفعلونه خلال ساعات عملي الطويلة.

حالة الولدَين إستوجَبَت مكوثهما طويلاً في المشفى بعد أن استحال نقل الولد النازف إلى العاصمة. لِذا، أخَذَ فَيصل غرفة في فندق مجاور للبقاء قرب الصبيّين. مِن جهّتي، كنتُ أمرّ بغرفة الجريحَين يوميًّا لأطمئنّ إليهما. وهناك صِرتُ أتبادَل الكلام مع فَيصل. عرفتُ قصّته وأخبرتُه قصّتي، ووجدنا أنّنا تزوّجنا رغمًا عنّا وانتهى بنا المطاف وحيدَين. لم أتصوّر للحظة واحدة أنّ رجلاً راقيًا ومتعلّمًا مثله قد يجد فيّ أيّ شيء يُعجبُه، فكنتُ كما ذكرتُ سابقًا، إنسانة بسيطة وعاديّة جدًّا. إلا أنّه باتَ متعلّقًا بي إلى درجة كبيرة، وصار ينتظر قدومي ويتمتّع بصحبتي. لا أخفي أنّني أُعجِبتُ بذلك الرّجل المميّز، لكنّني لم أجرؤ على تصوّر حدوث أيّ شيء بيننا.

أبدى فَيصل رغبته بالتعرّف إلى ولدَيّ ورؤية مسكني، وشعرتُ بالخجل إذ لم أكن أريده أن يرى حالتي البائسة. لكنّه بقيَ مصرًّا، واستقبلتُه في بيتي المتواضع حيث جلَسَ مع ولدَيَّ وأكل مِن الأطباق التي حضّرتُها للعشاء. بعد أيّام قليلة، غادَرَ فَيصل مع ولدَيه المشفى وودّعوني جميعهم بحرارة. حَزِنَ قلبي كثيرًا، لكنّني أقنعتُ نفسي بأنّ الأمور هكذا أفضل وبأنّ عليّ العودة إلى حياتي ما قبل الحادث، فهذا كان قدري.

لكنّ ذلك لم يكن قدري أبدًا بل العكس. كانت الحياة تخبّئ لي مفاجآت كثيرة، أوّلها اتّصال هاتفيّ مِن فَيصل الذي أخَذَ رقمي مِن المشفى.

سرِرتُ به جدًّا واطمأنَّيتُ على صحّة ولدَيه، وعلِمتُ منه أنّه قادم بعد أيّام بصحبتهما لزيارتي وأولادي. ركضتُ كالمجنونة أحضّر ما يلزم، وبعدما هدأت قليلاً أخذتُ أقنِع نفسي أنّ لا معنى لتلك الزيارة سوى أنّهم يُريدون شكري على ما فعلتُه مِن أجلهم.

 


أتى الزائرون محمّلين بالهدايا لي ولولدَيّ، وقضوا النهار معنا بعد أن تناولوا الغداء. وبينما كان الأولاد يلعبون سويًّا، جلستُ وفَيصل في الصالون. سادَ سكوت طويل بيننا ثمّ قال لي:

 

ـ لم أنفكّ عن التفكير بكِ... لقد خطفتِ عقلي و... أظنّ قلبي أيضًا.

 

ـ ستنساني بعد فترة، سترى. أفضّل ألا نتكلّم بهذا موضوع، أرجوكَ.

 

ـ ولِما لا؟ ألا تشعرين بشيء تجاهي.

 

ـ حتى لو فعلتُ، فلَن أنسى مَن أنتَ و... مَن أنا. لا منفعة مِن الكلام حتى.

 

ـ مَن أنا؟ رجل ناضج يعرف ما ومَن يُريد. ومَن أنتِ؟ إمرأة طيّبة وخلوقة تحبّين الناس وتستحقّين أن تكوني سعيدة.

 

ـ نسيتَ أن تذكر أنّنا مِن عالمَين مختلفَين. قلتَ لي إنّ ذويكَ لهم تأثير كبير عليكَ وعلى حياتكَ العاطفيّة.

 

ـ تعلّمتُ الدّرس جيّدًا. إسمعي، ما يهمّني اليوم هو أن أكون مع سيّدة أحبّها وتحبّني وباحترام متبادل. ولَدايَ يعشقانكِ ويعلمان أنّكِ أنقذتِ حياتهما. وها هما يلعبان مع ولدَيكِ.

 

ـ أفضّل أن ننتظر قبل التفكير بأيّ شيء.

 

قلتُ ذلك لأنّني كنتُ متأكّدة مِن أنّ فَيصل سرعان ما سيُغيّر رأيه ويجد امرأة مِن مستواه الإجتماعيّ. لكنّه لم يفعل. بقينا على اتصال هاتفيّ لمدّة سنة. لم أقبل خلالها رؤيته كي أتركَ له المجال للتعرّف على أخرى، ولأجّنب لنفسي عذابًا لا لزوم له. إلا أن فَيصل لم يملّ ولم يُغيّر رأيه بل زاد تعلّقًا بي. عندها، لم أجد مانعًا من أن نكون سويًّا حتى آخر أيّامنا.

وكما توقّعتُ، فإنّ خبر ارتباط فَيصل بي لم يُلاقِ صدىً إيجابيًّا عند عائلته، فمارسوا عليه ضغوطًا كبيرة لم تؤثّر عليه. كان على مرّ السنين قد أصبَحَ مستقلاً ماديًّا ونفسيًّا ولم يعد بحاجة إليهم ليُكمل حياته. بالطبع كان يُفضّل أن يحصل على بركتهم، لكنّه كان قادرًا على المتابعة مِن دونها.

وهكذا تزوّجنا وكانت فرحتي لا تُقاس. ليس لأنّني أتزوّج مِن رجل ثريّ، بل مِن الذي أحبَّه قلبي.

لم أحسب حساب الواجبات الإجتماعيّة التي كانت تنتظرني بعد زواجي والصعوبة التي واجهتُها للتأقلم، إلا أنّ فَيصل أخَذَ يُعلّمني حسن التصرّف مع المجتمع المخمليّ وكنتُ تلميذة بارعة. إندمَجَ ولدايَ بسرعة لأنّهما كانا صغيرَين، وأعطاني ذلك الأمر دافعًا إضافيًّا لعدَم الإستسلام.

أحبّني فَيصل عشرين سنة، وعند وفاته خسرتُ كلّ ما كان جميلاً في حياتي. عزائي الوحيد هو أنّني وجدتُ إنسانًا يعرف حقًّا كيف يُحب وهذا هو أثمَن الكنوز.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button