هربتُ مع ابن الحدائقي (الجزء الأول)

إكتشفتُ رغمًا عنّي أنّ الحياة لا تُشبه بشيء الروايات التي تُغذّي عقولنا ونحن صغار، بل هي عاديّة وخالية مِن تلك الشاعريّة الجميلة التي نتوق إليها. ففي الواقع، الناس يركضون وراء المال والجاه والنفوذ، ويضَعون جانبًا العواطف النبيلة، ويؤذون أصحاب القلوب النقيّة وينعتونهم بالأغبياء والمُغفّلين. قد أبدو قاسية، لكن ما حصل لي غيّر نظرتي للناس والأمور بشكل جذريّ. وعندما تسمعون قصّتي ستعرفون ما مرَرتُ به، وتفهمون كيف حلّ الجليد مكان الدّفء في قلبي.

وُلِدتُ في عائلة غنيّة، فالمال لَم يكن يومًا مشكلة لدَينا. كان لي مربيّة خاصّة وأخرى لأختي الصغيرة، ناهيك عن فَيلق مِن الخدم والسوّاقين. وبالرّغم مِن هذا الرخاء، لَم أكبر لأصبح إنسانة متشاوفة وأنانيّة، بل كنتُ منذ صغري أحنُّ على الفقراء وقليلي الحظ. قيل لي إنّني كنتُ أبكي حين أشاهدُ على التلفاز فيلمًا أو أسمعُ قصّةً عن الذين هم في العَوز، وكأنّني كنتُ أشعرُ بمأساتهم. لاحقًا، بتُّ أخصّصُ سرًّا جزءًا كبيرًا مِن مصروفي للعاملين لدَينا، الذين صاروا يكنّون لي مودّة كبيرة بفضل قلبي الواسع. أقول سرًّا لأنّ والدَيَّ لَم يُشاطراني رأفتي للغير، بعد أن قسا قلبهما على الناس، فالمال هو غالبًا عدوّ المحبّة المجّانيّة. أمّا بما يخصّ أختي الصغيرة، فهي صارَت تُشبه أبوَينا إلى حدّ كبير، بالرغم مِن محاولاتي لجعلها تتقاسم ما لدَيها مع مَن هم بحاجة.

في سنّ المراهقة، كنتُ أرى نفسي في أحلامي وكأنّني إحدى بطلات القصص الخرافيّة، حيث ألتقي بشاب فقير وأحبُّه بالرّغم مِن حالته الماديّة والإجتماعيّة، ضاربةً عرض الحائط بتقاليد ومفاهيم مجتمعنا المُخمليّ. فلَم يكن يجوز أبدًا أن يتزوّج أيّ منّا مِن طبقة أخرى، وكان ذلك يُعتبَر خيانة عُظمى للدّماء النبيلة التي تجري في عروقنا.

 


وكان كلّ شيء يدلّ على أنّني سأكون الثائرة مِن بين أهلي والتي ستتسبّب بالمشاكل للعائلة... ولنفسها. بالطبع لَم أكن أعي أبعاد أفكاري المُختلفة أو حتى أدركُ أنّ الطمَع موجود مِن حوَلي. فالمال الوفير يجلبُ المتاعب.

لم أكن جميلة بالمعنى التقليديّ، أو على الأقل بقدر جمال أختي التي رأت سربًا مِن الشبّان يلتفّ حولها بصورة دائمة. كنتُ صبيّة عاديّة الملامح والقوام، الأمر الذي أراحَني. فقد كنتُ أكره مُعجبي أختي لأنّني اعتبَرتُهم سخفاء لا يهمُّهم سوى الشكل الخارجيّ. كنتُ أريدُ شابًّا يُحبُّني لشخصي، أي لعقلي وقلبي ومحبّتي للبشريّة بأسرها.

والذي اختارَه قلبي كان خليل، إبن الحدائقيّ الذي كنتُ أعطيه ألعابي وأقضي وقتي معه حين كنّا صغارًا. هل أحبَبتُه منذ ذلك الوقت أم حين كبر ليُصبح شابًّا وسيمًا وجذّابًا؟ لستُ أدري، لكنّ رؤيته يعمل مع أبيه صارَت تُثيرُ بهجة في قلبي الذي كان يدقُّ بسرعة في كلّ مرّة. هو الآخر كان مُعجبًا بي، لكنّه خافَ طبعًا مِن مصارحتي بسبب الفارق الإجتماعيّ الكبير. إلا أنّ ما كان لِيَحصل قد حصل، وانتهى الأمر بنا نتبادل القُبَل في آخر الحديقة حيث لا يرانا أحد. لَم أشعر بالخزي أو الندَم، فبالنسبة لي كان مِن الطبيعيّ أن أُقبِّل خليل بعد سنوات مِن معرفة عميقة ويوميّة.

لكن بعد أن زال حماسنا الغراميّ، عُدنا إلى الواقع المرير: لَم يكن يجدرُ بنا مُتابعة قصّة كانت قد بدأت للتوّ، فحبّنا هو محرّم وحسب. أقسَمَ لي خليل أنّه سيُحبُّني إلى الأبد وأنا فعلتُ مثله، وافترَقنا والدّمع في عَينَينا.

ومنذ ذلك اليوم بدأتُ أفكّر بالوسيلة التي ستُتيحُ لي العَيش مع حبيبي، لدرجة أنّني أهمَلتُ كلّ شيء آخر، حتى دراستي. بالطبع لاحَظَ الجميع تغيّر طباعي، فكنتُ قد أصبحتُ أكره ذويّ إلى أقصى درجة، لأنّهم كانوا بنظري حجر عثرة أمام سعادتي.

لَم اقطَع صلتي بخليل بالرّغم مِن اتفاقنا على عدَم التلاقي، ففكرة قضاء يوم واحد مِن دونه كانت لا تُطاق. وخلال إحدى لقاءاتنا، أقَمنا خطّة للهروب سويًّا. ولننجح بذلك، كان لا بدّ أن يكون لدَينا المال، ولَم أكن قد حصلتُ على ميراثي، فوالدايَ كانا قد قرّرا أن تقبضا ابنتَيهما نصيبهما يوم زفافهما. وكان مِن الواضح أنّني لن أحصل على شيء إن تزوّجتُ مِن خليل.

لِذا خطَرَ ببالي أن أضَع يدي على كلّ ما استطعتُ، مُعتبرةً ذلك دفعة أولى على ميراثي. فبدأتُ آخذ أغراضًا مِن البيت وأعطيها لخليل ليبيعها لي، وتوصّلتُ حتى لمدّ اليَد إلى مجوهرات أمّي وساعات أبي. لا تُسيئوا فهمي، فبالنسبة لي لَم أكن أسرقُ أهلي، بل آخذ حقّي منهم. وكنتُ قد قرّرتُ إعادة تلك المبالغ لهما بعدما أقبضُ ميراثي. على كلّ حال، لَم ينتبِه أحد إلى ما أفعلُه لكثرة المجوهرات والساعات.

وعندما أصبَحَ لدَينا ما يكفي، بدأتُ أحضّر نفسي للرّحيل، أو بالأحرى، للهروب. لَم أتكبّد حتى عناء محاولة إقناع أهلي بخليل، فكنتُ أعرفُ جوابهم مُسبقًا، وأخشى أن يُشدّدوا الرّقابة عليّ أو يطردوا حبيبي وأبيه مِن عملهما.

 


كان خليل ينتظرُني خارج سور الحديقة في سيّارة إشتراها مِن مالنا. ركضتُ إليه وسط الليل، وركبتُ إلى جانبه وأنا أضحكُ مِن الفرح. أقلَعَ بنا إلى فندق صغير خارج المدينة، وهناك انتظَرنا طلوع الشمس لنتزوّج. كنتُ أسعد فتاة في الدنيا لأنّني أتزوّج مِن حبيبي، بعد أن تغلّبتُ على الفارق الشاسع الذي كان مِن المُفترض به أن يُبعدنا عن بعضنا، أي أنّني انتصَرتُ على المُجتمع بأسره.

سكنّا في الفندق بعد زواجنا، وكنتُ عروسًا سعيدة مع الرجل الذي اختَرتُه بنفسي. صحيح أنّ الطريقة لَم تكن تقليديّة، لكنّها كانت لازمة. فكنتُ أعلم أنّني لو بقيتُ لدى أهلي، كنتُ سأتزوّج مِن شاب ثريّ وذي إسم مرموق سيُفرَض عليّ. ففي مُجتمعنا، لم يكن الحب جزءًا مِن المُعادلة بل الحسَب والنسَب... والحساب المصرفيّ.

عندما أدركَ أفراد عائلتي أنّني هربتُ مع ابن الحدائقيّ، أوّل شيء فعلَه أبوايَ كان طَرد الأب طبعًا مع أنّه لَم يكن على عِلم بشيء، فهو الآخر لَم يكن ليقبل بأن يكون ابنه جزءًا مِن عمليّة "العار" بعدما قضى ذلك الرجل الطيّب أكثر مِن عشرين سنة بخدمتنا. رحَلَ حمايَ الأرمل إلى منزله في القرية مِن دون أن يتّصل بنا مِن كثرة امتعاضه مِن خليل. ومِن ثمّ، أرسَلَ أبي أحد مساعديه ليجد أين أسكن. وبعد أن عثَرَ عليّ، بعَثَ لي برسالة واضحة تقول بألا أفكّر بالعودة إلى البيت أو، وما هو أهمّ، أن أطلُب مِن أحد مساعدة ماليّة. الجزء النفسيّ والمعنويّ لَم يكن، كالعادة، ضمن المُعادلة. فعند هؤلاء الناس، كان المال كلّ ما يهمّ.

لَم آبَه لتهديدات أبي، فكنتُ أعرفُها مُسبقًا، ولَم آسف لصمت أمّي أو أختي، لأنّهما كانتا مثل والدي تمامًا. وحدي كنتُ مُختلفة عن الباقين، وكنتُ فخورة بنفسي.

بعد انتهاء "شهر العسل"، واجهنا وخليل صعوبة واقعنا، إذ كان علينا إيجاد عمل وبسرعة، فالمال الذي حصلنا عليه مِن بيع ما أخذتُه مِن والدَيّ كان سينفذ بين يوم وآخر، ولَم يكن يجوز طبعًا أن نقضي حياتنا في الفندق. كان الأمر أسهل على زوجي، لأنّه كان مُعتادًا العمل لدى الناس، ويعرفُ كيف يضع كبرياءه جانبًا مِن أجل كسب لقمة عَيشه كما فعَلَ أبوه قبله. لكنّني كنتُ إبنة مُدللة ولَم أعمل يومًا. إلى جانب ذلك، لَم أكن أملكُ أيّ شهادة تُساعدُني على اختيار ما أحبُّ القيام به. لِذا قبِلتُ على مضض أن أعمل كمساعدة في حضانة للأطفال. في البدء ظنَنتُ أنّني سأساعدُ الحاضنات، إلا أنّني عندما تفاجأتُ بمهامي التي كانت تقضي بأخذ الأولاد إلى الحمّام. تركتُ الحضانة في اليوم نفسه.

مكثتُ بلا عمل بضعة أشهر إلى أن وجَدَ خليل عملاً كحدائقيّ في إحدى الفيلات وأخذَني معه لنعيش هناك، في الغرفة المُخصّصة لنا. كِدتُ أموتُ مِن العار، لكنّني حبَستُ دموعي مِن أجل زوجي. فلَم أستطع تصوّر نفسي أعيشُ في مكان شبيه ببيتي السابق، ولكن في مثل هذا المنزل البسيط! إلا أنني ركّزتُ على حبّي لخليل وفرَحي للعَيش معه حيث يكون. لكنّني اشطرَتُ عليه بأنّني لن أعمل لدى هؤلاء الناس بل أهتمّ بغرفتنا وبتحضير الطعام. وافقَ خليل وأخَذنا أمتعتنا القليلة إلى حديقة الفيلا.

لَم أكن أعرفُ بعد ما ينتظرُني في ذلك المكان، وأيّ أسرار كنتُ سأكتشفُها.

 

يتبع...

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button