مُساعِدة لجوجة

إفتخَرَ الجميع بي حين أسَّستُ شركتي، ليس فقط لأنّني إمرأة بل أيضًا لأنّني كنتُ أوّل مَن نجَحَ في التغلّب على العوز مِن بين كلّ أفراد عائلتي. ولقد فعلتُ ذلك بفضل إصراري على التفوّق والتميّز، ولأثبتَ لنفسي وللعالم أنّ الإنسان يُمكنُه تغيير مصيره.

وكَي أفلَح في إستمراريّة شركتي، أحَطتُ نفسي بالأفضل، أي أخصّائيّين في مجالهم، ومنهم أمال، مُساعدتي الخاصّة، التي هي محوَر قصّتي. سأحكي لكم قليلاً عنها قبل بدء سرد الأحداث:

كانت أمال سيّدة مُخضرمة في العمَل الإداريّ، وجاءَت إليّ بِتوصيات عديدة حين أُذيعَ خبَر بحثي عمَّن يُساندني في عمَلي. وهي نالَت اعجابي مِن أوّل مُقابلة أجرَيتُها معها، فكوَنها عزباء إلى جانب خبرتها الطويلة أثَّرَا على قراري، لأنّني لَم أكن أُريدُ أن تكون مُتزوّجة أو لها أولاد لتتفرّغ للعمَل في شركة ناشئة تدخلُ عالم التجارة بقوّة. فلا مجال للتأخير أو التغيّب لأيّ سبب، حتى في ما يخصّني. كان ذلك المشروع هو عمَل حياتي ولا يأتي شيء أو أحد بيني وبينه. أنا الأخرى كنتُ عزباء ولا أنوي الإرتباط في المستقبل القريب.

إرتحتُ للغاية حين بدأَت أمال بوظيفتها، فكان مِن الواضح أنّها تعلَم تمامًا ما عليها فعله، إلى جانب إعطائها لي نصائح قيّمة. في كلمة، كنتُ قد وجدتُ اللؤلؤة النادرة. واستغربتُ أن تكون تلك السيّدة مُتوفّرة للعمَل لدَيّ لكثرة جدارتها، فسألتُها عن السبب وهي أجابَت:

 

- لقد تركتُ عمَلي الأخير لأنّ أشياءً كثيرة كانت تحصلُ هناك لَم أكن موافقة عليها.

 

لَم أسأل عن تفاصيل إضافيّة، فأنا لَم أكن يومًا فضوليّة.

أقلعَت شركتي بسرعة، وصارَ لدَيّ عملاء كبار أحبّوا طريقتي في التعامل معهم وخاصّة نزاهتي في العمَل، فلقد احترمتُ وبدقّة مواعيد الإستلام والتسليم، وحدَّدتُ أسعارًا مدروسة تؤمِّن لي الإستمراريّة وتجلبُ لي الثقة المطلوبة في هكذا مجال. كلّ ذلك ساهَمَ في نَيلي القروض اللازمة مِن المصارف والمُموّلين.

في الواقع، بوجود أمال لَم أعُد أهتمّ بالتفاصيل الصغيرة، الأمر الذي أراحَني إلى أقصى درجة. إضافة إلى ذلك، هي كانت تسدي لي نصائح قيّمة في ما يخصّ العمَل والموظّفين، لأنّها كانت تملكُ قدرة على التمييز بين الناس.

وفي أحَد الأيّام، قالت لي مُساعِدتي:

 


ـ آنستي، دعيني أهتمّ بأموركِ الخاصّة، فلدَيكِ الكثير لِتفعليه ولا وقت لدَيكِ لِباقي الأشياء.

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ أعني مثلاً تعبئة سيّارتكِ بالوقود، الذهاب إلى المصبغة لِجَلب ملابسكِ أو حتى حاجياتكِ مِن السوبر ماركت.

 

ـ لكنّ ذلك ليس مِن مواصفات عمَلكِ يا أمال... إضافة إلى ذلك، متى سيتسنّى لكِ القيام بكلّ تلك الأمور؟

 

ـ أنا مُساعدتكِ يا آنستي وذلك بالفعل مِن ضمن مواصفات عمَلي... وأستطيع القيام بذلك بعد انتهاء الدوام.

 

ـ لكنّني لا أستطيع، على الأقل في الوقت الحاضر، زيادة راتبكِ.

 

ـ لا أطلبُ أيّ زيادة بل كلّ ما أُريدُه هو إراحتكِ.

 

وصارَت أمال تهتمّ بكلّ شيء. وأذكرُ أنّني حمٓدتُ ربّي على وجودها معي. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ أسكنُ لوحدي، فجميع ذويّ كانوا يعيشون في البلدة التي كانت بعيدة كلّ البُعد عن العاصمة. وأصبحَت مُساعدتي الإنسانة الوحيدة التي أستطيعُ الإتّكال عليها في حياتي... إلى حين تعرّفتُ إلى مروان.

صحيح أنّني كنتُ مُصمِّمة على عدَم الإلتهاء بأمور القلب لأتفرَّغ لِشركتي ومُستقبلي، إلا أنّ الحبّ لا يطلبُ الإذن منّا للتغلغُل فينا. وكان مروان شابًّا وسيمًا وناجحًا وتاجرًا مُحنّكًا. أُعجِبنا ببعضنا مِن أوّل نظرة، وعلِمتُ حينها أنّ كلّ مُحاولاتي للبقاء عزباء باءَت بالفشل.

ولاحظَت طبعًا أمال ذهاب وإيّاب مروان إلى مكتبي فسألَتني ذات يوم:

 

ـ ما بال ذلك التاجر؟ فهو صارَ شِبه مُقيم هنا!

 

ـ أليس وسيمًا ولطيفًا؟

 

ـ أجل ولكن... لدَيكِ شركتكِ يا آنسة... والوقت ليس للغرام بل للعمَل.

 

ـ وهل كلّ أصحاب الشركات عزّابًا؟ لقد أعطاني مروان فرٓحًا لَم أكن أعرفُه مِن قَبل. أنا سعيدة يا أمال!

 

لَم تُجِب مُساعِدتي لأنّها لَم توافُق على الموضوع، ولَم يهمّني الأمر على الإطلاق، خاصّة أنّني لَم أكن بحاجة إلى بركة أحد لأُديرَ حياتي العاطفيّة.

رافقَني مروان إلى البلدة ليتعرَّف إلى أهلي الذين أحبّوه وأعطوه الإذن بِخطبتي، وبدأنا نُحضّرُ لِحياتنا سويًّا. والكلّ يعلَم أنّ فترة ترتيب العرس وفرش البيت هي الأجمَل في حياة الثنائيّ، فكَم كانت فرحَتي كبيرة! إلا أنّ أمال كانت تُحبِطُني للغاية في ما يخصّ خطيبي، إذ أنّها لَم تنفكّ عن ابداء إمتعاضها مِن مروان. ملَلتُ مِن كلامها هذا، وطلبتُ منها عدَم التدخّل في حياتي الشخصيّة، فأجابَتني:

 

ـ أنا وسط حياتكِ الشخصيّة يا آنسة، هل نسيتِ أنّني أقومُ بكلّ أعمالكِ الخاصّة؟

 

ـ أنتِ عرضتِ نفسكِ لهذه المهام يا أمال، وإن كنتِ تعتبرين نفسكِ أمّي أو أختي الكبيرة، فاسمحي لي بتذكيركِ بأنّكِ موظّفة لدَيّ.

 

ـ كلامكِ مُجرِّح يا آنستي.

 

لَم آسف على ما قلتُه لها، بل كان عليّ إعادتها إلى مكانها الصحيح. كان خطيبي مِن رأيي وهو لفَتَ انتباهي إلى أمر مُهمّ: ما كان السبب الحقيقيّ وراء تركها عمَلها القديم؟ فقرّرتُ التحرّي عن الموضوع في أقرَب وقت.

في تلك الأثناء، كانت أمال تقومُ بتحرّيات أيضًا لكن عن مروان، الأمر الذي لَم أحسِب حسابه. فكيف لي أن أتخايَل أنّ مُساعِدتي تبحثُ في تفاصيل حياة خطيب موظِّفتها؟؟؟ كنتُ قد بدأتُ أسأم مِن تصرّفات أمال واستحواذها على كلّ صغيرة في حياتي، وندِمتُ كثيرًا لأنّني أعطَيتُها الصلاحيّة اللازمة لذلك. واشتعلَت تلك الشرارة يوم قالت لي أمال:

 


ـ علِمتُ أشياء غير جميلة عن مروان هذا.

 

ـ مروان هذا، كما تُسمّينه، هو خطيبي وزوجي المُستقبليّ. أرجو منكِ إحترامه.

 

ـ هذا لا يهمّ... ما يهمّ أنّه يتحلّى بِسُمعة سيّئة في مجال التجارة.

 

ـ إسمعي يا أمال...

 

ـ دعيني أُكمِل! إنّه مديون ولا يملكُ قرشًا واحدًا. وهو يُريدُ الزواج منكِ لوضع يده على مالكِ وشركتكِ!

 

ـ آه! لأنّني قبيحة وغير ذكيّة؟ أو ربّما كلّ مَن يُحبُّني لدَيه غاية ما؟!؟ أهذه نظرتُكِ لي؟

 

ـ أبدًا، بل نظرتُه هو لكِ يا آنستي.

 

ـ لسانُكِ مؤذٍ للغاية، ولستُ أفهَم لماذا خبَر زواجي يؤلمُكِ لهذه الدرجة يا أمال. هل تريديني لنفسكِ فقط؟

 

ـ لا، لا... بل أحبُّكِ كثيرًا.

 

ـ آه... إذًا أنتِ مِن اللواتِي تُحِبنَ النساء!

 

ـ ماذا؟!؟ يا إلهي... ما الذي يحصلُ لكِ يا آنستي؟ لَم أعُد أعرفُكِ!

 

ـ لماذا تركتِ عملكِ الأخير؟ أم أنّهم طردوكِ لأنّكِ فضوليّة وتُحبّين حَشر أنفكِ في أمور الآخرين؟ أجيبيني!

 

ـ تركتُ عمَلي لأنّني لا أُطيقُ ما ليس قانونيًّا. وسأتركُ العمَل لدَيكِ أيضًا لأنّكِ تُهينيني بلا سبب. كلّ ما عليكِ فعله هو التقصّي عن خطيبكِ تمامًا كما أنا فعلتُ، أم أنّكِ تُصدّقين كلّ ما يقوله ذلك المُحتال؟؟ أنتِ إمرأة ذكيّة وموهوبة لكن ليس بأمور القلب، فالخبرة في هذا المجال تنقصُكِ.

 

ـ لبَل أنتِ الخبيرة في أمور القلب! فأنتِ لَم تتزوّجي يومًا؟!

 

ـ يا آنستي... ماذا تعرفين عنّي وعن حياتي؟ لا شيء... فلَم تُحاولي يومًا معرفتي عن كثَب مع أنّنا نقضي معظم وقتنا سويًّا.

 

لَم أعرِف ماذا أُجيب، فهي كانت على حقّ في ما يخصّ عدَم معرفتي بها بشكل جيّد. إلا أنّني قبلتُ استقالتها على الفور، مع أنّني كنتُ سأخسرُ عنصرًا مُهمًّا لِشركتي. لكنّ راحة بالي وعلاقتي بمروان كانتا أهمّ مِن كلّ شيء. لَم أقُل لِمروان عن الأخبار البشِعة التي أشاعَتها أمال حوله كي لا أُحزِنه، بل تصرّفتُ معه على طبيعتي، وقلتُ له إنّ أمال تركَت العمَل بسبب حالة صحيّة مُزمنة. عندها صرَخَ خطيبي:

 

- ممتاز! أخي هو الإنسان المُناسِب لِمنصب مُساعِد! سأقولُ له أن يمرّ إلى مكتبكِ غدًا صباحًا!

 

للحقيقة، لَم يخطُر ببالي أبدًا توظيف أخ مروان في الشركة، فذلك الشاب كان غير مؤهّل لأيّ عمَل بسبب عدَم إمتلاكه شهادات أو خبرات، إلا أنّني لَم أتمكّن مِن رفض مُقابلته على الأقلّ. وكنتُ على حقّ، فأخ مروان لَم يكن أبدًا مُناسِبًا كمُساعد، فأخبرتُ خطيبي بعد المُقابلة أنّني لن أوظِّف أخاه. وكَم تفاجأتُ بِردّة فعله، عندما صرَخَ بي:

 

ـ ماذا؟؟؟ قريبًا سأصبُح زوجكِ أيّ شريككِ في الحياة والعمَل.

 

ـ شريكي في العمَل؟ ماذا تعني؟

 

ـ أعني أنّ ما لكِ سيكون لي، وسأوظّفُ أخي في الشركة التي سأملكُ نصفها.

 

ـ ومَن قالَ لكَ إنّكَ ستملكُ نصف شركتي؟!؟

 

ـ العُرف يقولُ ذلك.

 

ـ لدَيكَ عملكَ الخاص بك ولَم أطلُب منكَ يومًا إشراكي به. لن يعمَل أخوكَ لدَيّ وحسب.

 

إستفزَّني خطيبي بكلامه فقرّرتُ أخيرًا التقصيّ عن أعماله، فقد كان مِن الواضح أنّه ينوي وضع يده على تعَبي. وكانت أمال على حق: إتّضَحَ أنّ مروان مديون لأقصى درجة وسُمعته سيّئة للغاية. ليس ذلك وحسب، بل هو أذاعَ لِمُديّنيه خبَر زواجه منّي واستلام شركتي، واعدًا إيّاهم بتسديد لهم كلّ ما عليه قريبًا.

هكذا إذًا... إتّصلتُ بأمال هاتفيًّا طالبةً منها المجيء إلى مكتبي بأسرع وقت. وعندما هي وقفَت أمامي، ركضتُ أُعانقُها مُعتذرة. كان مِن الواضح أنّها غاضبة منّي لكنّ مزاجها تغيَّرَ حين أخبرتُها أنّني فسختُ خطوبتي مع مروان. ثمّ نظرَت إليّ أمال بِحنان وقالَت:

 

- كانت لديّ إبنة... أجل، ولكنّها ماتَت... داء خبيث... وجدتُ فيكِ شيئًا منها وأردتُ إسعادكِ وحمايتكِ. لقد ارتحتُ الآن بعد أن تركتِ ذلك الماكِر. أدعو لكِ بالتوفيق. وداعًا.

 

- مهلاً! إلى أين تظنّين نفسكِ ذاهبة؟ فلدَينا الكثير مِن العمَل... يا شريكتي الجديدة.

 

- شريكتكِ؟!؟

 

- هيّا بنا... فملفّات عملائنا لا تنتظر!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button