مُدمِن على حبّها

كانت مُنى نقطة ضعفي، وذلك منذ اليوم الذي سمعتُ فيه مِن فمها الجميل كلمة "أحبُّكَ". لَم أصدّق أن تكون تلك الصبيّة الفاتنة قد اختارَتني مِن بين جميع مُعجَبيها. فالحقيقة أنّني كنتُ شابًّا عاديًّا، أعني بذلك أنّني لَم أكن وسيمًا أو ثريًّا كالذين يحومون حولها. ومنذ تلك اللحظة، صِرتُ أسيرَ مُنى ولسنوات طويلة. نعم، سنوات قضَيتُها مُعلّقًا ليس فقط بها، بل بأصغر حركة تقومُ بها أو كلمة تنطُقُها. سألتُ نفسي مرارًا لماذا كان لِمُنى هذا التأثير عليّ وهذه الهَيمنة، لكنّني لَم أجد جوابًا.

بعدما أنهَينا دراستنا الجامعيّة، تزوّجنا وكانت فرحَتي لا تُقاس، إلا أنّنا تطلّقنا بعد أقلّ مِن سنة بسبب غيرتي على مُنى. فهي لَم تقطع إتصالاتها بِمُعجَبيها، الأمر الذي لَم أستطع تحمّله. فزوجتي لَم تقدر التخلّي عمّا كان يُؤكّد لها جمالها وتأثيرها على الجنس الخشن، ولَم يكفِها حبّي لها.

حياتي مِن دون مُنى صارت بائسة للغاية وغرقتُ في كآبة لا توصَف. فلقد حبستُ نفسي في البيت الزوجيّ الذي كان يُذكّرني بالأشهر القليلة التي ذقتُ بها طعم السعادة، وصرتُ أسأل نفسي إن لم يكن مِن الأفضل لي تحمّل مُعجبيّ زوجتي على أن أخسرها. ولكثرة حزني، فقدتُ أيضًا عمَلي، إذ لَم يعُد مديري يتقبَّل غياباتي المتكرّرة أو إهمالي لواجباتي.

لحسن حظي كنتُ قد وضعتُ جانبًا بعض المال لاستقبال الجنين الذي لَم تحبَل به زوجتي، فاستطعتُ العَيش إلى حين وجدتُ عملاً أستطيع القيام به مِن منزلي. بهذه الطريقة، كنتُ قادرًا على المكوث في المكان الذي لا يزال يحمل بين جدرانه رائحة مُنى وضحكتها.

مرَّت السنوات على هذا النحو حين جاءَني اتّصال مِن زوجتي السابقة. كانت تبكي بمرارة وتقول لي كَم اشتاقَت لي. لَم أصدّق أذنَيّ وأسرعتُ بالتوسّل إليها للعودة "إلى بيتها".

وهكذا عُدنا نعيش سويًّا وتزوّجنا مجدّدًا. لَم أسأل مُنى عمّا فعلَته خلال غيابها عنّي، لأنّ الأمر لَم يكن يهمّني فعلاً، ولأنّني خفتُ أن أسمع منها أنّها أحبَّت غيري. أردتُ أن نبدأ صفحة جديدة مليئة بالحب والتفاؤل.

وُلِدَ إبننا واكتملَت سعادتي أخيرًا.

لكنّ مُنى بدأَت تترك لي عناء الإهتمام بالطفل لتخرج هي مع صديقاتها. في البدء لم أعترض، لكنّ الأمر صارَ عادة لدَيها، وشعرتُ بأنّني صرتُ حاضنة وليس زوجًا. وعندما فاتحتُها بالأمر صرَخَت بي:

 


ـ إنّكَ تبقى في البيت طوال النهار وليس لدَيكَ أصدقاء! الأفضل لكَ أن تفعل شيئًا بنّاءً بوقتكَ.

 

ـ لكنّني أعملُ، صحيح مِن البيت ولكنّني أتقاضى أجرًا مُحترمًا، تمامًا وكأنّني أذهبُ إلى عملي في الصباح. إضافة إلى ذلك، عدَم وجود أصدقاء لي لا يُعطيكِ الحقّ بتركي هكذا بصورة شبه يوميًّة.

 

ـ أفعلُ ما أشاء.

 

ـ هذا عندما تكونين عزباء. لكنّكِ سيّدة متزوّجة وأمّ، والأمر مُختلف. هل أشعرُكِ بالضجر؟

 

ـ نعم

 

بعد محادثتنا هذه بأسبوعَين، لَم ترجَع مُنى إلى البيت، بل اتّصلَت بي هاتفيًّا لتقول لي إنّها لَم تعُد تريدُني ومِن الأفضل أن نتطلّق. حاولتُ تغيير رأيها، إلا أنّها بقيَت مُصرّة. هي لَم تكن بمفردها، بل سمعتُ صوت رجل إلى جانبها وكأنّه يُملي عليها ما تقولُه. وعلِمتُ لاحقًا أنّه أصبَحَ زوجها.

لَم تطالب مُنى بحضانة إبننا، الأمر الذي أراحَني، فلَم أكن واثقًا مِن أنّها ستكون أهلاً للإهتمام به، خاصّة بعدما بدأتُ أرى صوَرها في المجلات وهي في تلك السهرات الصاخبة. أكملتُ حياتي بهدوء، كما كنتُ مُعتادًا أن أفعل. وبعد البحث والتأمّل، وجدتُ أنّ لا شيء كان يربطني فعليًّا بِمُنى، فقد كنّا مُختلفَين تمامًا.

بقيَت مُنى ترى إبننا مرّة في الأسبوع إلى أن اختفَت. كانت قد وجدَت السعادة في مكان بعيد، على أحدى الشواطىء الساحرة التي نراها في المجلات أو الأشرطة الوثائقيّة. كان زوجها ثريًّا للغاية ويستطيع تحقيق جميع أحلامها... على خلافي.

كبُرَ إبننا واعتادَ العَيش مِن دون أمّ. كنتُ قد عوّدتُه على زيارة أمّي كي يأخذ منها بعض الحنان، إلا أنّه بقيَ مُتعطّشًا للإنتباه، الأمر الذي أتعَبني كثيرًا. وبالرغم مِن حبّي الأبديّ لمُنى، قرَّرتُ الزواج مجدّدًا.

كانت أميرة تُشبهُني بكلّ شيء، وأملتُ أن تُنسيني التي استحوذَت على قلبي، وأن تحبّ إبني ولو بعض الشيء. لَم أخطئ بالإختيار بل صرتُ حقًّا سعيدًا مع زوجتي الثانية، واستطعتُ إيجاد عمل آخر يسمحُ لي بالإختلاط بالناس، الأمر الذي ساعدَني كثيرًا وغيّر في طباعي. فلَم أعدُ كئيبًا ومُنزويًا وتمكَّنتُ أخيرًا مِن أن أخطّط لغد واعد.

لكنّ مُنى لَم تكن لتقبل أن استبدلُها بأخرى، بالرغم مِن أنّها لَم تكن تتأخّر عن تركي كلّما استطاعَت ذلك. وهي حين علِمَت بحياتي الجديدة، عادَت لتسترجع ما هو لها: قلبي.

 

ظهَرَت مُنى في مقّر عملي الجديد، وتساءَلتُ كيف علِمَت بالعنوان. لكنّني نسيتُ كل شيء عندما رأيتُها واقفة أمامي بكامل أناقتها تقول لي قبل أن تُعانقني بقوّة: "كم اشتقتُ إليكَ!". كنتُ على وشك تأنيبها، إلا أنّها بدأَت تروي لي عن مللها مِن زوجها، وكيف أنّها أساءَت تقدير مزايا ذلك الرجل التي، وحسب قولها، لم تكن تساوي شيئًا أمام مزايايَ. ثمّ وعدَتني بأنّها "ستتخلّص" منه بسرعة لتعود إليّ وإلى إبننا.

 


كان الأمر بمثابة حلم جميل، لكنّني تذكّرتُ فجأة أنّني أيضًا متزوّج وأنّ الأمر مستحيل. لَم تقف مُنى عند ما أسمَته "تفاصيل صغيرة" وأكّدَت لي أنّنا، لو أردَنا فعلاً ذلك، يُمكننا أن نكون سويًّا مجدّدًا، وكلّ ما كان علينا فعله، هو أن ننوي إنهاء علاقَتَينا مع زوجَينا فيعود كلّ شيء إلى ما كان عليه.

عندما رحلَت مُنى، عُدتُ إلى صوابي وإلى الواقع، ورفضتُ طبعًا أن أؤذي إنسانة بطيبة ومخلصة كأميرة. فهي كانت زوجة مثاليّة وأمًّا ثانية لإبني. في الليلة نفسها، مارستُ الحبّ مع زوجتي بحنان، وكأنّني أثبتُ لنفسي أنّني أحبُّها. لكنّني كنتُ أعرفُ في قرارة نفسي أنّني لَم ولن أحبّ سوى مُنى.

إعتزَمتُ عدَم الردّ على مُكالمات مُنى التي كانت عديدة وفي كلّ وقت مِن النهار والليل، إلا أنّها صارَت تنتظرُني أمام مدخل عملي وتملأ رأسي بالمشاريع والخطط، حتى أنّني صرختُ مرّة بها بأن تتركني وشأني. عندها، نظَرَت إليَّ باستغراب مُدركة أنّها أساءَت تقدير انصياعي لها، الأمر الذي زادَ مِن تشبّثها بي. لَم تكن مُنى مُستعدّة لإفلات ضحيّتها، مهما كلّف الأمر. لِذا، بدأَت تنفيذ خطّتها البديلة.

إستهدفَت مُنى زوجتي أميرة، التي اعتبرَتها العثرة في خطّة الوصول إلى هدفها. كان الأمر سهلاً بالنسبة لها، فأميرة لَم تكن مثلها، أي أنانيّة وخبيثة. لِذا، جاءَت مُنى إلى بيتنا أثناء تواجدي في عملي.

دخلَت المكان وكأنّه لا يزال بيتها، وبعد أن عرّفَت عن نفسها، طلبَت، بل أمرَت أميرة بأن تحضّر لها القهوة وكأنّها سيّدة البيت وتأمر خادمتها. نفّذَت أميرة الأوامر، فمُنى كانت تعرفُ كيف تتلاعب بالناس. وبعد أن شربَت قهوتها، قالَت لزوجتي:

 

ـ كنتُ أجلسُ على الكنبة مع زوجكِ ونتبادل القبل لساعات طويلة... هل يفعلُ ذلك معكِ؟

 

ـ لا... أعني... أحيانًا.

 

ـ وكنّا نمارس الحبّ في المطبخ والحمّام، والصالون... في أيّ مكان وأي وقت. كان مولعًا بي... ولا يزال.

 

ـ لا أظنّ ذلك، فهو يُحبُّني وهو سعيد معي.

 

ـ ليس لوقت طويل.

 

عندما أخبرَتني أميرة بالذي جرى في البيت، إنتابَني غضب شديد وقرّرت إيقاف مُنى عند حدّها. إلا أنّني حسبتُ نفسي أقوى ممّا أنا، فلقد نسيتُ ذلك الغضب فور رؤية مُنى في اليوم التالي. وهذا ما قالَته لي:

 

ـ إسمَع، زوجتكَ شنيعة وبسيطة وحتمًا مُملّة، وزوجي رجل سخيف لا وقت عنده لي. ماذا لو تخلّصنا منهما لنعيش بسعادة سويًّا؟

 

ـ ماذا تقصدين؟

 

ـ أعني أنّ الحوادث تحصل دائمًا وسنجدُ طريقة مناسبة، إن فكرّنا مليًّا بالأمر. أستطيع ترك زوجي، لكنّني لن أحصل على ملايينه. أمّا إذا أصبحتُ أرملته، فسنجد نفسَينا ثريّين! ما رأيكَ؟

 

ـ أنتِ حتمًا مجنونة ومُجرمة! لا أريدُ رؤيتكِ مجدّدًا!

 

بعد يومَين، حصَلَ حادث لأميرة زوجتي، فأثناء قطعها الطريق وهي عائدة مِن السوبر ماركت، جاءَت سيّارة مُسرعة وضربَتها. شاء الله أن تكون إصابة زوجتي بسيطة وخطَرَت مُنى ببالي على الفور. إلا أنّ أميرة لم ترَ السيّارة ولَم أكن قادرًا على التبليغ عن المُجرمة. كل ما استطعتُ فعله هو أنّني قصدت زوج مُنى لتنبيهه إلى ما قد يحصل له. خفتُ إلا يُصدّقني، لكنّني وجدتُه يُصغي لكلامي وكأنّه كان يخشى أن يحصل له مكروه. كلّ ما قالَه لي كان: "أشكرُكَ... سأرى ما يُمكنني فعله."

علمتُ أنّ زوج مُنى طلقّها، ليس فقط بسبب ما قلتُه له، بل لأنّه كان يُعاني مِن تصرّفاتها وجشعها الذي لا حدود له. وخفتُ أن تنتقمَ زوجتي السابقة منّي أو مِن أميرة، لِذا قرّرتُ إطلاع الشرطة على شكوكي، وهم وعدوني بأن يُكلّموها. فلَم يكن بمقدورهم فعل أكثر مِن ذلك بغياب أدلّة على مخاوفي.

عندما شعرَت مُنى بأنّها أصبحَت تحت مجهر الشرطة، إكتفَت بتنكيد حياتي مِن خلال إبني. فهي رفعَت دعوى ضدّي للحصول على الحضانة الكاملة بعدما أقنعَته بأن يدّعي بأنّ أميرة تُسيء معاملته وبأنّني أُهمِلُه. ومنذ ذلك الوقت ونحن نُعاني مع المحاكم والمحامين والكذب والإفتراء، إلا أنّني لن أتراجع وكذلك أميرة التي، كعادتها، تُساندُني.

إختفى حبّي لمُنى كليًّا وحلّ مكانه حبّ لأميرة. وشفائي مِن إدماني على مُنى، أعطاني قوّة لَم أتصوّر أنّني أملُكها وسأوظّفُها كاملةً لاستعادة إبني الحبيب. فلَن أتركَ مُنى تلقّنُه أساليبها البشعة وتشرّبُه أطباعها السيّئة، أقسمُ بذلك!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button