من يغار من ميّتة؟

يوم أخبرَني والدي أنّه سيتزوّج مُجدّدًا سُعِدتُ له للغاية، فالمسكين كان وحيدًا في ذلك البيت الكبير بعد وفاة أمّي وهو كان يقضي وقته بالنظَر إلى صوَرها التي ملأَت الجدران. وها هو سيحظى أخيرًا بِرفقة إمرأة ومَن يهتمُّ به إن مرضَ. فمِن جهتي كنتُ مُتزوّجة ولدَيّ إبنة وأعملُ في مصرف كبير. أمّا في ما يخصّ اختي، فكانت قد سافرَت إلى الخارج منذ زواجها وتعيشُ هناك بِصورة دائمة.

عرّفَني أبي إلى سمَر وأعترفُ أنّني وجدتُها لطيفة وذكيّة، والذي طمأنَني أكثر كان سنّها الذي قارَبَ سنّ والدي، الأمر الذي يُعطي توازنًا لِعلاقتهما. قدِمَت أختي وعائلتها مِن الغربة لِحضور الزفاف، وقضَينا جميعًا أوقاتًا فرِحة ومُمتعة ومِن ثمّ عادَ كلٌّ منّا إلى حياته.

لَم أترُك والدي بل صرتُ أزورُه أسبوعيًّا مع زوجي وإبنتي، بالإضافة إلى الإتّصال به يوميًّا، فلقد سمعتُ الكثير عن إستفراد بعض السيّدات لأزواجهنّ الناضجين. على كلّ الأحوال، لَم يكن أبي ثريًّا لتُخطِّط سمَر للإستيلاء على أمواله وأرزاقه. للحقيقة، لَم أجِد أيّ شيء مُريب بتصرّفات زوجة أبي على الإطلاق، بل العكس. فهو صارَ فرِحًا ومُتفائلاً على عكس ما كان عليه بعد موت أمّي، رحمها الله. كنتُ في تلك الفترة العصيبة رجاءه الوحيد، ليس فقط لأنّني بقيتُ إلى جانبه، بل بسبب شبَهي الكبير بوالدتي، فهو كان يراها مِن خلالي. وريما إبنتي هي الأخرى صورة طبق الأصل عنّي. فكان مِن الغريب كيف توارَثنا جينات كثيرة إبنة عن أمّ.

وسرعان ما اعتبرَت ريما إبنتي سمَر بمثابة جدّتها، وصارَت تجلسُ في حضنها لِتتدلّع. مِن جهّتها، أحبَت سمَر ذلك لأنّها لَم تُنجِب، وشعرَت أخيرًا بإحساس الأمومة.

بكلمة، كانت حياتنا تسيرُ بأفضل طريقة، فبدأتُ بالتفكير وزوجي بالإنجاب مُجدّدًا، بعد أن بقيتُ أُؤجّل الموضوع بسبب إهتمامي بأبي. فأين كنتُ سأجِد الوقت للقيام بمهامي كلّها لولا أنّه تزوّجَ مِن جديد؟

وهكذا وجدتُ نفسي حاملاً وعمَّت الفرحة أفراد العائلة كلّها. لكنّ حَملي كان في تلك المرّة صعبًا للغاية، وأوصاني الطبيب بِمُلازمة الفراش إن كنتُ أُريدُ الحفاظ على الجنين. عندها أصابَني الهمّ، فمَن كان سيهتمّ بِريما؟ كنتُ قد أخذتُ إجازة مِن عمَلي لكنّ ذلك لَم يحلّ المشكلة كلّيًّا. فشكرتُ ربّي يوم تطوّعَت سمَر للقيام بتلك المهام ريثما تتحسّن حالتي أو إلى حين أُنجِب. إعتبرتُ سمَر خشبة خلاصي، فزوجة أبي وإبنتي كانتا تتّفقان تمامًا.

لِذا، قرّرنا، بموافقة ريما التي كانت تبلغُ آنذاك السادسة مِن عمرها، أنّها ستقضي الأسبوع في بيت والدي وتأتي في نهايته إلى البيت. حضّرتُ لها أمتعتها وودّعتُها باكيةً، إلا أنّ فرحَها طمأنَني كثيرًا. مِن جهّتها، خصّصَت سمَر لها غرفة جميلة ملأَتها بالألعاب. قَبل رحيلها، أعطَيتُ ريما هاتفًا خلويًّا لأطمئنَّ عليها حينما أشاء، مِن دون أن أزعُج أهل البيت بإتّصالاتي العديدة. بكى والدي مِن الفرَح لدى وصول إبنتي، فكان الأمر وكأنّني عدتُ إلى البيت بنفسي.

 


غريبة هي الحياة... أعني كيف أنّ الظروف تتلاقى لِتخلق أحداثًا لَم تكن لِتحصل لو تغيّرَ عنصر واحد منها. فلولا حمَلي ولولا صعوبة حالتي، لَما بعثتُ إبنتي إلى بيت أبي وإلى تلك المرأة. ولو خطَرَ ببالي، ولو للحظة ما سيحدثُ، لأبقَيتُ صغيرتي إلى جانبي ليلاً نهارًا. لكن كيف لي أن أتكهّن أنّ سمَر، التي بدَت لنا مُتّزِنة، كانت بالفعل إنسانة مليئة بالحقد والغيرة... والشرّ. أفكّرُ أيضًا بأبي الذي ظنَّ أنّه استطاع إيجاد السعادة مِن جديد. مسكين!

لَم أُلاحِظ على الفور التغيّرات في نفسيّة إبنتي لِقلّة تواجدي الفعليّ معها. وأثناء مكالماتنا العديدة، لَم تبدُ لي إلا طبيعيّة. لكن مع الوقت، وجدتُها حزينة وتحدّقُ أمامها لِدقائق طويلة. سألتُها إن كانت تشعرُ بالوحدة مع شخصَين يكبرانها كثيرًا بالسنّ لكنّها أجابَت:

 

ـ أنا بخير يا ماما... عليكِ أن ترتاحي... أُريدُ أن يأتي أخي إلى الدنيا بِخير.

 

ـ أنا آسفة للغاية حبيبتي، فليس عليكِ تحمّل البُعد عن والدَيكِ... يا لَيتني أملكُ حلاً آخر.

 

ـ لا عليكِ... ماما، هل تجديني جميلة؟

 

ـ يا للسؤال الغريب! بالطبع يا حبيبتي، أنتِ أجمَل فتاة في الدنيا!

 

عانقتُها بقوّة وقبّلتُها ألف قبلة. كان مِن الواضح أنّها بدأت تشعرُ بالغيرة مِن أخيها الجنين، وتخافُ أن تخسِرَ مكانتها كإبنة وحيدة. دخَلَ أبوها الغرفة وطمأنَها هو الآخر مؤكّدًا لها أنّها ستبقى "أميرته الصغيرة." عادَت ريما إلى بيت أبي وقلبُها مليء بالفرح.

لكن سرعان ما عادَت ريما إلى حزنها الذي بانَ بوضوح في صوتها عبر الهاتف، وصورتها في حديثنا عبر الفيديو. كان قد مرَّ على وجودها عند أبي وزوجته حوالي الثلاثة أشهر، أي تبقّى لها أشهر أخرى طويلة للبقاء بعيدة عنّا. حاولتُ المُساومة مع طبيبي، إلا أنّه بقيَ مُصرًّا أن أبقى في سريري طوال الوقت.

لكن في إحدى المرّات التي أجرَيتُ مع ريما محادثة عبر الفيديو، لاحظتُ شيئًا غريبًا في غرفتها. رأيتُ غطاءً على المرآة الكبيرة المُعلّقة بالحائط. سألتُها عن الأمر وهي أجابَتني: "جدّتي سمَر هي التي وضعَته." بعد دقائق، إتّصلتُ بزوجة أبي لأسألها عن الغطاء، فأعطَتني تفسيرًا منطقيًّا وهو أن إبنتي تجِد صعوبة بالنوم ليلاً بسبب المرآة التي تعكسُ في وجهها أضواء المحلات المُقابِلة. شكرتُها على إهتمامها بِريما وانتهى الموضوع.

مرّة أخرى، لاحظتُ شيئًا آخر في غرفة إبنتي، وهو غياب كلّ الألعاب التي كانت تُزيّن السرير وأنحاء المكان، فشرحَت لي سمَر أنّها ملَّت منها بعد أن اعتبرَت نفسها قد كبرَت على تلك الأمور الولاديّة. إبتسمتُ في سرّي، فكان مِن الواضح أنّها تنضجُ شيئًا فشيئًا.

علامات إبنتي في المدرسة كانت جيّدة، فهي فتاة رصينة تعرفُ واجباتها، لذا لَم أتفاجأ كثيرًا حين رأيتُها عبر الفيديو ذات مساء تتناول عشاءها في غرفتها بعد أن أخبرَتني أنّها مشغولة بإنهاء دروسها.

بكلمة، كلّ تلك الدّلالات التي تُظهِرُ ما يحدثُ كانت أمامي طوال الوقت، إلا أنّ جميع التفسيرات التي قُدِّمَت لي كانت منطقيّة للغاية. لكنّ الحقيقة كانت فظيعة ولا أحد، حتى أفضَل أمّ في العالم، كان لتتخيّل ماذا يحدثُ فعلاً.

 


في الشهر السادس مِن حَملي، وقعَت الحادثة. كنتُ في أسوأ حال وأشكرُ ربّي اليوم أنّني لَم أُسقِطَ جنيني لِشدّة تأثّري. فلقد تلقَّيتُ وزوجي إتّصالاً في الصباح الباكر مِن أبي يُخبرُنا أنّ ريما في المشفى بعد أن حاولَت الإنتحار.

كيف لي أن أشرحَ لكم ما حصَلَ بي؟؟؟ تصوروا أنّ ولدَكم حاوَلَ الإنتحار وهو في سنّ لَم يُناهز بعد السابعة! بالطبع لَم أتمكَّن مِن الذهاب إلى المشفى بسبب حالتي، الأمر الذي زادَ مِن ضياعي، فراحَ زوجي كالمجنون لرؤية صغيرتنا. قيل له هناك إنّ ريما أخذَت أقراصًا منوّمة بكمّيّة مُميتة لِسنّها، ولو لَم يدخل أبي لإيقاظها صباحًا، لكانت ماتَت. أجروا لها غسيلاً للمعِدة، وانتظرَنا بفارغ الصبر أن تستفيقَ حبيبتنا.

عندما عادَ زوجي أخيرًا بِخبَر رجوع ريما إلى وعيها، أخبرَني أيضًا كيف كان أبي المسكين بحالة يُرثى لها. سمَر كانت تبكي وتوَلوِل وتشهقُ وكأنّها هي أم ريما. يا للماكرة!

إتّصلتُ في اليوم التالي بإبنتي واعدة إيّاها بإرجاعها إلى بيتنا فور خروجها مِن المشفى. فكان مِن الواضح أنّها عانَت إلى أقصى درجة مِن بُعدها عنّا. لكنّ ذلك لَم يكن السبب أبدًا، وهذا ما أخبرَته لنا فور عودتها إلينا:

 

ـ بعد وصولي بيت جدّي بأيّام، بدأَت جدّتي سمَر بإنتقادي. فهي صارَت تُكرّرُ لي كيف أنّني قبيحة لأنّني أُشبهُ جدّتي المرحومة، ورأيتُها مرارًا تمرُّ قرب صوَرها المُعلّقة في الصالون وتشتمُها وتبصقُ عليها. وكانت تُكّررُ لي مرارًا أنّها ترجو أن يولَد أخي جميلاً على خلافي. بعد ذلك، هي أقنعَتني أنّ لا لزوم لِمرآةٍ في غرفتي، فهي تعكس مدى بشاعتي ولا يجب أن أتذكّر مدى قباحتي، لِذا وضعَت غطاءً عليها. مع الوقت، قرّرَت جدّتي سمَر أنّ لا لزوم لألعابي لأنّها تُلهيني عن درسي، ولأنّني صِرتُ كبيرة لألعَب بها. شعرتُ بالوحدة مِن دون عروستي المُفضّلة التي كنتُ أُعانقُها ليلاً، إلا أنّني قبلِتُ بالأمر. وذات يوم، وجدَت جدّتي سمَر أنّه مِن الأفضل أن أتناوَل وجبات الطعام في غرفتي، فهي قالَت إنّ جدّي لا يُحسنُ الأكل وأنا قُبالته بسبب كثرة قباحتي. حزنتُ كثيرًا فهو لطالما يتغّنى بِجمالي، وأدركتُ أنّه كذِبَ عليّ. صبرتُ مِن أجلكِ يا ماما، ومِن أجل أخي.

 

ـ يا إلهي! أنتِ الجمال بِحَدّ ذاته يا حبيبتي! يا إلهي! وكيف توصّلتِ للإنتحار؟!؟ مِن أين جئتِ بالأقراص؟!؟

 

ـ جدّتي سمَر أعطَتني إيّاها يا ماما.

 

ـ وقالَت لكِ أن تنتحري؟!؟

 

ـ ليس تمامًا... هي قالَت لي إنّ الأقراص تنوّم المرء وإذا أُخِذَت بكميّة كبيرة، تُريحُه مِن عذابه، ويذهبُ إلى مكان آخر حيث لا قباحة أو جمال.

 

نظرتُ إلى زوجي بِغضب شديد وهو فهِمَ ما عليه فعله، فهو خرَجَ بسرعة وأنا عانَقتُ إبنتي المسكينة إلى حين غرِقَت في النوم.

نكَرَت سمَر كل الإتّهامات التي وجّهَها زوجي إليها حين قصَدَ بيتها، وساندَها أبي. فهما اعتبرا كلام ريما مُجرّد تخيّلات فتاة صغيرة. أسِفتُ لِموقف والدي، فمِن الظاهر أنّ لِزوجته سيطرة تامّة عليه. وبما أنّنا لا نملكُ سوى رواية ابنتنا ولا دلائل حسّيّة، لَم نستطِع الإشتكاء على سمَر. حذّرتُ أبي منها إلا أنّه رفَضَ الإستماع إليّ.

أخضَعنا ريما لِعلاج نفسيّ كي تستعيدَ ثقتها بنفسها، وخوفًا مِن أن تُحاوِل إنهاء حياتها مِن جديد، وبدأَت تتحسّن مع الوقت. في الآن نفسه جلَبتُ مُساعدة منزل، مع أنّ ذلك كلّفَني الكثير مِن المال.

رأى مولودي أخيرًا الضوء، وحين زارَنا أبي بعد غياب طويل لِرؤية حفيده، بدا لي حزينًا لأقصى حدّ. قال لي:

 

ـ لَم أُصدّقكم... أعذريني حبيبتي... إلا أنّكم كنتم على حقّ. فبعد تلك الحادثة، نزعَت سمَر كلّ صوَر أمّكِ وأخفَتها قائلة: "لا أُريدُ رؤية ذلك الوجه القبيح بعد اليوم!". عندها علِمتُ أنّ كلّ ما قالَته ريما كان صحيحًا. لَم أتصوّر أبدًا أنّ زوجتي تغارُ مِن المرحومة إلى هذه االدرجة، فهل يُعقَل أن يغارَ أحدٌ مِن ميّت، ولِدرجة تعذيب فتاة صغيرة ودفعها إلى الموت فقط لأنّها تُشبه جدتها؟ إطمئنّي يا حبيبتي، فلقد طلّقتُ سمَر ورمَيتُها خارجًا بين ليلة وضحاها. لَم أعطِها شيئًا بل هدّدتُها بِفضح أمرها عند الشرطة إن هي طالبَت بشيء. يا إلهي، حسبتُ أنّني وجدتُ السعادة إلا أنّني خاطرتُ بحياة حفيدتي. هل ستُسامحيني يومًا؟

 

وبالطبع سامحتُه، فعاشَ والدي معنا حتى راحَ يُلاقي أمّي ليُكملا سويًّا مشوارهما.

 

حازرتها بولا جهشان

المزيد
back to top button