من كانت تلك السيّدة؟

زوّجوني وعادوا جميعًا إلى تلك المنطقة الناقية والقاسية التي ترعرعتُ فيها. زوّجوني ونسوا أمري، وكأنّني لم أكن يومًا ابنتهم أو أختهم. طبعًا لم أختَر نادر زوجًا لي فهذا لم يكن مسموحًا، ولم أتوقّع أن تتمّ "الصفقة" بهكذا سرعة. أقول صفقة لأنّها لم تكن سوى ذلك، فكيف أسمّي ما حصَلَ لي؟

لم أرَ يومًا هنيئًا مع نادر الذي يكبرني بعشرين سنة، وله طبع حاد وعقل أقسى مِن الحجر لا يخترقه شيء. حتى عندما قرَّرتُ أنّ لا جدوى مِن التفاهم معه، بقيَ زوجي يخلق المشاكل ويجد مبرّرًا ليُهينني ويقلل مِن شأني.

وما كنتُ أخشاه حصل، أي بدأ نادر بضربي بعد أن نفذَ مِن الكلمات للتعبير عن كرهه لي. علِمتُ منه خلال إحدى مشاجراتنا أنّه هو الآخر لم يختَرني ولم يكن يُريد الزواج أصلاً بل خضَعَ لضغط مَن هم حوله، وأنّه لا يطيق حتى رؤيتي. طلبتُ منه أن يُطلّقني ولكنّه رفَضَ ذلك كي لا يُفرّح قلب "إنسانة مثلي".

وخلال مشاجراتنا القويّة، وقبل أن يبدأ بالضرب، كنتُ أهرب إلى جيراني. ولكن سرعان ما كان يلحق بي ويخبط على بابهم لإعادتي إلى المنزل بعد أن يشتمني ويشتم أصحاب البيت. إلى أن سئِمَ منّي جيراني، وأقفلوا الباب بوجهي ولم يعد لي أحد أهرب إليه.

في أحد الأيّام قالَت لي إحدى جاراتي:

 

ـ أعلم كم تعانين يا حبيبتي... نادر رجل عصبيّ للغاية... كان هكذا مع أمّه رحمها الله ولم يكن يجدر به الزواج وإتعاس بنات الناس... تعلمين أنّني لم أعد قادرة على استقبالكِ بعد أن منعَني زوجي مِن ذلك، ولكن هناك صديقة لي تسكن في البلدة المجاورة وهي مستعدّة لمساعدتكِ، لأنّها أرملة تسكن لوحدها وهي الأخرى عانَت مِن زوج عنيف... لقد كلّمتُها عنكِ وهي بانتظاركِ.

 

إمتلأت عينايَ بالدموع لكثرة أمتناني، بعد أن كنتُ قد فقدتُ الأمل مِن إيجاد مَن يواسيني ويحميني، فالذهاب إلى الشرطة كان أمر مستحيل بعد أن علِمتُ أنّ رئيس المخفر هو صديق زوجي المقرّب وأنّه لن يتدخّل لو احتجتُه.

أخذتُ رقم تلك السيّدة وخبّأتُه في مكان آمن، آملة مِن كلّ قلبي ألا أضطر لاستعماله.

 


لكنّ زوجي لم يكن ليتغيّر مهما فعلتُ، لذا جمعتُ بعض الأمتعة والقليل مِن المال وهربتُ مجدّدًا، ولكن في تلك المرّة إلى مكان بعيد لن يستطيع أن يجدني فيه نادر.

كانت منال بانتظاري أمام بابها وعانقتَني بقوّة قائلة:

 

ـ أعلم ما تشعرين به فأنا أيضًا تزوّجتُ مِن رجل بغيض... أدخلي يا عزيزتي، أنتِ هنا بأمان.

 

شكرتُها بحرارة ودخلتُ إلى بيت جميل مزيّن بالأثاث الفاخر. أعطَتني منال غرفة وغرقتُ في نوم عميق لكثرة تعَبي وخوفي. عندما استفقتُ كانت المرأة قد حضَّرَت لي وجبة طعام لذيذة قدّمَتها لي خادمتها. بعد أن انتهَيتُ مِن الأكل، قلتُ لمنال:

 

ـ لا بدّ أنّ زوجكِ كان رجلا ثريًّا.

 

ـ أبدًا، كلّ ما ترَينه هو ثمرة عملي... إنّ الحياة كريمة، تعرف كيف تعطينا الأفضل، شرط أن نعمل على ذلك بجديّة وتفانٍ.

 

لم أسألها عن نوعيّة عملها، واكتفَيتُ بالنظر مِن حولي إلى السجّاد الجميل والثريّات الفخمة.

بقيتُ خائفة مِن أن يجدَني نادر حوالي الأسبوعَين ومِن ثمّ ارتاحَ قلبي. لكنّني كنتُ أشعر بالخزيّ تجاه منال التي كانت قد أوَتني مِن دون تردّد. لِذا طلبتُ منها أن تجد لي عملاً كي يتسنّى لي الرحيل والسكن لوحدي. إلا أنّها قالت لي:

 

ـ ترحلين؟ لن أقبل بذلك أبدًا! أنتِ لطيفة للغاية وأستمتع برفقتكِ... لا أريد سماع هذا الكلام بعد الآن!

 

ـ حسنًا ولكن أريد أن أعمل.

 

لم تجب منال بل اكتفَت بهزّ رأسها بصمت. وبعد أيّام نادَتني إلى غرفتها. كانت قد وضعَت على سريرها فساتين عدّة وطلبَت منّي أن أختار واحدًا منها. وحين سألتُها عن السبب قالت بحماس:

 

ـ لدَينا ضيف مميّز الليلة، هيّا فهو قادم بعد قليل.

 

إخترتُ ما ألبسه وهي سرَّحَت بنفسها شعري، ووضعَت لي المساحيق بينما طلَت خادمتها أظافيري. سألتُها: "وما شأني أنا بضيفكِ؟" إلا أنّني لم أحصل منها على جواب.

أنا متأكّدة مِن أنّ مَن يقرأ هذه السطور تكهَّنَ الجواب، لكنّني حقًّا لم أرَ أبعاد ما كان يحصل. هل كنتُ ساذجة إلى هذه الدرجة أم أنّ امتناني لمنال ولرحابة صدرها أعماني عن الحقيقة؟

وصَلَ شخص وبرفقته رجلان بقيا خارجًا، وسلَّم على منال بحرارة ومِن ثمّ نظَرَ إليّ مبتسمًا وجلسنا نتكلّم عن أمور عديدة. ثمّ قامَت منال مِن مكانها قاصدة المطبخ لترى أين أصبَحَ العشاء، وهمَست بأذني: "حدّثي ضيفنا قليلاً... وابتسمي له فهو رجل بغاية الأهميّة... سأعود بعد قليل."

 

لم أعرف ماذا أقول للرجل فبقيتُ صامتة. أمّا هو فكان ينظر إليّ بتمعّن ولم تفارق البسمة وجهه واكتفى بالقول: "كم أنّكِ خجولة... هذه الميزة باتَت نادرة في أيّامنا هذه."

 

عادَت منال وتفاجأت بالصمت الذي كان سائدًا في الصالون ولم تكن مسرورة. ولكن سرعان ما عادَت الأجواء المرحة بفضل أخبارها المسليّة.

رحَلَ الضيف بعد العشاء، وكنتُ في غرفتي أخلع ثيابي حين جاءَت منال وقالَت لي:

 

ـ إسمعي... ذلك الرجل مِن أغنى الأغنياء ولدَيه نفوذ في كلّ أنحاء البلاد... دعوتُه مِن أجلكِ.

 

ـ مِن أجلي؟

 


ـ أجل فهو قادر على مساعدتكِ... يُمكنه اجبار زوجكِ على تطليقكِ وأن يُؤمّن لكِ حياة كريمة.

 

ـ ولماذا يفعل ذلك؟

 

ـ ألَم ترَي كيف كان يأكلكِ بنظراته؟

 

ـ بلى ولكن... هل يودّ الزواج منّي؟

 

ـ هاهاها... لا يا حبيبتي... بل التودّد إليكِ.

 

ـ تقصدين...

 

ـ أجل أقصد ما فهمتِه متأخّرةً... مِن أين تظنّين جاءَني كلّ هذا المال؟ هل رأيتِني يومًا أذهب إلى العمل؟ هل أنتِ ساذجة إلى هذه الدرجة؟ إسمعي، إن لم يُعجبكِ هذا الرجل، هناك آخرون، وبكثرة!

 

ـ قد أكون ساذجة لكنّني شريفة... أنا راحلة!

 

ـ إلى أين ستذهبين؟ إلى زوجكِ المتوحّش أو إلى أهلكِ المحبّين؟

 

ـ سيُدبّر الله أمري.

 

بدأتُ أجمَع أمتعَتي لأبتعد قدر المستطاع مِن ذلك المكان البشع حين سمعتُ طرقًا خفيفًا على الباب. دخلَت الخادمة بصمت ثمّ أعطَتني كيسًا صغيرًا قائلة:

 

ـ هذا عقد وخاتم مِن ذهب أخذتُهما مِن علبة مجوهرات السيّدة... بيعيهما وتصرّفي بثمنهما.

 

ـ لكنّها سرقة! ستشتكي عليّ منال.

 

ـ لن تجرؤ على ذلك فهي لا تريد لفت الأنظار إلى "مهنتها"... إضافة إلى ذلك، لن تكون سرقة على الأقل مِن جانبكِ لأنّني أنا التي أعطَيتُكِ الذهب... إرحلي قبل فوات الآوان فأنا لم أستطع الهروب.

 

ـ أنتِ أيضًا؟

 

ـ أجل، أجبرَتني السيّدة على القيام بما هو غير أخلاقيّ، فهناك رجال يهوون الخدم... لن أفلتَ مِنها بعد الذي فعلتُه لكنّكِ تستطيعين ذلك... هيّا! بسرعة!

 

أخذتُ الذهب واختفَيتُ بالليل.

مشيتُ ساعات حتى طلَعَ الفجر وأخذتُ غرفة في فندق في مدينة قريبة. ومِن ثمّ أوقفتُ سيّارة أجرة إلى العاصمة حيث بعتُ العقد والخاتم. وبالمال الذي أصبح بحوزتي، إستأجرتُ غرفة في مبنى قديم وفتّشتُ عن عمل. بعد أسبوعَين وجدتُ محلاً للألبسة وافقَ على تشغيلي وارتاح قلبي.

مع الوقت تحسَّنَت أحوالي بعض الشيء ولم أعد خائفة إلا مِن شيء واحد: أن يجدَني نادر. ولكن حتى اليوم وبعد مرور خمس سنوات لم يتتبّع زوجي أثري. ربمّا ارتاح مِن وجود امرأة إلى جانبه.

فكّرتُ مرارًا بإبلاغ الشرطة بما يحصل في منزل منال لأنقذ الخادمة، لكنّني أعلم أنّ المسكينة ستُسجَن بتهمة الدّعارة وتنفذ منال بجلدها بفضل علاقاتها القويّة. أصلّي إلى الله ليُساعد تلك الفتاة كما هي ساعدَتني، وأنا واثقة مِن أنّه سيُخرجُها يومًا مِن مخالب تلك الشرّيرة.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button