من الحب ما قتل

أصابَت جارتنا مصيبة أشبه بالفاجعة لا يتقبّلها عقل إنسان. كان لرندا أربعة شبّان كالبدور، حسدَها الناس عليهم لكثرة حبّهم لها خاصّة بعدما ماتَ زوجها. كانوا يُعاملونها كالأميرة وكانت تشعر بالأمان وسطهم، إلا أنّ القدر لم يشأ أن تدوم هذه النعمة وأخَذَ منها أولادها، تاركًا لها الصغير الذي كان يبلغ مِن العمر عشر سنوات.

ذلك في فصل الشتاء عندما كان الطقس ماطرًا والعاصفة تهدّد. ركِبَ الشبّان الثلاثة السيّارة وتوجّهوا إلى منزل صديقهم في العاصمة لِقضاء الأمسية معه. إلا أنّ طريق العودة كانت محفوفة بالمخاطر، وتسبَّبَ انهيار الطريق وقوع السيّارة في هاوية عميقة. قُتلوا جميعهم على الفور، ولم يجدهم أحد إلا في الصباح بعدما نادَت رندا أهالي البلدة للبحث عن أولادها الذين لم يعودوا إلى البيت.

لن أستطيع وصف حالة تلك الأم عند سماعها الخبر وحين وارَت فلذات كبدها التراب. تعالَت الصرخات وأُغميَ على رندا التي عندما استفاقَت أصرَّت أن تذهب إلى المدفن لتنام هناك قرب أولادها. ولولا الطبيب الذي جاؤوا به والحقنة التي تلقَّتها رغمًا عنها، لكانت نفّذَت ما في رأسها.

الأيّام التي تلَت كانت مُحزنة، إذ ذهبتُ لزيارة رندا يوميًّا لمواساتها. كانت قد جفَّت دموعها، وباتَت تجلس لساعات طويلة تحدّق في الفراغ بصمت مخيف. عمِلتُ جهدي لإخراجها مِن حالتها هذه، ونجحتُ بذلك بعدما شرحتُ لها أنّ رواد، إبنها المتبقّي لها، بحاجة ماسّة إليها، ولا ينبغي عليها معاقبته على شيء لم يفعله أو لبقائه حيًّا. عندها استوعَبت جارتي أنّ عليها رعاية ذلك الولد المسكين الذي فقَدَ أباه ومِن ثمّ اخوَته الثلاثة.

 


إلا أنّ رندا تمسّكَت بولدَها بشكل مبالَغ به، الأمر الذي يُمكن لأي شخّص تفهّمه. فقد كان رواد آخر الأولاد، ولم يكن يجوز أن يحصل له أيّ مكروه. وكي يبقى بأمان، صارَ ممنوعًا عليه مغادرة البيت مِن دون أمّه. وبما أنّه كان في السّابق، ككلّ الأولاد، يذهب إلى المدرسة، قرَّرَت جارتي أن تتابع تدريسه بنفسها، ورأى المسكين نفسه مُبعدًا عن رفاقه وملزمًا بقضاء وقته في البيت مع أمّه.

بالطبع قلتُ لرندا أنّ ما تفعلَه ليس مفيدًا لصحّة إبنها النفسيّة، لكنّها صَرَخَت بي: "أتريدينَه أن يموت هو الآخر؟!؟ ألف مصيبة قد تحصل له حين يكون بعيدًا عن نظري... لن يُبارح جانبي أبدًا!"

مضَت السنوات، وكنتُ أرى رواد يذبل شيئًا فشيئًا. حاولتُ إرسال أولادي إلى بيت رندا للترفيه عن إبنها، إلا أنّها كانت تجلس معهم وتمنعهم مِن اللعب كما يُريدون وتصرخ فيهم إلى أن طردَتهم أخيرًا. لم أغضب منها لأنّني كنتُ أعلم ما تعني سلامة رواد لها، وأخذتُ على عاتقي مواصلة زياراتي إلى ذلك البيت لمراقبة ما يحصل فيه.

كبرَ رواد وأصبَحَ مراهقًا هشًّا يخاف مِن ظلّه، ويتكلّم بصوت خافت وهو ينظر إلى الأرض كأنّه يعتذر ممّا يقوله. كان مِن الواضح أنّ المسكين فقد استقلاليّته وشخصيّته، وباتَ يخاف مِن كلّ ما يعتبرُه غريبًا عن بيته لعدم معرفته كيفيّة التعامل مع الأمر. كانت رندا قد حوّلَت ولدها إلى شبه رجل يعيش في قلق دائم.

لكنّ رندا لم تحسب كلّ الحسابات، ونسيَت أنّ لابنها قلبًا بإمكانه أن ينبض ويُحب. فحين جاءَت تلك العائلة للعيش قبالتهم، لم تلاحظ الوالدة الصبيّة الجميلة التي رافقَت أهلها إلى مسكنهم الجديد.

أظنّ أنّني أوّل مَن لمَحَ النظرات التي كان رواد يتبادلها مع جنان مِن شبابيكهم المتواجهة، وابتسمَتُ للأمر لأنّه كان الدلالة على أنّ ذلك الشاب لم يفقد نفسه كليًّا، وكان له أمل بأن يعيش يومًا بشكل طبيعيّ. تمنَّيتُ لو أنّ رندا لا تلاحظ ماذا يحصل أو أن تفتح قلبها وعقلها وتسمح لابنها بأن يُحب. لكنّ عاطفة جارتي كانت متجّهة نحو ذاتها، ولم تكن لتقبل أن يرحل عنها رواد، حتى لو كان ذلك عاطفيًّا فقط.

في إحدى الأمسيات، تعالَت الأصوات في بيت رندا بينها وبين ابنها، واستطعتُ سماع ما كان يُقال:

 

ـ ما هذه الرسالة ومَن أعطاك إيّاها؟

 

ـ إنّها... إنّه شعر كتبتُه لنفسي.

 


ـ هل تخالني غبيّة؟ هذا ليس خطّكَ! إين تنظر وأنا أكلّمكَ؟ مَن هذه التي تقف عند النافذة؟ هل هي مَن كتبَت لكَ الرسالة؟ أجب!

 

ـ أجل يا ماما... أحبّها وتحبّني.

 

ـ ماذا؟ متى حصل هذا وأنتَ لا تبارح المنزل!

 

ـ نتكلّم عن بعد ونبعث لبعضنا الأشعار... أرجوكِ يا أمّي... لا تكوني قاسية! لقد حرمتِني مِن كلّ شيء وعزلتِني عن كلّ الناس، أتركي لي حريّة اختيار شريكة حياتي.

 

ـ شريكة حياتكَ؟ أتسمع ما تقوله؟ تريد تركي كما فعَلَ إخوَتكَ؟ تريدني أن أموت لوحدي؟

 

ـ مَن قالَ إنّني سأترككِ... ستعيش جنان معنا هنا أو نذهب نحن الثلاثة إلى مكان آخر، لا تخافي.

 

ـ لن يحصل ذلك أبدًا... لن تتزوّج طالما أنا حيّة! أفهمتَ؟ أبدًا!

 

سمعتُ أيضًا رواد يبكي مِن كثرة يأسه بعدما أدركَ أنّه لن يتخلّص مِن نير أمّه التي لا تحبّ سوى نفسها.

وفي اليوم التالي سمعتُ صوت أشغال تحصل في منزل رندا، وحين خرجتُ لأعرف ماذا يحصل، رأيتُ عمّالاً يحجبون الشبابيك بألواح مِن الخشب. ركضتُ كالمجنونة إلى جارتي لإقناعها بالعدول عمّا تفعله، إلا أنّها طرَدَتني طالبة منّي عدم التدخّل بشؤونها الخاصّة. كان رواد واقفًا بصمت، وأقسمُ أنّني شعرتُ أنّ مصيبة على وشك أن تحصل.

بكيتُ على ذلك الشاب المسكين الذي لم يكن يملك الجرأة الكافية للوقوف بوجه أمّه. فلم يكن الذنب ذنبه لأنّه كبُرَ مخنوقًا وبعيدًا عن باقي الناس ولا يملك أيّة خبرة بالحياة.

مرَّت حوالي الخمسة أيّام حين سمعتُ صرخة مزّقَت الليل. أسرَعتُ إلى بيت رندا وبدأتُ أخبط على الباب كالمجنونة. لحِقَ بي سكّان الحيّ، وخلعوا باب المنزل وركضنا جميعًا لنرى ما حصل.

رأينا رندا واقفة أمام جثّة رواد التي كانت تتأرجح معلّقةً بالسّقف. كان المسكين قد شنَقَ نفسه لكثرة يأسه مِن الحياة التي فُرِضَت عليه. ربّما كانت تلك فرصته الوحيدة للهروب مِن ظلم أمّه. فبموته حرَّرَ نفسه منها إلى الأبد.

منذ ذلك اليوم صارَت رندا كالميّتة الحيّة، وانطفأت شيئًا فشيئًا مِن قلّة النوم والأكل. كلّ ما كانت تفعله طوال الوقت هو ترداد جملة وحيدة: "ماتوا جميعهم... ماتوا جميعهم."

نُقِلَت جارتي إلى المشفى ومِن ثمّ إلى مؤسّسة للأمراض العقليّة حيث ماتَت بعد أقل مِن سنة. ذهبَت لتوافي زوجها وأولادها وتطلب المسامحة مِن رواد لأنّها حكمَت عليه بالموت.

لا تزال تلك الذكريات الأليمة تسكن فكري. وكلّما أنظر إلى أولادي، أسأل نفسي إن كنتُ حقًّا أفعل ما بوسعي لإسعادهم وإطلاقهم إلى حياة أفضل يعيشونها كما هم يُريدون.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button