مكفوفٌ... ولكن!

لو لم تحصل تلك القصّة معي ومع صديقتي، لوجدتُ مِن الصّعب تصديق هذا الكمّ مِن الإحتيال والكذب والإنحطاط الخلقي، خاصة أنّني كنتُ في سنّ لم أكن قد تعرّفت فيه على الشرّ بعد.

كانت فرحتنا كبيرة عند بلوغنا السّنة الأخيرة مِن إختصاصنا الجامعيّ، ولم يتبقّ لي ولسعاد سوى اختيار موضوع التخرّج. واختَرناه وبحثنا عن الأستاذ الذي سيُشرف علينا. واقترحَت صديقتي أن نختار أستاذنا الذي اعتَدنا عليه والذي كان يتمتّع بالطيبة والصّبر اللازمين. كان الأستاذ نجيب مكفوفًا، ولكنّ ذلك لم يمنَعه يومًا مِن القيام بالتعليم وملاحقة أمور طلابه كما يجب. وقصدناه لنطلب منه أن يكون المشرف على عملنا. ووافَقَ الرجل بسرعة وبكلّ طيب خاطر، فلم يكن هناك ما يُفرحه أكثر مِن نجاح تلامذته.

وبدأنا العمل، وأتذكّر حماستنا أثناء قيامنا بالبحث في المراجع، وكتابة الموضوع بإتقان، لنتمكَن مِن الحصول على شهادتنا وليفتخر بنا أهلنا وأستاذنا الحبيب. وكلّما سنَحَت لنا وله الفرصة، كنّا نجتمع في مكتبه فيقرأ ما حضّرناه ويُعطينا التعليمات ويضع التصحيحات والتعليمات اللازمة لنعاود العمل.

وفي أحد الأيّام، فاتحَتني سعاد بشكوك كانت تسايرها منذ مدّة:

 

ـ قد لا تصدّقيني ولكنّ... الأستاذ نجيب...

 

ـ ما به؟ هل حصَلَ له مكروه؟

 

ـ لا! بالعكس... أظنّ... وعندما أقول "أظن" أعني طبعًا أنّني لستُ متأكّدة.

 

ـ مِمّا؟

 

ـ أظنّ أنّ الأستاذ نجيب ليس مكفوفًا.

 

ـ هل فقدتِ عقلكِ؟ بالطبع هو مكفوف! الكلّ يعلم ذلك، ولقد أمضَينا أشهراً طويلة في صفّه ومِن ثمّ في مكتبه... كيف تفكّرين حتى بأمر كهذا؟

 

ـ لا أعلم... لقد لاحظتُ نظراته عندما نجلس معه في المكتب.

 

ـ نظراته؟ ما بكِ لا تفهمين؟ الرّجل أعمى! وليس لدَيه نظرات.

 


ـ بلى... خاصّة عندما ألبس قميصًا مكشوفاً بعض الشيء... أعرف كيف ينظر الرّجال إلى النساء.

 

ـ أنتِ مجنونة! ولو لم تكوني صديقتي الحميمة لقلتُ عنكِ إنّكِ مريضة!

 

ـ إسمعي... لدينا موعد معه غدًا... سألبس البلوزة الزرقاء... تعرفينها... تلك المفتوحة على الصّدر وسترَين.

 

وفي اليوم التالي، قرّرتُ الإنتباه إلى نظرات الأستاذ، ووجدتُ أنّه يُحدّق بالفعل في صدر صديقتي إلا أنني ردَدتُ الأمر إلى أعيُن المكفوفين الذين يُركّزون أحيانًا على نقطة أكثر مِن سواها، وأقنَعتُ سعاد بأنّها على خطأ وعليها نسيان الأمر، خاصّة إن كانت تريدنا أن ننهي مذكّرتنا في الوقت المطلوب.

 

ولكنّ الأمور لم تقف عند ذلك الحد. فبعد أيّام، جاءَت سعاد إليّ مرعوبة لتخبرني أنّ الأستاذ نجيب طلَبَ منها أن تزوره في بيته أثناء غياب زوجته ليبحثا بموضوع المذكّرة، واشترَطَ عليها أن تأتي وحدها وألا تجلبني معها. وصُعِقتُ للخبر، فلم أتصوّر أنّ أستاذنا هكذا بل خلتُه، وكباقي رفاقي، رجلاً خلوقًا يُحبّ عمله وعائلته. وجلستُ مع سعاد نفكّر بمخرج إذ كان الموقف دقيقًا للغاية. كان علينا ألا نكسف الأستاذ المشرف علينا ولكن بدون الخضوع لرغباته الدنيئة. وخفنا على مستقبلنا، فكان مِن الواضح أنّ حصولنا على الشهادة مرتبط بتلبية رغباته.

والحلّ الوحيد الذي وجدناه كان التوقّف عن حضور محاضراته أو الذهاب إلى مكتبه، إلى حين يهدأ حماس ذلك المنحط. وهكذا فعلنا. ولكنّه إلتقى بسعاد في حرَمَ الجامعة، فأخَذَها جانبًا وقال لها:

 

ـ إسمعي... لستُ شابًا صغيرًا لتتفاديني أو تتجاهليني... لن تفلتي منّي... وإن كنتِ ذكيّة ولو بعض الشيء، فمِن المستحسن لكِ أن تأتي إلى منزلي الليلة وتكوني مطيعة، وتعطيني حافزًا جديًّا لإنجاحكِ أنتِ وتلك اللعينة صديقتكِ... أفهمتِ؟!؟

 

ووجدتُ سعاد باكية ومحتارة بأمرها. لم يكن مِن الوارد أبدًا أن تنصاع له ولكنّ الخوف كان يملأ قلبها. وبالطبع لم تذهب إلى منزله. وفي اليوم التالي، وعندما مرَرنا بالقرب منه، نظَرَ إلينا بشرّ عميق وتأكّدنا من أنّه ليس مكفوفًا، فكيف له أن يعرف مَن نكون ولِما ينظر إلينا هكذا؟ ولكن مَن كان ليُصدّقنا بعدما قضى الرّجل سنوات طويلة في الجامعة يدّعى العمى؟

 

وعاد وطلبَنا نحن الإثنَتَين إلى مكتبه، وكان واضحًا في تهديده لنا:

 


ـ آنستيّ العفيفتين... يؤسفني إخباركما أنّني سأدعو لمجلس تأديبيّ لكما بحضور ذويكما، وسأفعل جهدي لطردكما... ولن تحصلا على شهادتكما.

 

ـ ولكن ما الذي فعلناه؟ لم نخرق أيّ قانون لنُطرَد!

 

ـ ومَن سيصدّقكن برأيكما: تلميذَتَان أو أستاذ قديم ومُحترَم؟ سأجد لكما أسبابًا لا يُمكن الطعن بها... هيّا! أخرجا!

 

وبدأنا بالبكاء والتحسّر وبتحضير تفسيرات لأهلنا، وكنّا عالمتَين بأنّ لا أحد سيُصدّقنا. وجلستُ في غرفتي مدّعية المرض وكذلك فعَلَت سعاد. وبعد مرور أسبوع بكامله، وجدنا أنّ الأمر لم يعد يُحتمَل، وبما أنّنا كنّا سنخسر سنوات الجامعة واحترام زملائنا وأهلنا لنا، لم يكن هناك مِن ضرر بأن نقصد عميد الكليّة ونخبره القصّة بكاملها.

 

ودخلنا مكتب العميد ورجلانا بالكاد تحملانا. وحين جلسنا قبالته، إنهالَت دموعنا حتى قبل بدئنا بالكلام. ونظَرَ إلينا العميد بتعجّب وحيرة. وبعد أن أعطانا محارم لتنشيف دموعنا، قال لنا:

 

ـ يا إلهي! ما الأمر؟ لم أرَ بحياتي هذا الكم مِن الدموع!

 

ـ هذا لأنّكَ لن تصدّقنا.

 

ـ ومَن قال ذلك؟ لم تبدآ بالكلام حتى! ما مِن شيء مستحيل في هذه الدنيا... هذا ما علّمَتني إيّاه الحياة... خذا نفَسًا عميقًا وأخبراني بما الذي يُحزنكما ويُرعبكما إلى هذه الدرجة.

 

وبدأتُ بالحديث، وأكملَته سعاد لأنّها كانت المستهدَفة الرئيسيّة. إستمع إلينا العميد وهو يهزّ برأسه بين الحين والآخر حتى بَدَت على وجهه علامات الغضب. وأتذكّر أنّني ندِمتُ على مجيئنا إليه، فقد كان مِن الواضح أنّه لم يتقبّل إتهاماتنا للأستاذ. وعندما سكَتَت سعاد قال لنا:

 

ـ هكذا إذًا؟ الأستاذ نجيب ليس مكفوفًا؟

 

وفاجأنا بضحكة عالية فأسرعتُ بالقول:

 

ـ نقسم لكَ أنّنا قلنا لكَ الحقيقة، سيّدي! أنتَ لا تصدّقنا ولكن...

 

ـ ومَن قال لكما إنّني لا أصدّقكما؟ ضحكتُ لأنّني تأكّدتُ مِن شكوكي تجاهه! فمِن مدّة ليست بطويلة، خُيِّلَ إليّ أنّني رأيتُ الأستاذ نجيب وهو يقود سيّارة. وبالطبع طرَدتُ تلك الفكرة مِن رأسي لاستحالة حصولها... هكذا إذًا... يدّعي العمى ويستغلّ منصبه للضغط على التلميذات ودفعهنّ لإقامة علاقات معه... يا للعار! ظننتُه إنسانًا خلوقًا... أتركا الأمر لي.

 

ـ وماذا عن مذكّرتنا سيّدي؟ لقد إقَتربَ موعد تسليمها، ونحن قضَينا نصف الوقت نبكي ونختبئ مِن الأستاذ نجيب... سنرسب حتمًا.

 

ـ لا عليكما... سأوكل نائبي بالإشراف عليكما وسنكون متفهّمين.

 

وأخذنا علامة جيّدة على المذكّرة مِن دون أن نناقشها، لأنّهم أخذوا بعيَن الإعتبار ما مَرَرنا به.

ولكن لم يستطع أحد وبمن فيهم العميد، المسّ بالأستاذ نجيب الذي كان يتمتّع بصداقات من أصحاب نفوذ قويّ وبقيَ في الجامعة... وأعمى!

ولم نتابع الموضوع لكثرة فرحتنا بالإفلات منه، وخاصّة لأنّنا لن نراه مجدّدًا. ولكنّني أسفتُ لبقاء هكذا رجل في مهنة التدريس ويتعاطى مع صبايا مثلنا. إلا أنّني لم أكن قادرة على مواجهة هكذا إنسان، فحتى الأكبر والأعلى شأنًا منّي لم يستطيعوا الوقوف في وجهه.

ولكنّني متأكّدة من أنّ يومًا ما سيأتي ويلقى عقابه بطريقة أو بأخرى، وإن لم يكن في هذه الدّنيا ففي الآخرة، لأنّ الله يُمهل ولا يُهمل!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button