معجب مريض

ذنبيَ الوحيد كان أننّي أُشبِهُ إلى حدّ كبير إحدى بطلات تلك المُسلسلات المُدبلَجة. وكان العديد مٍن معارفي وحتى الغرباء قد لاحظوا هذا الشبَه، وصارَ الموضوع بٍمثابة دعابة تضحكُني وتُفرحُنِي، فتلك الممثّلة كانت جميلة للغاية. وبِداعي الفضول فتّشتُ على الإنترنتِ عن أعمالها كلّها وصرتُ أُشاهدُها الواحد تلوَ الآخَر. لكن ما يُعتبَر عادةً أمرًا سخيفًا قد يكون بغاية الأهميّة لِشخص آخر، وأتكلّم عن ذلك الذي اسمه جهاد.

مَن يكون جهاد؟ إنَّه جاري في الحَي، وأعترفُ أنّني لَم أعِره أهمّية خاصّة، ليس فقط لأننّي فتاة جادّة، بل لأنّه لم يكن وسيمًا بل العكس. إضافة إلى ذلك، هو كان يقضي وقته إمّا في البيت أمام التلفاز أو على هاتفه، أو جالسًا على كرسيّ أمام دكّان أبيه. قد نكون تبادَلنا التحيّة مِن وقت لآخر وأنا أدخلُ ذلك الدكّان لِشراء حاجاتٍ لأهلي، لكنّ معرفتي به لَم تتخطَّ ذلك الحدّ. إلا أنّه كان ينظرُ إليّ، على الأقلّ داخليًّا، نظرة خاصّة بسبب ذلك الشبَه التي تكلّمتُ عنه. كيف لي أن أعلَم أنّه مفتون بتلك المُمثّلة لِدرجة مرَضيّة؟ فلَم تبدُ عليه أيّة علامة تُذكَر ربمّا بسبب إنطوائه على نفسه. فالذين يكنّون لأبطال وبطلات المُسلسلات إفتتانًا كبيرًا لا يُعبّرون عنه علنًا، ليس بداعي الخَجل بل لأنّهم يعيشون معهم أحلامًا تتحوَّل بالنسبة لهم إلى شِبه حقيقة. فجهاد كان قد أرسَلَ مرارًا لتلك المُمثّلة عبر صفحتها على الإنترنِت، رسائل عديدة لَم تُجِب عليها بالطبع لكثرة مُعجبيها، فضاقَت الدنيا به لأنّه وجَدَ نفسه غير قادر على التعبير عن إعجابه بها لا بَل حبّه لها. ولَم يتبقَّ له سوايَ لِصبّ كُلّ عواطفه الحميدة وغير الحميدة. وطيلة تلك الفترة، لَم أشكّ طبعًا بشيء، بل كنتُ أعيشُ حياة عاديّة وهادئة كمُعظم بنات سنّي، أي الثامنة عشرة. لَم يكن جهاد إبنًا وحيدًا لأهله، بل الوحيد الذي لَم يفلَح في حياته، فهو ترَكَ المدرسة باكرًا ورفَضَ تعلّم أيّة مهنة كانت، متذرّعًا بمساعدة أبيه في المحلّ، إلا أنّه فضَّلَ الجلوس خارجه للتفرّج على المارّة والزبائن... وإستسلَمَ أهله مُدركين أنّ ابنهم هذا ليس فالحًا بشيء.

لا أدري ما الذي دفَعَ جهاد أخيرًا إلى التكلّم معي، فهو حتى ذلك الحين كان يكتفي بحركة مِن رأسه حين يراني قادمة إلى الدكّان. ولكن ذات يوم، قامَ عن كرسيّه ووقَف أمامي قائلاً: "لماذا لا تُجيبين على رسائلي؟".

 


إستغربتُ الأمر كثيرًا فسألتُه عن أيّة رسائل هو يتكلّم، إلا أنّه جلَسَ مكانه وعادَ إلى صمته. لَم أفكّر في الأمر لاحقًا، فنبرة صوته وهو يسألُني عن الرسائل كانت عاديّة للغاية. ففسّرتُ الموضوع بأنّ ذلك الشاب خالَني فتاة أخرى.

مرّة أخرى، وجَّهَ جهاد الكلام إليّ: "أنا بِتصرّفكِ... أطلبي ما تشائين منّي". عندها أجَبتُه ظانّة أنّه يتكلّم عن حاجيّاتي مِن الدكّان: "شكرًا يا جهاد، سأختارُ ما أُريدُه بِنفسي".

دخلتُ الجامعة في تلك السنة وصارَ لي درس كثير، فلَم أعُد أذهَب إلى دكّان بِنفسي بل باتٓت والدتي تُرسِلُ أخي الصغير كلّما احتاجَت غرضًا. وجرّاء ذلك، لَم يعُد جهاد يراني على الإطلاق، الأمر الذي ضايقَه. وذات يوم، قرَّرَ جَلب حاجيّاتنا إلينا بِنفسه بِذريعة أنّ ما نُريدُه لَم يصِل المحلّ بعد. فعادَ أخي فارغ اليَدين وسمِعنا جرَس الباب يرنّ بعد حوالي الساعة. وإذ بِجهاد واقفًا عند الباب وبسمة عريضة على وجهه، يتلفَّتُ يمينًا ويسارًا ليرى كيف هو البيت الذي أعيشُ فيه. أدخلَته والدتي المطبخ حيثُ وضَعَ الأكياس وأنا عدتُ إلى غرفتي لأُكمِل درسي. في تلك الأثناء، إتّفَقت أمّي معه على أن تّتصِل به هاتفيًّا كلّما احتاجَت أمرًا مِن الدكّان ليَجلبه لها مُباشرة. لَم يرَ أيّ منّا مانعًا في ذلك، فمعظم المحلات لدَيها خدمة توصيل للمنازل. أخَذَ جهاد إكراميّة ورحَلَ سعيدًا، ليس بالمال بل بِدخول حياتي الخاصّة. لا ألومُ أمّي على تسهيل دخوله البيت، فلَم يكن لأحد أن يعرفَ مدى اضطراب ذلك الشاب. فالأمراض النفسيّة لا تظهرُ على صاحبها كباقي الأمراض، بل تبقى قابعة في ثنايا نفسه إلى حين تتفجَّر فجأة. ونخالُ أنّ هؤلاء الناس ليسوا موجودين سوى في الأفلام والرويات، لِذا لا نحسبُ حسابهم.

وسرعان ما صارَ جهاد يدقُّ بابنا كلّما احتاجَت والدتي لِغرَض ما لِطبختها، ولَم نعُد نُلاحظُ وجوده في البيت بل بِتنا نطلبُه بِدورنا عند كلّ صغيرة. ما لَم ننتبِه إليه، هو أنّ جهاد كان يسرقُ مِن بيتنا في كلّ مرّة غرَضًا صغيرًا لا قيمة فعليّة له، على الأقلّ بالنسبة لنا. أمّا في ما يخصّه، فقد كان ذلك الغرَض يُشعرُه بأنّه أقرَب منّي.

وفي تلك الفترة التي دامَت أكثرمِن سنتَين، حصَلَ أنّ تعرّفتُ عند إحدى صديقاتي على شاب خطَفَ قلبي. لكنّه كان مُقيمًا في الخارج وأتى لِقضاء فرصته الصيفيّة وحسب. وقَعنا في الحبّ وتألَّمتُ كثيرًا عندما غادَرَ إلى حيثُ هي حياته. لكنّنا بقينا على تواصل، وسرعان ما أدرَكنا أن مصيرنا هو الإرتباط الجدّي، لِذا ما لبِثَ أن عادَ حالما استطاعَ ذالك وقضَينا فترة تواعُد مدّتها أسبوعان. علِمَ والدايَ بالأمر وتقصّيا عنه، فتبيَّنَ لهما أنّه شاب مُمتاز وله مُستقبل واعد. إلا أنّني كنتُ أُريدُ مُتابعة دراستي الجامعيّة وقد كان يتبقّى لي سنة واحدة قبل تخرّجي، لِذا طلبتُ مِن حبيبي الإنتظار. فالفتاة أو السيّدة مِن دون شهادة قد تجِدُ نفسها في مواقف حيثُ عليها تدبُّر نفسها بِنفسها، فمَن يعرفُ حقًّا ما ينتظرُني في الخارج؟ صَبر حبيبي وإستفَدنا مِن تلك السنة لِنتعرّفَ على بعضنا أكثر، مِن خلال زياراته للبلاد وسفَرَي له لأرى إن كان يُعجبُني حيث سأسكُن.

كّل ذلك حصَلَ مِن دون أن يعلًم جهاد بشيء، فإن كان يأتي لِجَلب الحاجيات ولا يراني، كان يحسبُني في غرفتي أو عند صديقة لي. وهو طبعًا رأى مرّة او إثنتَين شابًّا غريبًا في الحَي، لكن افتتانه بي المُطلَق منعَه مِن تصوّره حبيبًا أو خطيبًا لي.

 


إحتفَلنا بِعرسنا في البلَد بعد أن جاءَت باقي عائلة خطيبي مِن الخارج، والكلّ سمِعَ وشهِدَ الإحتفال الصّاخب. الكلّ، حتى جهاد. وبعد أن سأَلَ مَن يتزوّج وقالوا له إنّ ذلك هو عرسي، بدأ يصرخُ: " أنتم كذَبة! هذا ليس فرَحها!". بالطبع لَم يُعِره أحد أيّ أهمّيّة، فهو كان غريب الأطوار منذ البدء.

طرتُ مُباشرة إلى الخارج مع زوجي، ففيزَتي السياحيّة كانت لا تزال سارية، وتمنّيتُ أن يكون إختياري لِعريسي صائبًا. بعد يوم أو إثنَين، ركضَ جهاد إلى بيت أهلي حاملاً أكياس الحاجيّات التي طلبَتها والدتي مِن دكّان أبيه، وصارَ يلتفِتُ يمينًا ويسارًا باحثًا عنّي. ثمّ سألَ أخي الصغير:

 

ـ أين أختكَ؟َ!؟

 

ـ لقد سافرَت إلى الخارج مع عريسها. لماذا تسأل؟

 

ـ إذًا الخبَر صحيح! كيف تفعلُ ذلك مِن وراء ظهري؟ نحن مُتحابّان وهي لي! أنتَ كاذب كالآخرين! أو ربّما أجبَرتموها على الزواج! أجل، لقد سافرَت رغمًا عنها!

 

ركضَت أمّي مِن المطبخ بعد أن سمِعَت كلام جهاد وصرخَت به:

 

ـ نحن لا نُجبِرُ بناتنا على الزواج، بل هي اختارَته بِنفسها، وهذا ليس مِن شأنكَ! أُخرج مِن بيتنا على الفور!

 

بعد ذلك، صارَ جهاد يجلسُ أمام مدخل مبنانا ليلاً نهارًا بانتظار عودتي، لكنّني بالطبع لَم أعُد، على الأقل ليس قَبل ستّة أشهر لِزيارة أهلي.

في تلك الأثناء، غاصَ جهاد في حالة هذيان عميق، إذ صارَ يقولُ للمارّة ولكلّ مَن التقى به: "إنّها عائدة... ستهربُ مِن زوجها الذي يحتجزُها... إنّها مُمثّلة مشهورة! ليُعلِم أحدكم الشرطة! ساعدوها! ساعدوني!".

وطبعًا لَم يُصدِّقه أحد، فكان مِن الواضح أنّ ذلك الشخص يهذي ويتخايَل أمورًا لا وجود لها. حاوَلَ أبوه إقناعه بأنّني لستُ مُمثّلة وأنّني سعيدة بِزواجي، وما هو أهمّ أنّني لا أحبُّه ولَم تكن هناك أبدًا مِن علاقة بيننا. لكنّ جهاد لَم يُبدِّل رأيه بل زادَ إصرارًا ومضايقة لأخي الصغير ووالدَيّ. فحين كان يخرجُ أيّ منهم مِن المبنى، كان يقفُ في طريقهم ويصرخُ بهم عاليًا: "أين هي؟ أين حبيبتي؟!؟".

وفي إحدى المرّات، إعترَضَ جهاد أهلي مُلوِّحًا بِسكّين كبير، ومهدّدًا بِقتل نفسه إن لَم أرجَع مِن الغربة. ولكثرة انفعاله، جرَحَ جهاد أبي في ذراعه ما استدعى نقله بسرعى إلى المشفى. عندها إضطرَّ أهلي لِتقديم شكوى بِحقّه، فكان مِن الواضح أنّ جهاد يزداد شراسة، فأُخِذَ المسكين إلى القسم حيث طلبوا له طبيبًا شرعيًّا الذي شخَّصَ له إضطرابًا نفسيًّا حادًّا.

أمرَت الشرطة والد جهاد إدخاله إلى مؤسّسة خاصّة للعلاج، فامتثَلَ لذلك عالمًا تمام العِلم أنّ إبنه يشكو مِن مُشكلة كبيرة في عقله.

حزنتُ كثيرًا على مصير جهاد، فهو كان لطيفًا معي، لكنّ عائلته وبعض سكّان الحَي ألقوا اللوم عليّ. فهكذا هم الناس، يبحثون عن مُذنب حين لا يجدون تفسيرًا لِما يحصل. لِذا قلَّلتُ مِن زيارتي إلى البلد، بل فضَّلتُ جلَب أهلي إليّ بين الحين والآخر.

مرَّت عشرة سنوات على تلك الحادثة، ولا يزال جهاد في المؤسّسة التي تُعنى بالأمراض العقليّة. علِمتُ أنّه حاوَلَ الفرار أكثر مِن مرّة للبحث عن "حبيبته السجينة"، لكنّهم أعادوه إلى المؤسّسة بعد كلّ محاولة. مِن الواضح أنّ حالته لا تتحسَّن بالرغم مِن العلاج الذي يتلقّاه وأحمدُ ربّي أنّني أعيشُ في قارّة أخرى!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button