مسيرة صبيّة مكفوفة

كانت الحياة تضحك لي وتفتح ذراعَيها، وكانت آمالي لا تُحصى شأن كلّ فتاة في العشرين مِن عمرها. ولكن سيّارة مسرعة غيّرَت ذلك القَدَر الجميل إلى الأبد. وتبخّرَت أحلامي بلحظة واحدة، حين استفَقتُ في المشفى وأخبروني بأنّني لن أرى مجدّدًا.

في البدء لم أصدّق الخبر، وخلتُ أنّني سأسترجع ما سلَبَه منّي ذلك السّائق المتهوّر، ولكنّ الحقيقة كانت مغايرة. وبالرّغم مِن جلساتي مع الطبيب النفسيّ، بقيتُ غارقة في كآبة عميقة. فرحَتي الوحيدة كانت معرفتي بأنّ غسّان خطيبي كان لا يزال بجانبي، وكانت حرارة أصابعه على يدي تعطيني القوّة للمتابعة.

كنتُ قد أخترتُه مِن بين عشرات الشبّان الذين لم يُبارحوا جنبي مذ أصبحتُ مراهقة. كنتُ جميلة جدًّا إلى جانب ثقافتي وطيبتي. ولكنّ غسّان هو الذي فاز بقلبي، لأنّه كان يُشبهني بكلّ شيء ووجدتُ فيه الحنان الذي تحلم به كلّ فتاة.

ولكنّ حنانه لم يصمد أمام فقداني لِبصري. هل خجِلَ منّي أم أنّه خافَ مِن الذي ينتظره معي؟ لم أجد حتى اليوم الجواب على تساؤلاتي، لأنّه سافَرَ بعيدًا بعدما خفَّت زياراته لي. لم يتكبّد حتى عناء توديعي، وعلِمتُ بِخبر سفره مِن أمّه التي قالت لي بِخجل:

 

ـ غسّان سافَرَ إلى أوروبا... لن يعود يا حبيبتي... أنا آسفة

 

بكيتُ لأشهر ولِمتُ ربّي على ما فعَلَه بي، إذ جّردَني مِن كلّ ما أملك، ووعدتُ نفسي ألا أصلّي مجدّدًا، فما الجدوى مِن ذلك؟

حاولَت أمّي إقناعي بألا أصبّ غضبي على خالقي، ولكنّني بقيتُ مصرّة على موقفي ولم أعد أبارح البيت. جاءَت زميلاتي في الجامعة لإقناعي بإكمال اختصاصي بالتسويق، فضحكتُ بوجههنّ وطردتهنّ بلطف.

 


وبما أنّني لم أعد قادرة على مشاهدة التلفاز، صِرتُ أحمل معي مذياعًا صغيرًا أستمع عبره إلى شتّى البرامج لأملأ أيّامي التي باتَت فارغة كقلبي. وذات يوم، سمعتُ في أحد البرامج قصّة كريستي براون، وهو فتىً إيرلانديّ مصاب بشلل دماغيّ، إستطاع أن يرسم بواسطة رجله اليسرى ليصير فنّانًا مشهورًا، وقد دفعت قصّته الفريدة مخرجًا معروفًا لتصوير فيلم عنه. تأثّرتُ كثيرًا بتلك القصّة وخجِلتُ مِن نفسي. فبينما كنتُ أبكي حظّي السيّء، كان غيري ناضل لتحقيق أحلامه بشتّى الطرق. صحيح أنّني أمسيت مكفوفة، ولكنّني كنتُ لا أزال أملك كامل أطرافي. إضافة إلى ذلك، لم أفقد نظري منذ ولادتي، أي أنّني أستطيع التحرّك والتصرّف حسب ما أتذكّره مِن الذي يُحيط بي. وصرختُ فجأة لأمّي:

 

ـ أين أنتِ يا ماما؟

 

ـ أنا في المطبخ... ثانية واحدة وأكون عندكِ.

 

ـ لا! غبقِ مكانكِ... أنا قادمة

 

كانت تلك أوّل مرّة أنتقّل بها لوحدي منذ حادثتي. فحتى ذلك الوقت، كنتُ أبقى متمسّكة بأمّي كلّما أرَدتُ المشي مِن مكان إلى آخر حتى داخل البيت. إصطدمتُ بالأثاث ولكنّني وصلتُ المطبخ مبتسمة وقائلة:

 

ـ إبتداءًا مِن اليوم سأمشي لوحدي في البيت، لا بل سأقوم بكلّ ما كنتُ أفعله سابقًا... كفى بكاءً ونحيبًا على نفسي!

 

تعذَّبتُ كثيرًا، إلا أنّني تمكّنتُ مِن استرجاع استقلاليّتي ولو أنّها بقيَت محدودة.

وبدأتُ أتصالح مع نفسي ومع ربّي بعدما زال غضبي الأوّليّ. فهمتُ أنّ ما أصابَني سببه سائق غير مسؤول، وأنّ الله هو المحبّة والأمل ولا يُمكنه أن يؤذيني لأنّه يحبّني، لا بل يُريدني أن أصبح أقوى وأفضل لأتمكّن مِن الخروج مِن قوقعتي.

 

وصِرتُ أساعد والدتي في أمور المنزل، كما كنتُ أفعل في ما مضى عندما كنتُ أرى. وذات يوم طلبتُ منها أن ترافقني إلى الجامعة لأقابل العميد. هناك شرحتُ له ما أعاني منه وأعربتُ له عن نيّتي بإكمال اختصاصي، فلم يكن يتبقّى لي سوى سنتَين فقط لأتخرّج. إقترَحتُ أن أسجّل صوت الأساتذة وهم يشرحون الدّروس وطلبتُ منه أن يُعيّن لي شخصاً يكتب عنّي ما أمليه عليه خلال الامتحان. توقّعتُ أن يرفض الرجل طلبي، لأنّ تلك الكليّة لم يسبق لها أن قبلَت تلميذًا مكفوفًا مِن قبل، ولكنّ العميد قال لي:

 

ـ فكرة جيّدة... نعم جيّدة... أحيّي شجاعتكِ وتصميمكِ، ويا ليت باقي التلامذة يمتلكون هذا الاصرار على تحصيل العلم والثقافة.

 

وبدأت معركتي... ولم يكن الأمر سهلاً أبدًا. فإلى جانب التحديّات اليوميّة التي كان عليّ مواجهتها، أصبح لدَيّ درس ومسؤولية النجاح. وجاءَت زميلاتي لمساعدتي، وسويًّا إستطعنا اجتياز الأصعب.

 


وبعد سنتَين، حصلتُ على شهادتي الجامعيّة وبتفوّق. ولن أنسى صوت التصفيق الذي ملأ القاعة في ذلك اليوم الجميل، وكلمات العميد الذي طلَبَ مِن باقي المتخرّجين أن يتمثّلوا بي بكلّ ما سيفعلونه في حياتهم المستقبليّة. ولكنّ حياتي لم تكن سعيدة، بعدما أدركتُ أنّني لن أحظَ يومًا بحياة عاطفيّة طبيعيّة، فمَن سيرضى بفتاة مكفوفة؟

لِذا صببتُ اهتمامي كلّه على العمل لأتمكّن مِن متابعة حياتي، فقرَّرتُ دخول عالم الإعلانات. كنتُ أستقّل سيّارة أجرة وأقصد الشركات وآخذ منهم اعلانات للصّحف والمجلّات والإذاعات، وكنتُ أجني مِن ذلك مبالغ كبيرة.

وصِرتُ أقضي وقتًا كبيرًا في الصّلاة وعمل الخير، خاصة مع المكفوفين الذين تركهم الجميع، وأعطيهم حوافز لاسترجاع الأمل واستعادة ثقتهم بنفسهم كما حصل معي، وأوجهّهم إلى فرص عمل يستطيعون القيام بها.

وعندما توّفيَت أمّي، كنتُ قد أصبحتُ مستقلّة تمامًا وإلا لما استطعَت المواصلة. بكيتُ كثيرًا التي ساندَتني ورافقَتني وآمَنَت بي طوال مشواري الصعب.

وعشتُ لوحدي، لكنّني لم أخَف فكنتُ قد أصبحتُ قاسية كالصّخر، إلى حين جاء وليام للسكن في المبنى.

كان ذلك الرّجل أميركيّ الأصل وقد جاء إلى بلدنا في بعثة ديبلوماسيّة. رآني في الرّدهة، وعَرَض عليّ مساعدتي ولكنّني رفضتُ بلطف شارحةً له أنّني معتادة على التنقّل لوحدي بعد 25 سنة مِن فقدان بصري. عندها قال لي بلغّته:

 

ـ كلنّا بحاجة إلى مساعدة الآخرين... أنا مثلاً بحاجة إلى مَن يُخبرني عن تقاليد البلد وعن معالمه... ما رأيكِ؟

 

وهكذا بدأنا نتقابل في مقهى مجاور، وأقصّ عليه تاريخ بلدنا الجميل وكلّ ما كان بحاجة إلى معرفته، ولكنّني بقيتُ صامتة عن كلّ ما يخصّني. وبعد أشهر طويلة، سألّني وليام لماذا لا أفصح عمّا في رأسي وقلبي وعمّا مرَرتُ به. أجَبتُه إنّ الموضوع يؤلمني فقال لي:

 

ـ مَن يتوصّل إلى العيش وحده في مثل حالتكِ، ويقوم بكلّ الذي تفعلينه لا يخاف مِن أشباح الماضي... مَن الذي حطَّمَ قلبكِ؟

 

عندها بكيتُ وأخبرتُه عن غسّان، وهجره لي حين كنتُ بأمس الحاجة إليه وكيف فقَدتُ ثقتي بالرّجال. عانقَني وليام بحنان وهمَسَ في أذني:

 

ـ ما رأيكِ لو قلتُ لكِ إنّني أحبَبتُكِ كما أنتِ، وإنّني طلبتُ أن أبقى في البلد بصورة دائمة مِن أجلكِ؟

 

لا أدري لماذا أو كيف ولكنّني صدَّقتُه ووثقتُ به، ولم أكن مخطئة لأنّه فعلاً إنسان عظيم.

ويوم زفافنا، كنتُ محاطة بالأصدقاء، وبكلّ مَن جاء يتفرّج على فرَح" الفتاة العمياء"، فسيرتي كانت قد تحوّلَت إلى قصّة يتداولها الناس بدهشة وافتخار. تزوّجنا وسط زهور اختَرتُ لونها بنفسي، حسب ما أتذكّر مِن الذي تبقّى لي مِن عالمي ما قبل العمى. ولكنّ تلك الحياة لم تعد توازي شيئًا أمام السّعادة التي أعيشها اليوم مع زوجي الحبيب.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button