مستأجرة خطيرة

بعدما توفّى والدايَّ وسافَرَ أخي إلى أوروبا للعيش هناك بصورة دائمة، أصبحتُ المسؤول الوحيد عن المبنى الضخم الذي نملكه، الأمر الذي أوجَبَ عليّ ترك كلّ شيء لكثرة الأعمال والأشغال المترتبّة عليّ.

ومع الوقت، صرتُ أهوى عملي لأنّه قرّبني مِن الناس ومشاكلهم، في حين كنتُ مسجونًا في مكتب خلال مسيرتي المهنيّة لا أرى سوى بعض الموظّفين والعملاء.

كان مردود الإيجارات أكثر مّما توقّعتُه، فارتفاع أسعار العقارات سمَحَ لي بالعَيش على نمَط هؤلاء الأثريّاء، خاصّة أنّ أخي تنازل عن حصّته لي لأنّني اهتمَمتُ بوالدَينا أكثر منه.

وهكذا اشتَريتُ سيّارة فخمة، وأجرَيتُ تحسينات وتعديلات كبيرة في الشقّة التي أسكُنها في الطابق الأخير مِن المبنى.

في أحد الأيّام، جاءَت تغريد، إمرأة خارقة الجمال، للعَيش مع ابنتها المراهقة في شقّة خلَت بسبب وفاة العجوز التي كانت تسكنها. علِمتُ مِن تلك السيّدة أنّها فقدَت زوجها للتوّ، وأنّها تركَت بيتها القديم لأنّها لم تعد تحتمل العَيش في مكان يُذكّرها بالمرحوم. قبلتُ أن أخفّض لها الإيجار بعض الشيء، لأنّها أشارَت إلى أنّها لم تجد عملاً بعد، ولأنّها، كما ذكرتُ... جميلة جدًّا. فالجدير بالذكر أنّني وضعتُ حياتي الشخصيّة جانباً لخدمة والدَيَّ اللذَين مرّا بظروف صحيّة لم تنتهِ إلا بموتهما، وكنتُ أتوق إلى وجود امرأة في حياتي. وبما أنّني أصبحتُ بلا هموم، رأيتُ في تغريد فرصة لملء فراغ قلبي. لم يُزعجني أنّ لها ابنة، فقد كانت تلك الأخيرة صبيّة هادئة ومهذّبة. إلا أنّني لم أفصح لتغريد عن إعجابي بها، بسبب رغبتي بالتعرّف إليها أكثر كمالك وليس كعريس، فالحياة علَّمَتني أنّ للناس أوجهًا كثيرة.

وهكذا انتقلَت المستأجرة الجديدة وابنتها إلى الشقّة، وصِرتُ أنتظر آخر الشهر لرؤيتها والتحدّث معها. بقيَت تغريد مِن دون عَمَل لقلّة خبرتها وافتقادها الشهادات اللازمة لذلك لأنّها تركَت العلم باكرًا لتتزوّج، لِذا خفّضتُ مجدّدًا مِن بدَل الإيجار كي تبقى عندي ولا ترحل إلى مكان آخر بعيدًا عن نظري وقلبي.

 


وذات يوم، إتصلَت بي تغريد لتخبرني عن عطل في حرّاق الحمام وركضتُ إليها لأتفقّد الأمر وأرى مستأجرتي المفضّلة. كان العطل بسيطًا، وسُرِرتُ لأنّ تغريد عَرَضَت عليّ المكوث لشرب القهوة معها. تحدّثنا في أمور عديدة، وغادَرتُ شقّتها فرحًا لأنّني استطعتُ التعرّف إليها أكثر. بعد ذلك، كثرَت الأعطال عندها، أعطال لم تكن مبرّرة. وفهمتُ مِن ذلك أنّها تريد رؤيتي، وتختلق الحجج لنتواجد لوحدنا إذ كانت الأعطال تحصل دائمًا حين تكون ابنتها في المدرسة.

وفي أحد الأيّام، بحتُ لها بمشاعري، وهي اعترفَت لي أنّها تشاطرها وانتهى الأمر بنا بالتقبيل... وأكثر بكثير. وبعد ذلك اليوم، صِرتُ أزور تغريد يوميًّا ونعيش حبّنا بكلّ ما للكلمة مِن معنى. بالطبع لم أعد آخذ منها أي إيجار بل أصبحتُ أدفع عنها أقساط مدرسة ابنتها. وقبلتُ اقتراحها بأن أضع لاحقًا الشقّة باسمها كي تشعر بالأمان.

للحقيقة لم أكن مرتاحًا لِما كان يحصل بيني وبين حبيبتي، إذ كنتُ أفضّل أن ننتظر حتى نصبح زوجَين، لكنّ عاطفتي القويّة تجاهها وقبولها معاشرتي قادَني إلى تلك العلاقة. كنتُ أنوي طبعًا إصلاح الأمور بأسرع وقت، لولا حديث هاتفيّ سمعتُه صدفة دارَ بين تغريد وشخص مجهول حين كانت هي في المطبخ وأنا في غرفة النوم ألبس ثيابي قبل مغادرة شقّتها. وهذا ما سمعتُها تقوله:

 

ـ لا يزال عندي... سيرحل بعد قليل... قلتُ لكَ ألا تكلّمني في فترة ما قبل الظهر، ما بكَ؟ أتريد إفساد كل شيء؟ إصبر بعد يا حبيبي... تعلم أنّني لا ولن أحبّ سواكَ... عليّ إقفال الخط كي لا أثير شكوكه... الوداع... وأنا أيضًا أحبّكَ.

 

بدأ جسدي يرتجف مِن الغضب والخَيبة، ولم أعد قادرًا على التفكير بكيفيّة تصرّفي حيال ما سمعتُه، لِذا تركتُ المكان بصمت.

تحطَّمَ فؤادي لأنّه أحبّ بصدق. وبعد أن فكّرتُ مليًّا بكيفيّة تعاملي مع الذي اكتشفتُه، قرّرتُ العودة إلى دوري كمالك. وهكذا أخبرتُ تغريد هاتفيًّا أنّني، وبسبب ما اكتشفتُه، سأعاود مطالبتها بالإيجار وسأكّف عن دفع تكاليف مدرسة ابنتها. وشكرتُ ربّي لأنّني لم أكتب لها الشقّة وإلا كانت قد استغلَّتني إلى أقصى درجة.

مِن جهّتها، لم تنكر تغريد وجود رجل آخر في حياتها، لكنّها أكّدَت لي أنّها لم تقصد إيذائي أو استغلالي. لم أصدّقها، فقد كانت محادثتها الهاتفيّة واضحة تمام الوضوح.

مرَّت الأسابيع، وعندما وصَلَ موعد دفع الإيجار، بعثَت لي تغريد بابنتها لتقوم بالمهام. حسبتُ أنّها لم تشأ مقابلتي بعد الذي حصَلَ، لِذا استقبلتُ المراهقة ببسمة وأخذتُ منها المال.

إلا أنّ أمّها جاءَت تخبط بابي بعد رحيل ابنتها بأقلّ مِن نصف ساعة. وعندما فتحتُ لها، بدأَت تصرخ بي بأعلى صوتها وتنعتني بالقذر والمنحط. وسحبتُها مِن يدها إلى الداخل لأتفادى الفضيحة وسألتُها عن سبب شتمها لي. وهذا ما قالَته لي:

 

ـ كيف تتهجّم على ابنتي هكذا؟ أليس لدَيكَ ذرّة أخلاق؟

 

ـ لم أفعل لها شيئًا! هي جاءَت لتعطيني الإيجار ورحلَت بعد دقائق قليلة.

 

ـ بل حاولَت الإعتداء عليها! ملابسها ممزّقة وهي تبكي بحرارة! سأشتكيكَ عند الشرطة!

 


لزمَتني ثوان طويلة لأستوعب ما يجري:

 

ـ آه... فهمتُ الآن... هذه خطّتكِ البديلة بعدما فشلَت الأولى... كيف تقحمين فتاة بريئة في هكذا مكيدة؟ أهذه طريقتكِ بالتربية؟ أهنّئكِ!

 

ـ دعنا مِن هذا الكلام غير المجدي... إبنتي مستعدّة أن تقسم بأنّكَ حاولتَ اغتصابها وأنتَ تعلم أنّ الشرطة والقاضي سيُصدّقانها.

 

ـ ماذا تريدين؟

 

ـ أريد الشقّة! أريدها باسمي.

 

ـ كي يأتي عشيقكِ ويعيش في ملكي؟

 

ـ بل زوجي.

 

ـ خلتُكِ أرملة... أهو مَن يُملي عليكِ ما يجب أن تفعليه؟ يا للرجل الشريف! يدفع زوجته إلى فراش رجل آخر! يا للعائلة الجميلة!

 

ـ كلامكَ لا يجرّحني بتاتًا... حاجتنا إلى المال أقوى بكثير مِن المبادئ والأخلاق.

 

ـ لا تتحجّجي بالمال، فبإمكانكِ وزوجكِ إيجاد عمل يحميكم جميعًا مِن العوز.

 

ـ ولِما نفعل بوجود مغفّلين مثلكَ؟

 

إحترتُ في أمري إذ كان مِن الواضح أنّ تغريد وزوجها لن يتراجعا عمّا يُريدانه. أسفتُ ليس فقط على نفسي بل على ابنتهما التي كانت ستسلكُ طريق أبوَيها بإدلاء شهادة زور تودي بي إلى السجن والعار.

وبما أنّني لم أكن مستعدًّا للتنازل عن ملك أهلي وتعبهما، قرّرتُ إيجاد طريقة لتفادي المحتوم. لِذا قصدتُ مدرسة إبنة تغريد وانتظرتُ خروجها عند انتهاء الدوام.

عندما رأتني الفتاة واقفًا أمام باب المدرسة، إرتعَبت وحاولَت الهرب منّي إلا أنّني لحقتُ بها وأوقفتُها قائلاً:

 

ـ مهلاً! لم آت لأؤذيكِ بل لأتكلّم معكِ.

 

ـ دعني وشأني مِن فضلكَ... أنتَ لا تعرف أبوَيَّ وما يستطيعان فعله بي لو علِموا أنّني أتكلّم معكِ.

 

ـ بل صرتُ أعرفهما جيّدًا وخوفي أن تصبحي مثلهما قريبًا.

 

ـ لن يحصل ذلك أبدًا!

 

ـ وماذا تسمّين ما تنوين قولَه عنّي لو رفضتُ شروط أمّكِ؟

 

ـ الأمر ليس عائدًا لي.

 

ـ بلى... أنتِ صاحبة القرار... قرار تحطيمي ماليًّا واجتماعيًّا ومعنويًّا.... لطالما كنتُ لطيفًا معكِ، دفعتُ لكِ تكاليف مدرستكِ وجلبتُ لكِ الهدايا والملابس والمأكولات الشهيّة.

 

ـ صحيح ذلك... وتمنَّيتُ أن تكون أنتَ أبي بدلاً عن ذلك الـ...

 

ـ وتريدين إيذائي؟ أهكذا تشكريني؟ إسمعي، لو أقدمتِ على اتّهامي ستخسرين نفسكِ إلى الأبد.

 

ـ وإن لم أفعل سأُضرَب وأُعاقَب.

 

ـ ستلتئم كدماتكِ ولكنّكِ ستحافظين على نزاهتكِ وروحكِ الطيّبة. لا تدخلي ذلك العالم البشع المليء بالكذب والغش وقلّة الأخلاق. الحياة أمامكِ ولدَيكِ الفرصة الآن لرفض المضيّ في ذلك الطريق.

 

لم أكن أعلم أبدًا إن كان حديثي قد أثّر في الصبيّة وتوقّعتُ الأفظع. إلا أنّ تغريد وابنتها رحلتا مِن المبنى بعد يومَين إلى وجهة غير معروفة. إرتحتُ كثيرًا لتلك النهاية السعيدة، وحمدتُ ربّي أنّ الفتاة كانت لا تزال تتحلّى بالأخلاق.

مرَّت حوالي السّبع سنوات قبل أن أرى ابنة تغريد مجدّدًا، حين جاءَت مع زوجها لتسكن في المبنى. كنتُ سعيدًا للغاية بها بعدما كبرَت وأصبحَت عروسًا جميلة. رحّبتُ بها وبزوجها الشاب ولم أسأل عن أمّها، لكنّ الصبيّة قالت ضاحكة:

 

ـ لا تخف، سندفع الإيجار بكامله فكلانا نعمل ونعي واجباتنا... على خلاف غيرنا. بالمناسبة، إعلم أنّني تركتُ بيت أهلي حين أصبحتُ راشدة وأنتَ تعرف طبعًا لماذا. أودّ أن أشكركَ على ما فعلتَه مِن أجلي في ذلك اليوم، فلولاكَ لفقدتُ ذاتي. تعذّبتُ كثيرًا بعدما رفضتُ الإشتراك بالفخ المنصوب لكَ، إلا أنّني تحمّلتُ الشتائم والضرب حتى ملا منّي. وها أنا، إمرأة حرّة بقراري، بفضلكَ. وهذا دليل على أنّ للإنسان خيارات عديدة ومخارج كثيرة، وكل ما يلزمه هو أن يستمع إلى صوت ضميره لينجو.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button