مثَلي الأعلى

دخلتُ عيادة الدكتور هاني للعمل لدَيه حين كنتُ لا أزالُ في أوّل سنة لي في كليّة طبّ الأسنان، ورأيتُ بذلك فرصة لدفع أقساط جامعتي والتمرّس بمهنة لطالما أحببتُها. كان الدكتور هاني أيضًا أستاذًا في الكليّة، أي بإمكانه إرشادي دراسيًّا ومهنيًا.

في البدء عملتُ لفترة في الإستقبال والإجابة على الإتصالات، كي أتعرّف أكثر على الزبائن وحاجاتهم وآلامهم وأُحسِن التصرّف مع تنوّعهم. كان هناك ذوو الطبقة المُخمليّة بسبب شهرة ومهارة الدكتور وموقع العيادة، لكن كان هناك أيضًا الفقراء الذين يستفيدون مِن قلب الدكتور الطيّب، أي أنّهم يحصلون على الخدمة مجّانًا أو مقابل مبلغ زهيد. وهؤلاء كنتُ أحبّهم بشكل خاص، لأنّني لم أكن ثريّة بل العكس وكنتُ أعلم تمامًا ما تعني القلّة.

مُعظم زبائننا المُحتاجين كانوا مِن النساء، ربمّا لأنّ الرّجال منهم كانوا يخجلون مِن القدوم، فكانوا يبعثون زوجاتهم أو بناتهم بدلاً عنهم للحفاظ على ماء الوجه. كم كنتُ فخورة بالدكتور هاني! فلَم يكن هناك مِن سبب يُجبره على إعطاء شيء مِن وقته ومهاراته لأناس لَم يكن ليتعرّف إليهم يومًا. هكذا كان، يُحبّ الفقراء ويُحاول مُساعدتهم، وكانت تدمَع عَيناي عند خروج الكثير منهنّ مِن غرفة المُعاينة بخجل واضح. وأخذتُ قرارًا بأن أساعد بدوري المُحتاجين حين أصيرُ طبيبة أسنان. كان الدكتور هاني مثَلي الأعلى مِن جميع النواحي، وأسفتُ لكون ذلك الرجل العظيم لا يزال عازبًا بالرغم مِن أنّه بلَغَ الستّين مِن عمره، فأمثاله عليهم أن يتزوّجوا ويُنجبوا ليملأوا العالم بذريّة فاضلة.

بعد أشهر على تمرّسي باستقبال الزبائن، سمَحَ لي الدكتور بدخول عيادته ومُساعدته أثناء عمله، بغرَض تعليمي المهنة. كم كانت فرحتي كبيرة! فمنذ ذلك الوقت صرتُ وكأنّني شبه طبيبة أسنان، وشعرتُ أنّني أقتربُ وبسرعة مِن هدفي. كانت عائلتي فخورة بي إذ أنّ الجميع كان بانتظار أن أبدأ يومًا بِجَني المال ليرتفع مستوى عَيشنا. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ الوحيدة القادرة على تغيير حياتنا، بعدما فزتُ بمنحة خوّلَتني دخول الجامعة، على عكس أخوَتي الذين توجّهوا مُباشرة بعد المدرسة إلى مُعترك العمل.

 


مرَّت الأسابيع ثمّ الأشهر واقترَبَ امتحان آخر السنة، فأعطاني الدكتور إجازة لأتمكّن مِن الدرس، لكنّه لَم يكن خائفًا مِن أن أرسُب نظرًا لحماسي وفنائي للعمَل، وأخذتُ أنا على عاتقي ألا أخيّب ظنّه بي وحبَستُ نفسي في البيت لأدرس. وخلال تلك الفترة، سمعتُ أشياءً لَم تُعجبني عن الرجل الذي كنتُ أتمثّل به.

فذات يوم، جاءَت إحدى جاراتنا لزيارتنا، لشرب القهوة مع والدتي والثرثرة عن أهالي المبنى والحَي. كنتُ أتجنّبُ تلك المرأة قدر المُستطاع لِسلاطة لسانها وبشاعة روحها. إلا أنّني كنتُ موجودة في البيت حينها وجلستُ معها بينما والدتي تُحضّرُ القهوة. وإذ بها تقولُ لي مِن دون مُقدّمة:

 

ـ أراكِ في البيت يا صغيرتي... هل تركتِ العمل بسبب مُضايقات الدكتور؟

 

ـ أي مُضايقات تتكلّمين عنها؟ الرجل بغاية اللطافة. يحصلُ أحيانًا أن يستاء مِن شيء ويغضب ولكن ليس منّي.

 

ـ لا... لا أتكلّم عن غضبه بل عن... تعلمين ماذا أقصد.

 

ـ للحقيقة لا.

 

ـ الدكتور يحبّ النساء... كثيرًا. ولقد اشتكَت منه أكثر مِن سيّدة.

 

ـ هذا ليس صحيحًا! فهو بغاية الأخلاق مع زبوناته.

 

ـ أنتِ قُلتِها... زبوناته... ألا تجدين أنّه مِن الغريب ألا يكون له زبائن ذكور؟ أو أنّه لَم يتزوّج حتى الآن؟

 

ـ أمر زواجه ليس مِن شأن أحد! وهو لا يختار حتمًا جنس زبائنه!

 

ـ بل هو طويل اليَد! لكن مِن الجيّد أنّكِ، كما أخبرَتني أمّكِ، صرتِ معه داخل غرفة المُعاينة، فهكذا لن يستطيع استغلال النساء خاصّة المُحتاجات منهنّ.

 

ـ كفى كلامًا سيّئًا عن الدكتور، فهو أشرَف الرجال!

 

ـ كم أنّكِ ساذجة يا صغيرتي! راقبيه وسترَين.

 

دخلتُ غرفتي مُستاءة للغاية، وأكملتُ درسي لكن بصعوبة بعد أن أدخلَت تلك البغيضة الشكّ في رأسي. فرغمًا عنّي، صرتُ أحلّلُ بعض الأمور وأسأل نفسي عن أجوبة لِما قالَته الجارة.

وفور قيامي بالإمتحان عُدتُ راكضة إلى العيادة لأجد ميرنا، وعلمتُ أنّها موظّفة جديدة وخفتُ أن تأخذَ مكاني لدى الطبيب. طمأنّني الدكتور ضاحكًا أنّ تلك السيّدة سيكون عملها فقط الإجابة على الهاتف وأخذ المواعيد وأنّ مكاني بالقرب منه محفوظ. إرتاحَ قلبي وامتلأ بالإمتنان لهذا الرجل العادل.

 


وبما أنني كنتُ قد رأيتُ تلك المرأة مِن قبل، رحتُ أسألها عن الأمر فقالَت لي إنّها إحدى زبائن الدكتور، وهو أعطاها تلك الوظيفة بسبب طيبته ونيّته مساعدتها. حينها تذّكرتُها فهي كانت دائمة الحزن وتُعالج أسنانها مجّانًا عندنا. وتمنَّيتُ أن تتغيّر نفسيّتها بعدما وجدَت عملاً، لكنّها بقيَت حزينة لا بل زاد حزنها قوّة. فأخذتُ ألاطفُها وأحملُها على الضحك أو على الأقل على الإبتسامة، لكن مِن دون جدوى. لِذا بدأتُ أخبرُها عن حياتي لِكسر الجليد بيننا. وعلى مرّ الوقت، صارَت ميرنا أكثر مرونة معي، حتى أنّها دعَتني إلى شرب القهوة في بيتها المتواضع. هناك تعرّفتُ إلى أولادها الصغار. عندها سألتُها عن زوجها، وعلِمتُ أنّها أرملة بعد أن مات المسكين فجأة وتركَها تُناضل للحصول على لقمة عَيشها. قلتُ لها:

 

ـ مِن الجيّد أنّكِ جئتِ لمعالجة أسنانكِ عند الدكتور هاني وإلا لما دبَّرَ لكِ هذه الوظيفة. يا لَه مِن رجل عظيم! يُداوي آلام الناس مجّانًا ويُساعدهم للحصول على فرصة ثانية!

 

إلا أنّ ميرنا بدأَت بالبكاء. للحقيقة، ظننتُ أنّها تبكي امتنانًا للدكتور لكنّها قالَت لي:

 

ـ يا ليتَ لَم أدس أرض هذه العيادة يا آنستي... فذلك الرجل هو الشرّ بحدّ ذاته!

 

ـ ما هذا الكلام يا ميرنا؟ أهكذا تُكافئين الدكتور هاني بعد كلّ الذي فعلَه مِن أجلكِ؟!؟ إن كنتِ تتقاضين راتبًا يُخوّلكِ العَيش بكرامة وأولادكِ فهذا بفضله.

 

ـ عن أيّ راتب تتكلّمين؟ فأنا أعمل لدى الدكتور مِن دون مقابل.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أجل، هو يعتبرُ أنّ عليّ دفع أتعاب مُعالجة أسناني بالعمل لدَيه مجّانًا... إنّه يُعاقبني.

 

ـ يُعاقبُكِ؟ على ماذا؟

 

ـ كيف أقول لكِ ذلك؟ دعيني أبدأ مِن الأوّل... جئتُ أُعالجُ أسناني عند الدكتور هاني بعد أن أخبرَتني قريبة لي إنّه لا يأخذُ مالاً مِن الفقراء لأنّ قلبه كبير... صدّقتُها ولَم أعرف حينها أنّها تُريدُ الإيقاع بي لإرضاء الدكتور، بعد أن وعدَها بتركها وشأنها إن أرسلَت له بديلة عنها.

 

ـ لَم أفهم... بديلة لماذا؟

 

ـ إسمعي... ذلك الرجل يستغلّ النساء المُحتاجات لأغراض جنسيّة... فبعد أن يُعالج أسنانهنّ، يُطالبهنّ بأتعابه، وبما أنّهنّ غير قادرات على الدفع يُطالبهنّ بتسديد ما عليهنّ... بأجسادهنّ.

 

ـ يا إلهي! أنتِ تكذبين! الدكتور لا يُمكنه فعل ذلك! ولماذا إذًا قبلتِ البقاء والعمل لدَيه؟

 

ـ لأنّني رفضتُ الإستجابة لمطالبه الجنسيّة، أجبرَني على العمل لدَيه مجّانًا وإلا طلَبَ الشرطة. خفتُ طبعًا أن أُسجَن فماذا سيحصل لأولادي؟

 

ـ هل لدَيكِ إثبات على ما تقولينَه؟ فإدّعاء أنّكِ ضحيّة أمرٌ سهل، إلا أنّ الإفتراء على الناس أمرٌ أسهل.

 

ـ أجل... هناك رسائله الهاتفيّة ولكن... هل هي كافية لحماية نفسي منه؟

 

ـ أريني إيّاها!

 

وقرأتُ أشياءً لَم أتصوّر الدكتور قادرًا على قولها. كان بينها مغازلات وقحة ومِن ثمّ تهديد واضح لتلك المسكينة بعد أن صدَّته مرارًا مُحافظةً على شرفها قدر المُستطاع. أخذتُ نسخة مصوّرة عن الرسائل ورحتُ مُباشرة إلى الدكتور هاني. كان غضبي لا يوصَف بعد أن تدمّرَت صورته المثلى التي كانت لدَيّ.

عندما أرَيتُه الدليل القاطع على دناءة نفسه، نظَرَ إليّ الدكتور وقال لي بوقاحة:

 

ـ وما دخلكِ أنتِ؟ لقد أخذتُكِ تحت جناحيَّ وعلّمتُكِ المهنة وهكذا تُكافئيني؟ يا ناكرة الجميل!

 

ـ لن أسكُت فهذا يجعل منّي شريكتكَ! ستعطي أجرها لتلك المرأة على كلّ الساعات التي عملتها لدَيكَ، وتدعها وشأنها وإلا فضحتُكَ في الجامعة. إضافة إلى ذلك، سأُبقي عينًا عليكَ لأنّني سأظلّ مُساعدتكَ إلى حين أتخرّج. وإذا علِمتُ مِن أيّ زبونة أنّكَ تحرّشتَ بها أو ضغطّ عليها، فسأبلّغُ الشرطة!

 

ـ أيتّها الفاسقة!

 

ـ بل الشريفة والشجاعة! ألا تخجل مِن نفسكَ؟

 

لَم يتسنَّ لي تحمّل العمل مع الدكتور طويلاً، فبعد أن غادرَت ميرنا العيادة وقبضَت حقّها بأسابيع قليلة، إدّعَت إحدى الزبونات على الدكتور ولحِقَت بها أخروات، الأمر الذي أودى بالسافل إلى السجن. لَم أحزن عليه طبعًا لأنّه نال ما يستحقّه.

تابعتُ دراستي وتخرّجتُ بامتياز وفتحتُ مع زميلة لي عيادة. وأوّل شيء فعلتُه هو زيارة ميرنا في بيتها وعرضي عليها العمل لدَينا كموظّفة إستقبال. بدأَت المسكينة بالبكاء وعانقَتني مطوّلاً قائلة: "هذا هو فعل الخير الحقيقيّ، أي عندما لا ينتظر الإنسان شيئًا بالمقابل بل يُعطي فعلاً مِن قلبه."

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button