ما هو مقدَّر أن يحصل

يوم التقَيتُ بالتي كانت ستصبح زوجتي الثالثة، ظنَنتُ أنّ ذلك كان نتيجة الصّدف. فحتى ذلك الحين كنتُ أعتقد أنّ حياتنا مجموعة أحداث متفرّقة لا هدف لها ولا معنى، تجتمع لتختلق طريقًا نسلكه إلى حين تأتي أحداث أخرى. إلا أنّني اكتشفتُ أنّ حياتي كلّها كانت تدور حول نجوى ولا أحد سواها.

زواجي الأوّل كان مدبّرًا كما كانت تجري العادة آنذاك، ولم أجد أيّ مانع لِما رأيتُه ملائمًا لتقاليدنا. تزوّجتُ مِن غير حماس آملاً أن أحبّ يومًا تلك المرأة. لكنّ ذلك لم يحصل ولم أُرزَق بأولاد منها لأنّها لم تكن قادرة على الانجاب. تطلّقنا بالتوافق وكلّ منّا ذهَبَ في سبيله، بعد عشر سنوات مِن حياة مملّة وخالية مِن أيّ معنى. وبعد سنين قليلة، قرَّرَ أصدقائي أنّ عليّ الارتباط مجدّدًا كي لا أبقى لوحدي ومِن دون ذريّة. لِذا عرّفوني إلى فتاة جميلة ومتعلّمة تناسبني تمامًا، على الأقل في نظرهم.

خرجنا سويًّا لفترة، ومِن ثمّ طلبتُ يدها وتزوّجنا. عندها أيضًا خلتُ أنّ حياتي ستكون كما أتوقّعها، وأنّني سأجد السعادة مع زوجة رائعة.

لكنّ تلك المرأة لم تكن كما بدَت للجميع، بل اتّضَحَ أنّها إنسانة صعبة المزاج ومتطلبّة لدرجة غير معقولة، فهي لا يُعجبها أو يكفيها شيء. ومع أنّني كنتُ مرتاحًا ماديًّا، وجدتُ انّ مالي وتعَبي كلّه ذاهب لإشباع نزوات غير مبرّرة، وأنّ تلك الزوجة لا تكترث سوى لحسابي المصرفيّ. وظننتُ أنّ مع مجيء طفل ستتغيّر الأحوال وتفهم زوجتي أنّ الحب والحنان هما مفتاح السعادة وليس الذهب والمجوهرات، إلا أنّها، وبكلّ غرابة، كانت هي الأخرى عاقرًا. كيف لذلك أن يحدث معي مرّتَين؟

بالرّغم مِن كلّ ذلك، بقيتُ أحاول كسب حب زوجتي لي ولكن مِن دون جدوى. لِذا عرضتُ عليها مبلغًا كبيرًا مِن المال لتوافق على الطلاق لأنّني، وبكلّ بساطة، أكره المشاكل والفضائح. رحَلَت زوجتي عنّي آخذةً كلّ ما تمكّنَت مِن أخذه وارتاح بالي، وأقسَمتُ ألا أتزوّج بعد ذلك حتى مِن ملكة جمال أو فائزة بجائزة نوبل. فكان مِن الواضح أنّني لستُ محظوظًا بمسائل الحب. إنكبَبتُ على عملي الذي كان ثابتًا وخاليًا مِن المفاجآت واستعَدتُ توازني.

 


لم يعد أحد يُكلّمني عن الارتباط، وأصبحتُ العازب الدائم الذي يذهب إلى السّهرات والمناسبات لوحده، وأعترف أنّني كنتُ سعيدًا هكذا ولم أشعر بأيّة حاجة إلى وجود امرأة معي.

مرَّت السنوات بهناء، وأصبحتُ في الخمسين مِن عمري حين أخَذَت حياتي منعطفًا غير متوقّع قلَبَ كل المعطيات وبشكل غريب جدًّا. فذات يوم، أثناء انتظاري خروج سيّارتي مِن المغسل، سمعتُ صوت ضحكات تتعالى. خرجتُ مِن غرفة الانتظار وإذ بي أرى امرأة تحاول إخراج كعب حذائها مِن شق في الطريق. كان عمّال محطّة الوقود واقفين يضحكون عليها، لأنّ حذاءها بقيَ عالقًا بينما أصبحَت هي حافية. غضبتُ مِن ردّة فعل العمّال، وركضتُ أنقذ المسكينة التي كانت على شفير البكاء. أخرجتُ الحذاء مِن الشق، وساعدتُها على انتعاله حتى الوصل إلى قاعة الانتظار حيث اشترَيتُ لها قنّينة ماء وفنجانًا مِن القهوة.

شكَرَتني السيّدة بحرارة وعندما قرّرَت الرحيل، إنكسَرَ كعب حذائها وكادَت تقع أرضًا. فقلتُ لها:

 

ـ إسمحي لي بإيصالكِ حيث تسكنين لتبدّلي حذاءكِ... لا تخافي فأنا رجل محترَم ومعروف في الجوار... إلى جانب ذلك، إعلَمي أنّني غير مهتمّ بالنساء.

 

ـ تقصد أنّكَ...

 

ـ لا! لا تسيئي فهمي، ما أقصدُه هو أنّني مرَرتُ بتجارب فاشلة ولم أعد أريد الدخول في علاقة مِن أيّ نوع مع الجنس الآخر، حتى لو كانت صداقة بحتة.

 

صعِدَت معي تلك السيّدة وقدتُ بها حتى منزلها، وأنتظرتُها في السيّارة لتبدّل حذاءها.

عندما عادَت إلى المركبة سألتُها أين تريدني أن أقلّها فقالت لي:

 

ـ إلى مقرّ عملي... لقد أخذتُ إجازة نصف نهار لأقصد المختبر وآتي بنتائج فحوصات أمّي.

 

ـ حسنًا... أعطِني العنوان.

 

وكم كانت دهشتي كبيرة حين علِمتُ أنّها موظّفة في الشركة التي أملكها! لم أكن أدري بوجودها لأنّها كانت تعمل في قسم الأرشيف وقد تمّ توظيفها مباشرة مِن قِبَل المسؤول عن الموارد البشريّة. ضحكنا لهذه الصدفة الغريبة وأنزلتُها أمام مدخل عملنا.

في اليوم التالي إتصَلتُ بقسم الأرشيف لأسأل عن نجوى وعن أمّها، فقالَت لي إنّهنّ بخير. ومِن ثمّ أضافَت:

 

ـ أودّ أن أسألكَ... أرجو ألا تجدني متطفّلة ولكن... عندما وصلتُ العمل البارحة أخذتُ أفكّر بأمر، لنقل غريبًا... منذ لحظة ما رأيتُكَ وأنا أشعر بأنّني أعرفكَ... وبما أنّني لم ألتقِ بكَ في الشركة يومًا ولا نسكن في الحيّ نفسه، لا بّد أنّ معرفتنا تعود إلى مرحلة قديمة.

 

ـ قديمة؟ أي أيّام الجامعة مثلاً؟

 

ـ لا أدري... أين درستَ؟

 


ـ في الولايات المتحدّة.

 

ـ آه... يستحيل أن أكون قد تعرّفتُ إليكَ هناك فلَم أخرج يومًا مِن البلد.

 

ـ ربمّا في المدرسة؟

 

ـ ربمّا... أنا ذهبتُ إلى مدرسة ق.م... وأنتَ؟

 

ـ أنا أيضًا! يا إلهي! كيف لكِ أن تتذكّري تلك الأيّام؟ سؤال آخر وأرجو ألا تسيئي فهمي ولكن تلك المدرسة لـِ...

 

ـ تقصد للأغنياء؟ صحيح ذلك، لكنّني حصلتُ على مساعدة ماليّة مِن جمعيّة خوّلَتني الإلتحاق بتلك المؤسّسة العظيمة.

 

وأخذنا نتبادل التفاصيل والذكريات، وعلِمتُ منها أنّها كانت تصغرني بسنين عدّة، وكانت تعرفني لأنّني كنتُ تلميذًا لامعًا ومندوب صفّي لسنوات عديدة.

عندما عدتُ في المساء إلى بيتي الموحِش، جلستُ على الأريكة أفكّر بنجوى وسلسلة الصدف التي واكبَت حياتنا نحن الإثنَين. نعم، كنّا بالمدرسة نفسها ومِن ثمّ في الشركة نفسها، وبعد ذلك التقَينا بمناسبة غريبة عجيبة. فلولا أن علِقَ كعب حذائها مقابل محطّة الوقود، ولولا وجودي هناك في تلك اللحظة بالذات، لما تعرّفتُ إليها. وفي غضون ثانية واحدة، فهمتُ أنّ مصير تلك المرأة مرتبط بمصيري بشكل أو بآخر.

هل كانت هي بالذات التي وجبَ عليّ أن أحبّها منذ البداية؟ لم أنَم جيّدًا تلك الليلة، لأنّني كنتُ أنتظر بفارغ الصبر طلوع الفجر لأركض إلى الشركة وأكلّم نجوى. كان لا بدّ لي أنّ أعلم إن كان القدر قد ربطَنا ببعضنا. دعَوت نجوى إلى الغداء وكادَت أن ترفض إلا أنّني بقيتُ مصرًّا. وخلال جلستنا أخذتُ أحدّق بها ورأيتُ جمالها وأنوثتها وما هو أهم، حياءها. واتضَحت الأمور بالنسبة إلي، فوعدتُ نفسي ألا أدَعها تفلتُ منّي مجدّدًا.

كيف انقلَبَ رأيي بالنساء بهذه السرعة؟ لأنّ يقينًا أخَذَ مكان الشك والخوف، وكأنّ حبّي لنجوى كان نائمًا في داخلي بانتظار أن يستفيق أخيرًا. اليوم أنا متزوّج مِن نجوى ولدَينا ثلاثة أولاد بالرّغم مِن أنّها كانت قد تخطَّت الأربعين مِن عمرها، وكأنّ عقر زوجتَيَّ السابقتَين كان مقصودًا لأكون أبًا لأولاد أنجبتُهم مِن المرأة المناسبة. هل أنا سعيد؟ أجل وبشكل لا يوصف!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button