ماذا فعلتُ بكَ يا إبني؟

كان يجدر بي أن أنتبه إلى عَدم الذهاب لزيارة جارتي المريضة بالحصبة الألمانيّة وأنا حامل. ولكن كيف لي أن أعلم أنّ تلك العدوى ستؤثّر على حياة مولودي الأوّل إلى الأبد؟ فلم أكن مِن اللواتي تقرأنَ أو تسمعنَ الأخبار التي تتبادَلها النساء حول أمور الحمل.

فعندما وُلِدَ جاد وفحَصَه الطبيب، لاحَظَ عليه ردّات فعل بطيئة وقرّرَ مراقبته عن كثب. وسرعان ما شخَّصَ مشكلته بعدما طرَحَ عليّ مجموعة أسئلة، ومِن بينها عن إصابتي بالحصبة الألمانيّة أو احتمال تواجدي بالقرب مِن مصاب بهذا المرض. وأكَّدَ لي أنّ ابني لن يتحّسن، وأنّ عليّ تقبّل وضعه كما هو والتعامل معه لباقي حياته وكأنّه ولد صغير.

وأصِبنا أنا وزوجي بالإحباط، مِن أجل ابننا طبعًا ومِن أجلنا أيضًا، فلم نكن نعلم كيف نتعامل مع تلك المصيبة. وأتذكّر زوجي وهو يسألني: "ماذا سنقول للناس عندما يرَونه؟". فهناك جزء مِن الخجل في قلب معظم الأهل حين يُواجهون نظرات الآخرين إلى طفلهم المعوّق جسديًّا أو عقليًّا. ولكن سرعان ما تتغلّب العاطفة على هذا الشعور ويُصبح بنظرهم أجمل طفل في العالم.

لم يكن جاد متطلّبًا بل كان يقضي وقته يلعب لوحده بصمت. وحين كبر بعض الشيء، قرَّرتُ أنّ عليّ إعطاء زوجي ذريّة "سليمة". لذا حملتُ مِن جديد، بعد أن سألتُ الطبيب إن كان هناك خطر أن أنجب ولدًا معوّقًا آخرًا وأخذتُ منه الضوء الأخضر.

وأنجبتُ وليد ومِن ثمّ سارة وكانا كاملَين البنية والعقل، وأصبحَت حياتنا أخيرًا طبيعيّة.

 


ودخَلَ ولَداي المدرسة، ولكنّني أبقَيتُ جاد في البيت لأنّني لم أرَ منفعة مِن إرساله لتحصيل العلم. فماذا كان سيفعل بالشهادات؟ صحيح أنّه يوجد مدارس مختصّة بحالة إبني إلا أنّنا، وبكل أسف، لم نكترث لأمره لكثرة انشغالنا بوليد وسارة.

ولكن ما لم نكن نعلمه هو أنّ جاد لم يكن متأخّرًا عقليًّا إلى حد كبير، وذلك لأنّنا لم نتكبّد عناء فحصه أو متابعة حالته. فقد كان لكثرة فضوله يستمع دائمًا إلى المذياع ويتصفّح كتب وليد وسارة. وحين أدرّسهما، كان يُبقي أذنًا صاغية لما يدور ويتعلّم بضعة أشياء منّي.

وبقيَ ذلك الصّبي الغامض يعيش في عزلته، بينما أكملنا حياتنا جميعًا بشكل طبيعيّ. كنّا نحبّه كثيرًا ولكنّنا لم نسمح له بأن يكبر. صحيح أنّه كان لدَيه صعوبات كبيرة في فهم الأمور واستعمالها ولكنّه لم يكن غبيًّا. وأظنّ أنّه أخفى عنّا قدرته على استيعاب ما يحصل مِن حوله، بسبب خوفه مِن أن يُغيّر الصورة التي أخذناها عنه.

ولكن لكثرة فرحنا بولَدَينا الأصحّاء، عملنا منهما شخصَين مغرورَين ومعدومَي العاطفة. فلم يكن مطلوبًا منهما سوى أن يكونا طبيعيَّين، وكنّا أنا وزوجي نحقّق لهما جميع أمنياتهما مهما كانت صعبة.

ومرَّت السنوات، وحصَلَ ولداي على أعلى العلامات في المدرسة ومِن بعدها في الجامعة، ولكنّهما بدآ يتغيّبان عن المنزل كثيرًا، وكأنّهما يُريدان الإبتعاد قدر المستطاع عن جذورهما البسيطة وعن أخيهما المعوّق، خاصة أنّهما تعرّفا في الجامعة على أصدقاء أغنياء.

وفي تلك الأثناء، أعَرَب جاد عن رغبته في العمل. إبتسمتُ له بحب، وأخَذتُ أشرح له أنّه ليس قادرًا على ذلك، ولكنّه بقي مصّرًا.

عندها سألتُه:

 

ـ وماذا تنوي فعله؟

 

ـ أريد أن أعمل لدى العم حسن.

 

ـ البقّال؟ وماذا ستعمل عنده؟

 

ـ لقد كلّمتُه، وسمح لي بإيصال المشتريات إلى منازل الزبائن.

 

ـ تكلّمتَ معه بالموضوع؟ منذ متى تعرفه؟ نحن نشتري حاجاتنا مِن السّوبر ماركت.

 


ـ وأعرف الحلاق واللحّام وعامل البلديّة... أجلس معهم ونتكلّم في أمور كثيرة... أرجوكِ يا ماما... دعيني أعمل لدى العم حسن!

 

وأدركتُ بفظاعة أنّني خلال كلّ ذلك الوقت لم ألاحظ حتى غيابات إبني، وشعرتُ بذنب كبير إلى درجة أنّني قبلتُ طلبه بعد أن تأكّدتُ لدى البقال مِن صحّة أقوال جاد وأوصَيتُه بالإنتباه إليه.

ولكنّ العم حسن قال لي ضاحكًا:

 

ـ أنتبه إليه؟ ولماذا؟ فهو شاب مسؤول ويُمكن الإعتماد عليه.

 

ـ جاد مسؤول؟ ألا تعلم أنّه بسيط؟

 

ـ أعلم ذلك لأنّ الناس تتكلّم، ولكنّني لم ألاحظ عليه شيئًا مِن هذا القبيل... صحيح أنّ ابنكِ ليس متفوّقًا، إلا أنّه يعي كلّ ما يدور حوله... عليكِ مشاهدته وهو يتناقش بالسياسة مع جارنا الحلاق!

 

وركضتُ إلى البيت لأسأل جاد عن بعض المعلومات العامّة، وتفاجأتُ به يُجيب عليها بشكل أكثر مِن جيّد. نظرتُ إليه وقلتُ له باكية:

 

ـ يا إلهي... ماذا فعلنا بكَ يا ابني؟

 

وبدأ جاد العمل، الأمر الذي أعطاه ثقة كبيرة بنفسه. كان كالطفل الذي يُعطى مسؤوليّات كبيرة، يمشي بفخر وينظر إلى الناس باعتزاز.

وقرّرَ إبني وليد الإنتقال إلى شقّة صغيرة ليعيش فيها لوحده، لأنّه بحسب قوله "لا يشعر بأنّه يستطيع تحقيق ذاته وسطنا". ولحِقَت به أخته، وعاشَت معه حوالي السنة قبل أن تجد عريسًا "مناسبًا" لم نتعرّف إليه إلا قبل أسابيع قليلة مِن الزفاف.

وأظنّ أنّ رحيل ولَدَينا بهذه الطريقة البشعة هو ما قضى على صحّة زوجي. كان يُعاني منذ وقت طويل مِن مشاكل في القلب ولكنّه لم يكن بخطر. ودخَلَ المسكين المشفى، وتوفّيَ هناك بدون أن يرى وليد أو سارة اللذَين كانا جدّ مشغولَين. وحده جاد كان موجودًا معنا طوال الوقت، يُواسيني ويُمسك بيد والده ويقول له:

 

ـ هيّا، تعافى يا بابا... أريد أن أعلّمكَ لعبة جديدة... وسأغنّي لكَ... وإذا أرَدتَ يُمكنّني أيضًا أن أعلّمك الرّقص.

 

وأغمضَ زوجي عَينَيه بعدما باركَ إبنه:

 

ـ أرجو مِن الله أن يعطيكَ ايّامًا جميلة مثل قلبكَ يا بنيّ... فكثرة العقل تعمي أحيانًا الإنسان وتفقده إنسانيّته... خذ بالك مِن أمّكَ... ولكَ بركتي.

 

بكينا أنا وجاد كثيرًا، ولكنّني لم أرَ الدمع في عينَي وليد أو سارة، وسألتُ نفسي كيف لهما أن يكونا بهذا الجفاف التام.

وتابعتُ حياتي مع إبني الذي بقيَ يُدهشني يومًا بعد يوم. فاكتشفتُ أنّه تعلّم القراءة بعدما قصَدَ الحلاق، وطلبَ منه أن يشرح له معنى أحد الكتب الذي أهدَيته إيّاه ليتفرّج على صوَره.

ومِن عمله عند البقال، إنتقل جاد إلى العمل كنادل في مطعم. وذهبتُ في أحد الأيّام لأرى كيف يتدبّر أمره هناك، فوجدتُه مرتاحًا يقوم بعمله على أكمل وجه. وعندما تكلّمتُ مع المدير بشأنه، إبتسم الرجل وقال:

 

ـ صحيح أنّ جاد لا يّحبّ الأمور المعقّدة، ولكنّه موظف دؤوب ومجتهد. والأهم من كلّ ذلك هو أنّ الزبائن يُحبّونه كثيرًا فلدَيه إبتسامة جميلة ومشرقة.

 

ولولا عمل جاد، لكان وضعنا الماليّ بأبشع حالاته. فمع الوقت، وبعد أن عَلِم وليد أن أخاه يجني المال، قرّرَ الكفّ عن مساعدتنا متحجّجًا بمصاريف كبيرة بسبب سفراته المتعدّدة. أمّا بالنسبة إلى سارة، فلم تكن قادرة على إعالتنا لأنّ زوجها لم يكن موافقًا على ذلك.

كنتُ أعلم أنّها مجرّد حجج لا أساس لها، ولم ألم سوى نفسي فأنا التي أنشأتهما ليُصبحا هذَين الشخصيَن العدمَي الإحساس. لم أفعل ذلك عن قصد، ولكن لكثرة فرحتي بنجاحي بإنجاب ولَدَين كاملَي العقل. والوحيد الذي أعطاني الحبّ والأمان والرّاحة الماديّة، كان نفسه الذي وضعتُه جانبًا وكأنّه خطأ لا أريد تذكّره. يا لسخرية القَدَر!

اليوم أعيش سعيدة مع جاد وزوجته، فتاة رقيقة وطيبّة القلب، أحبَّت إبني بالرّغم مِن بساطته، لأنّها وجَدَت فيه كامل أوصاف الرّجولة والمروءة التي باتَت نادرة في أيّامنا هذه.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button