مات أبي أخيراً

ركضتُ إلى المشفى كالمجنونة لأرى أبي، أو بالأحرى جثته، وأتأكّد مِن أنّه حقاً ميت. كنتُ قد حلِمتُ مرارًا بهذه اللحظة، أي حين تقَع عينايَ على جسده البارد والشّاحب. أردتُ أن يموت أبي مِن كلّ جوارحي وارتحتُ كثيراً لحصول ذلك.

قد تجدون كلامي قاسيًا للغاية وتقولون "أيّة إبنة هذه"، لكنّكم لا تعرفون مَن هو أبي وما الذي فعَلَه. حينها فقط ستوافقوني الرأي.

لَم يفهَم والدي يومًا معنى الأبوّة، فلقد جئتُ إلى الحياة ليس لأنّه أرادَ ذلك، بل لأنّه ضحكَ على أمّي التي كانت قاصرًا حينها بِغرض ممارسة الجنس معها فقط. هو ظنّ أنّ الأمر سينتهي حين يرتدي ملابسه ويبحث عن ضحيّة أخرى، إلا أنّ المسكينة حمِلَت منه، وأمسكَه أهلها قبل أن يهرب إلى ما وراء الحدود وأجبروه على الزواج منها. ولأنّه كان يُحبّ نفسه أكثر مِن كلّ شيء ويُريدُ العَيش أطوَل وقت ممكن، قبِلَ أن يستر على إبنتهم... على مضض طبعًا. وبعد أشهر قليلة، أبصرتُ النور وسط أبوَين تعالى صراخهما ليلاً نهارًا.

في السنوات الأولى مِن حياتي لَم أرَ أبي كثيرًا بل نادرًا، لأنّه كان يقضي وقته خارجًا مع أمثاله، أي أبناء السوء، ومع فتيات تبعنَ شرفهنّ مُقابل المال. وحين كان يتكرّم علينا بالعودة إلى المنزل، كانت والدتي تُحاول قدر المُستطاع إبقاءه لكن مِن دون جدوى. كان ينتهي الأمر بهما إلى مشاجرات عنيفة للغاية لأنّه كان يرفضُ، وحسب قوله، لعب دور فُرِضَ عليه. لَم يكن يُريدُ أن يكون زوجًا أو أبًا بل أن يعيش حياة رجل أعزب، كما كان ينوي فعله قبل أن تحبل أمّي.

لكن حين كبرتُ قليلاً، أي صرتُ في الثالثة عشرة مِن عمري، تغيّرَت الأحوال بشكل جذريّ، إذ أنّ الذي كان مِن المُفترض به أن يحميني ويُؤمّنُ لي الأمان باتَ يتقرّبُ منّي بطريقة لا تمتُّ للأبوّة بصلة. لَم أفهَم معنى تلك الحركات التي كان يقومُ بها أمامي، ولَم أستطع تفسير لمساته لي لأنّني كنتُ سعيدة بوجوده معنا.

غطّاني والدي بالهدايا، الأمر الذي لَم يفعله معي سابقًا أو مع أمّي، مُبقيًا كرَمه لبنات الهوى، فشعرتُ بالفخر لأنّني كنتُ أميرته كما صارَ يُسمّيني.

 


أُطمئنُكم في الحال، لَم يتسنّى لوالدي الإعتداء عليّ جنسيًّا، ليس لأنّه غيّر رأيه بعد أن صحا ضميره، بل لأنّ أمّي أبعدَته عنّي. قد تظنّون أنّها أرادَت حمايتي مِن ذلك الوحش، لكنّها، وبكلّ بساطة، شعَرَت بالغيرة منّي. فهي لَم تستوعب كيف لأبي أن يُفضّل عليها كلّ نساء الأرض بمَن فيهنّ إبنتها عليها. ولأنّها لَم تقدر على إبعاده عن عشيقاته، عمِلَت جهدها لِمنعه مِن لمسي. في البدء، إستعملَت أمّي تلميحات خفيفة لإفهام زوجها أنّها تعلم ما في باله، إلا أنّه لَم يتأثّر بذلك بل زادَ تقرّبًا منّي. هكذا كان، يفعلُ ما يُريدُه لأنّه كان يعتبرُ أنّ الدنيا بأسرها وناسها ملك له.

في إحدى الليالي، دخَلت أمّي غرفة نومي وطرَدَت أبي منها، بعدما استلقى إلى جانبي بحجّة أنّه يُريدُ أن يطمئنّ على نومي وبعد أن حاولَ إقناعي بعدَم ارتداء لباس النوم لأنّ الجوّ حارّ للغاية. كانت والدتي تحمل بيدها مكنسة طويلة صارَت تضربُ بها زوجها، إلى أن استطاعَت أخيرًا طرده مِن فراشي صارخةً به: "لماذا لا تستطيع حبّي... لماذا؟!؟".

عادَ أبي وحاوَلَ الوصول إلى غايته معي، لكنّه لَم يفلَح لأنّني كنتُ قد بدأتُ أفهَم ما يُريدُه منّي بالفعل. عندها شعرتُ وكأنّه خانَ ثقتي به وخذَلَني كأب. أدركتُ أنّني لن أحظى يومًا بذلك الأمان الذي تبحثُ عنه كلّ فتاة. فقد كان والدي رجلاً فاسدًا وكانت تلك حقيقة عليّ تقبّلها.

عندما رأى أبي أنّ لا مجال لأنّ يستفيد مِن بقائه في البيت... فضّلَ الرحيل. للصراحة أحسستُ بالإرتياح بعد أن رحَلَ الإنسان الذي بتُّ أخافُ منه، والذي حاوَلَ سرقة براءتي.

لَم تتقبّل أمّي ترك زوجها لها بعد كلّ الذي تحمّلَته منه، فهي لَم ترَ يومًا هنيئًا معه لكنّها بقيَت تحبّه طوال ذلك الوقت وتتأمّل أن يصير، بفعل ساحر، الزوج المحبّ والحنون الذي حلِمَت به. لِذا صارَت كالمجنونة تمشي في البيت ذهابًا وايّابًا، وتتمتمُ كلمات غير مفهومة وتقوم بحوارات مع مجهول. والويل لي لو رأتني أنظرُ إليها، فهي كانت تصرخُ عاليًا: “إلى ماذا تنظرين أيّتها الفاسقة؟ أردتِ أخذه منّي، أليس كذلك؟ أين هو الآن؟ لقد تركَنا نحن الإثنتَين!". وكنتُ أركضُ إلى غرفتي لأبكي، فذنبي الوحيد كان أنّني وُلدت بينهما.

تفاقمَت حالة أمّي العقليّة ولَم يستجِب أبي إلى نداءات العائلة بأن يجد لها طبيبًا نفسيًّا، فهو لَم يقبل مُساعدتها حتى ماديًّا... ولا مُساعدتي. أظنّ أنّه وجَدَ أنّ لا منفعة له باستثمار المال بنا، فتركَنا لمصيرنا وفضَّلَ أصدقاءه وعشيقاته علينا، كعادته.

 


أُدخِلَت أمّي إلى مصحّة حكوميّة حيث العلاجات سيّئة والمُعاملة أسوأ، فتراجعَت حالتها بسرعة. هي لامَتني على وجودها في تلك المؤسّسة، مُعتبرةً أنّني قصدتُ إبعادها للتفرّع لمَن أسمَته عشيقي، أي أبي. مِن جهتي، رحتُ أعيش عند خالي وعائلته الذين استقبلوني بأذرع مفتوحة. علِمتُ لاحقًا أنّ العائلة بأسرها حاولَت مرارًا إقناع أمّي بترك أبي بسبب مُعاملته السيّئة لها، لكنّها رفضَت ذلك بقوّة وأبعدَتهم جميعًا عنّا. فلقد اعتقدَت، كالكثير مِن النساء، أنّ بامكانها تغيير رجل فاسد، في حين لا يحصلُ ذلك سوى في الروايات والأفلام. فالناس لا يتغيّرون إلا إذا هم أرادوا ذلك.

إنتحرَت والدتي في المصحّة في حيث كان مِن المفروض أن يكون هناك نوع مِن المُراقبة على المرضى، لكن لا أحد يكترث لمصير هؤلاء المساكين، لأنّ لا منفعة فعليّة مِن وجودهم بل هم يُسبّبون للعاملين هناك التعب والإنزعاج.

حزنتُ كثيرًا على والدتي، فأنا لَم أستأ منها بسبب اتّهاماتها لي وامتعاضها منّي، أوّلاً لأنّني كنتُ أحبّها كثيرًا، وثانيًا لأنّني أدركتُ باكرًا أنّ تعلّقها بزوجها لَم يكن سليمًا.

توقّعتُ مِن والدي أن يسأل عنّي وعن أحوالي بعد موت التي كانت تُسبّبُ له الإزعاج لكنّه لَم يفعل. توقّعتُه أيضًا أن يعتذر منّي عمّا كان ينوي فعله بي لكنّ ذلك لَم يحصل لسبب وجيه: ذلك الرجل لَم يكن يتحلّى بأيّة ذرّة ضمير. قد يجد المرء ذلك صعب التصوّر، لأنّنا نحبّ أن نؤمِن بأنّ هناك ولو القليل مِن الخير في أسوأ انسان، لكنّ هؤلاء الناس موجودون فعلاً وأنا شاهدة على ذلك. هم لا يحسبون حساب أيّ أحد سوى أنفسهم، وذلك لا يُسبّب لهم أيّ وخزة ضمير بل يزيدون قوّة وعزمًا وأنانيّة.

تمنّيتُ لأبي موتًا شنيعًا ليس لأنّني شرّيرة، بل ليشعر ولو لبعض الوقت بالألم الذي سبّبه لي وخاصّة لأمّي. إلا أنّ أبي عاش حياة مُريحة للغاية فصليتُ أن يُحاسبه الله لاحقًا كما يستحقّ.

في تلك الأثناء، إهتمّ خالي وزوجته جيّدًا بي، واعتبراني إبنتهما وتعامل أولادهما معي وكأنّني أختهم. كان جوّ البيت سليمًا لِذا بدأتُ أخيرًا بالشعور بالأمان. وهكذا استطعتُ اجتياز بشاعة طفولتي ومُراهقتي بأقلّ ضرر مُمكن. لا أنفي أنّ لدَيّ قلقًا خفيًّا مِن المُستقبل لكنّني، بفضل شهادتي الجامعيّة، أعملُ على تأمين غد جيّد لنفسي. بقيَ لدَيّ خوف مِن الرجال، فالوحيد الذي عرفتُه كان إنسانًا أنانيًّا وعنيفًا وقليل الأخلاق إلى درجة التحرّش بابنته. أعلمُ أنّني قد أحتاج إلى طبيب نفسيّ للتخلّص مِن مخاوفي هذه، أو إلى شاب عظيم يُعطيني قدرًا كبيرًا مِن الحبّ والأمان لأطردَ مِن بالي كلّ تلك الذكريات الأليمة.

أجل حلِمتُ بموت أبي وكأنّ بذلك أستطيع محو كلّ شيء مِن ذاكرتي. وقد إرتحتُ كثيرًا عندما وصلَنا خبر موته مِن المشفى، فلَم يكن لدَيه عائلة سوايَ، لِذا رحتُ وخالي إلى المشرحة وأمعَنتُ النظر في جثّة ذلك الطاغي لأستوعب أخيرًا أنّه لَم يعد موجودًا، وأنّه أخَذَ معه كل الأذى الذي دمَّرَ حياتي وحياة والدتي المسكينة.

أيّها الناس، لاتستهينوا بما لدَيكم، فهو ثمين للغاية، وكم أحسدُكم على حياتكم الجميلة وسط أبوَين مُحبَّين، وكَم هي سخيفة تلك المشاكل البسيطة التي تشكون منها أمام الذي مررتُ به لوحدي. فلا نعرفُ قيمة ما لدَينا إلا عندما نُدرك مدى يأس وعذاب الآخرين.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button