ليس الجمال كل شيء

كنتُ قد سمِعتُ مرارًا عن ثروة أهل الخليج وكرَم رجالهم مع زوجاتهم، فحلِمتُ كالعديد مِن الفتيات بعِريس ثريّ ينشلُني مِن فقري ومصيري البائس. كنتُ فتاة جميلة، لِذا وثقتُ بأنّ صوَري على ذلك الموقع المُخصّص للزواج ستجلبُ لي فرصًا لا بأس بها. ولَم أكن مُخطئة، فسرعان ما صارَت تصلُني الرسائل والمدَح وطلبات التقرّب. تجاهلتُ مُعظمها، فلَم أكن أريدُ رجلاً فقيرًا أو حتى مِن بلَدي نفسه حيث كانت الأوضاع المعيشيّة صعبة. بقيتُ أنتظرُ حتى جاءَني طلبٌ مِن رجل خليجيّ قد انبهَرَ بِجمالي وصِبايَ، وأسرَعَ بِعرض الزواج عليّ بعد أن قال لي إنّه متزوّج مِن إبنة خاله كما تجري التقاليد وله منها بنات. لَم يهمّني الأمر كثيرًا، أي أن أكون زوجة ثانية، فأعطَيتُه رقم هاتفي، وبدأنا نتبادل الرسائل القصيرة ومِن ثمّ الإتصالات والمكالمات على الفيديو.

للصراحة، لَم يُعجِبني خالد كثيرًا، فهو كان في الأربعين مِن عمره أي يكبرُني بأكثر مِن عشرين سنة، ولَم يكن وسيمًا، إلا أنّه عرِفَ كيف يجذبُني بِكلامه الجميل... وبِثروته. لا تسيؤوا فهمي، فلَم أكن لأبيع نفسي لمَن يملكُ الأكثر، بل بالفعل كانت حالتي وحالة أهلي المادّيّة يُرثى لها، ولَم أرَ مانعًا مِن الوقوع في حبّ مليونير بدلاً مِن فقير. إلى جانب ذلك، كانت أمّي قد ربّتني على تحسين مظهري والإستفادة منه قائلةً إنّه ثروتي الوحيدة. ويا لَيتها لقّنَتني حبّ المعرفة وتحصيل العلم بدلاً مِن ذلك!

جاءَ خالد لِزيارتي مُحمّلاً بالهدايا لي ولكلّ فرد مِن العائلة الذين استقبلوه وكأنّه ملك. مكَثَ في البلد أيّامًا قليلة ومِن ثمّ عادَ إلى بيته. خلال تلك الزيارة، وجدتُ عريسي لطيفًا ومُهتمًّا بي كثيرًا، ففرِحَ قلبي لأنّني وجدتُ مَن كنتُ أبحثُ عنه بِسرعة، بينما تقضي أخريات سنوات للوصول إلى مُبتغاهنّ أو يفشلنَ حتى.

 


وبعد حوالي الشهرَين، عادَ خالد ليتزوّجَني. قضَينا شهر عسل جميل في فرنسا، ومِن ثم سبقَني إلى بلده ريثما يُكمِل أوراقي القانونيّة. وكَم كانت فرحَتي كبيرة عندما علِمتُ أنّني حامل، الأمر الذي كان سيملأ حتمًا قلب زوجي بالفخر. تفاجأ خالد بالخبر ولَم أشعر بأنّه سُرَّ جدًّا به، لكنّه بارَكَ لي بعد أن سألَني مرّات عدّة إن كنتُ أكيدة مِن حَملي. وبعد شهرَين سافَرتُ إلى مقرّ عَيشي الجديد.

كان البيت تمامًا كما رأيتُه في الصوَر التي أراها لي خالد وكنتُ سعيدة. فلَم أتصوَّر أبدًا أنّني سأعيشُ يومًا في مكان كهذا وشكرتُ ربّي على كرَمه.

إلا أنّني لَم أرَ زوجي كثيرًا، فهو كان يقضي وقته في عمله أو عند عائلته الثانية، وكان يأتي إليّ لِمعاشرتي فقط وإعطائي ما أطلبُه منه. كبُرَ بَطني لكنّ خالد لَم يكترِث لنموّ إبنه بل للتغيّرات التي حصَلت لِجسدي، فهو استاءَ جدًّا مِن ذلك وكأنّني كنتُ قد أفسَدتُ عليه مُتعته. لِذا، وقَبل الولادة بِشهر واحد، أرسلَني إلى أهلي بحجّة أنّ مِن الأفضل أن أكون وسط عائلتي بدلاً مِن مكان غريب. لَم أرَ حينها شيئًا غير منطقيّ في ذلك، لِذا سافرتُ وقلبي مليء بالفرَح.

أنجَبتُ صبيًّا لكنّ خالد لَم يأتِ لِرؤية إبنه بِسبب انشغالاته العديدة، إلا أنّه وعَدَني بأنّه سيزورنُا بأقرب وقت. لَم أعلَم حينها أنّني لن أرى زوجي ثانيةً.

بدأَت الحجج تتالى والوقت يطولُ، وفهمتُ أخيرًا أنّ خالد لَم يعُد يُريدني. ما الخطأ الذي اقترفتُه معه؟ فلَم يتسنَّ لي اقتراف أيّ شيء! هل لأنّني حمِلتُ بِسرعة؟ وما ذَنبي بذلك؟ لماذا لَم يقُل لي زوجي إنّه لا يُريدُ اطفالاً في الحال أو قط؟

بعَثَ لي خالد المال الكافي لِشراء شقّة جميلة لي ولإبني، إلا أنّ أفراد عائلتي تركوا مكان عَيشهم القديم وجاؤوا كلّهم للسكن معي. لَم أمانِع، فكنتُ أحبُّهم وكنتُ بِحاجة إلى مَن يُساعدني بِطفلي.

في تلك الأثناء، كنتُ قد حاولتُ إثارة اهتمام زوجي بي بإرسال صوَر لي بعد أن استعَدتُ قوامي السابق، لكن مِن دون جدوى، فهو كان قد استبدلَني بأخرى. عندها اقتصرَت إتصالاتنا على الأمور الماديّة، أي حاجاتي وحاجات إبننا.

وفي أحد الأيّام، سمِعتُ أمّي وهي تقولُ لأخي:

 

ـ كَم أنّ أختكَ بلهاء! لقد وصَلَت لِيَدَيها فرصة ذهبيّة وها هي أضاعَتها! ماذا سنفعلُ الآن بها؟ زوجُها بالكاد يُرسل لها ما يكفينا، ولا بدّ له أن يتوقّف يومًا عن إعالتنا. يا لَيتني أنجبتُ قردة بدلاً منها!

 

ـ سأبحثُ لها عن زوج آخر، أحد مِن بلَدنا يُمكننا الوصول إليه ساعة نشاء والسيطرة عليه. لكن هل ستقبلُ هي بالزواج ثانية؟

 

ـ دَع الأمر لي. حالما تجد الشخص المُناسب سأُقنعُها بِطلَب الطلاق مِن الخليجيّ والزواج مُجدّدًا. آه لو كانت لي إبنة أخرى! لقد وضعتُ كلّ آمالي في هذه الخائبة!

 

ـ وإن رفضَت؟

 


ـ سآخذُ إبنها منها وأُعطيه لأختي في أميركا... على كلّ حال إنّ وجود هذا الولد هو عائق أمام مستقبلها... أو بالأحرى مُستقبلنا! هاهاها!

 

لَم أصدّق أذنيَّ! كنتُ أعلم أنّ عائلتي تستفيدُ منّي، لكنّني لَم أتصوّر أنّني سلعة لدَيهم تُباع لمَن يدفعُ أكثر. ويريدون أخذ إبني منّي أيضًا؟!؟ لِذا وجَبَ عليّ التصرّف وبِسرعة.

إتّصلتُ بِزوجي وبدأتُ أقنعُه بِضرورة الإهتمام بابنه كَونه الذكر الوحيد بين أولاده، وهو سيحملُ إسمه ويُكملُ أعماله مِن بعده. لكنّه أجابَني أنّه يأملُ بإنجاب ولد يومًا مِن زوجته الجديدة. فقلتُ له:

 

ـ تُنجبُ مِن زوجتكَ الصبيّة والجميلة ليتأثّر جسدها بالحَمل والولادة كما حصَلَ لي؟ إبقِها على جمالها واستمتع به، فلدَيكَ إبن جاهز وبَصحّة ممتازة.

 

فكَّرَ خالد مليًّا بالذي قلتُه له ورأى أنّني على حقّ. عندها عرضتُ عليه أن يأخذه ويُربّيه مع بناته وأن يظلّ يصرف عليّ حتى مماتي كَوني أم الوريث. فعلتُ ذلك لسببَين: الأوّل هو أنّني أبعثُ إبني عند أبيه وليس عند خالتي في بلد بعيد وكبير، والثاني هو أنّني أؤمِّن لِنفسي عيشة كريمة تحميني مِن شبَح الزواج مُجدّدًا حسب تخطيط أمّي.

وافقَ زوجي على طلَباتي، ووعدَني بأن يُرسلَ لي إبني كلّ سنة بِصحبة المربيّة ليَقضي معي فرصة الصيف ورأس السنة. صحيح أنّني كنتُ سأشتاقُ إليه كثيرًا، لكنّني أمَّنتُ له مُستقبلاً أكيدًا وأبقَيتُ الإتصال معه.

عندما عَلِمَ أهلي بالترتيبات الجديدة، نسوا أمر تزويجي لأنّهم لَم يعودوا بِحاجة إلي بَيعي مُجدّدًا. وأنا أخذتُ إبني وطرتُ به إلى زوجي الذي لَم يُعذّب نفسه باستقبالنا في المطار بل أرسَلَ أناسًا عنه. إستقليتُ الطائرة التالية وعُدتُ إلى بيتي والدّمع في عَينيَّ. كان الذنب ذنبي، أو بالأحرى ذنب أناس لَم يُعلّموني قيمة نفسي الحقيقيّة وأوهموني بأنّ الجمال هو كلّ شيء.

لكنّني كنتُ قد فهمتُ أخيرًا الحياة، ولَم أعُد أحسبُ نفسي جميلة بل إنسانة لَم تُنجِز شيئًا في حياتها. لِذا قرّرتُ الإستفادة مِن وقتي الضائع بالذهاب إلى مدرسة خاصّة لأتعلّم ما غابَ عنّي وأحصلُ على شهادة ما، مهما كانت. كنتُ بحاجة إلى أن أفتخرَ بِذاتي ولو بعض الشيء وأن أستعيدَ ثقَتي بِنفسي.

بِعتُ نفسي أو باعوني، لا يهمّ، لكنّ الأمر تمّ ودفَعتُ الثّمن لِوحدي، فها أنا أعيشُ مِن دون إبني، أغلى إنسان لدَيّ.

أخذتُ الشهادة الثانويّة لكنّني لَم أدخل الجامعة بل معهدًا حيث تعلّمتُ مهنة الماكياج ومُعالجة البشرة. وبعد سنتَين عمِلتُ في صالون وصارَت لي زبونات عديدات. لَم يعرِف زوجي بكلّ ذلك، لأنّني خفتُ أن يقطعَ عنّي المال. وبقيتُ أرى إبني كالمعتاد ووعدتُه سرًّا بأنّه سيفخر بي قريبًا.

مرَّت السنوات وصارَ لي محلّ للتجميل عمِلتُ فيه بِنفسي في الفترة الأولى، ومِن ثمّ جلَبتُ إليه عاملات إلى أن صِرتُ معروفة وتقصدُني السيّدات مِن جميع أطراف البلد.

وحين بدأتُ أجني الكثير مِن المال، أبقَيتُ أبني عندي وقت جاءَ يزورُني. وحين طالَبَ أبوه به، رفضتُ إرجاعَه حتى بعدما هدَّدَني بِحرماني مِن المال، فلَم أعُد بِحاجة إليه وصرتُ إنسانة قويّة ذات عزيمة مِن فولاذ، ولَم أعُد أخافُ مِن شيء أو أحد. طلّقَني زوجي وكان ذلك أفضل يوم على الإطلاق.

لكنّ أهلي استاؤا منّي وحاولوا تهديدي... ولكن من دون جدوى. جمعتُهم في الصالون وقلتُ لهم:

 

ـ هذا بيتي وهذه حياتي. لقد استفَدتم منّي كثيرًا وحانَ الوقت لِترحلوا. ماذا فعلتم طوال هذه السنين سوى العَيش على حسابي؟ أنظروا إلى إنجازاتي وافعلوا مثلي. لن أسمَحَ لأحد بعد اليوم بالتدخّل بي أو بإبني أو بيَتي! سأُعطيكم مبلغًا صغيرًا لِتستأجروا بيتًا لأنفسكم. إن أحبَبتم زيارتي يومًا فأهلاً بكم وإلا فمع السلامة! لَم أشعرُ ولو مرّة بِحبّكم لي، مع أنّني أعطَيتُكم كلّ ما لدَيَّ، وحان الوقت لأكون وسط مَن يُحبّني فعلاً ولا يستفيد منّي فقط.

 

رحلوا جميعًا غاضبين إلا أنّهم عادوا يزوروني بعد فترة. هل يأملون بالإنتفاع منّي مُجدّدًا؟ لَم يُعد الأمر يهمُّني، فلَن يرى أيّ منهم قرشًا واحدًا منّي.

صارَ إبني في الرابعة عشرة مِن عمره، وهو الأوّل في صفّه وله مُستقبل واعد بعد أن ربَّيتُه على المُثابرة والعمل والإنتاج والإفتخار بالنفس.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button