لن يفرّق أحد بيننا!

لا أذكرُ تمامًا ما حصَلَ قبل أن يتمّ تبَنّينا مِن المَيتم، فكنتُ آنذاك في الثانية مِن عمري، لكنّني لن أنسى كيف شدّ يوسف أخي الكبير على يدي ليُعطيني بعض الشجاعة. فهكذا هو كان، يأخذُ بزمام الأمور منذ صغره.

كنّا قد فقدنا والدَينا باكرًا جدًّا حين ماتا سويًّا في حادث سَير، ووُضِعنا بسرعة في مَيتم لأنّ ما مِن أحد مِن أقاربنا أرادَ تربية بنت وصبيّ في آن واحد وبصورة مُفاجئة. مكثنا في المؤسّسة وقتًا قصيرًا، لأنّ سنّي وجمالي جذَبا العديد مِن طالبيّ الأولاد. وبما أنّ المَيتم لَم يشأ الفصل بيننا، أخذَني وأخي ذلك الثنائيّ إلى بيتهما حيث كانت تنتظرُنا غرفة جميلة.

على الفور لاقَيتُ اهتمامًا كبيرًا مِن قِبَل أهلي الجُدد، لكنّ الوضع كان مُخالفًا مع يوسف إذ أنّه كان، كما ذكرتُ سابقًا، أكبر سنًّا وأيضًا مُنطويًّا على نفسه. فكَونه يتذكّر أبوَينا أكثر منّي، فقد وجَدَ صعوبة باستيعاب موتهما واستبدالهما بأبوَين آخريَن. للحقيقة، هو لَم يغَر منّي بل فرِحَ لي، لأنّني تأقلمتُ بشكل سريع ومُريح مع حياتي الجديدة.

إتّضَحَ أنّ يوسف ولدٌ ذكيّ للغاية وكان مِن أوائل صفه. أظنُّ أنّه صبّ اهتمامه على الدّرس لأنّه لَم يحظَ بالعاطفة التي حصلتُ عليها مِن والدَينا بالتبنّي. هما لَم يُسيئا مُعاملته، بل نسِيا أمره بكلّ بساطة وكأنّه ثقل زائد أُجبِرا به. كبرنا مِن دون مشاكل ملحوظة واعتبرتُ حياتي جميلة للغاية.

لكن حين صارَ يوسف مُراهقًا، بدأت المُناكفات بينه وبين أبيه بالتبنّي، وأذكرُ تمامًا جدّيّة تلك الشجارات. فكان مِن الواضح أنّ الذي ربّانا لَم يعتبِر أنّ يوسف ابنه بل منافسًا له بعد أن صارَ أخي يُعطي رأيه ببعض الأمور الجوهريّة، أو يرفضُ الانصياع لأوامر وقوانين وجدَها غير منصِفة له أو لي.

وحين بلَغَ أخي الثامنة عشرة، قرَّرَ ترك المنزل. توسّلتُ إليه ألا يفعَل، لكنّه نظَرَ إليّ بحبّ فائق قائلاً: "لا تخافي، لن أكون بعيدًا عنكِ بل سأكون موجودًا حين تحتاجيني". ثمّ وضَعَ قُبلة على جبيني واختفى. حينها فقط بدأتُ أنتبِه إلى الامتعاض الذي يكنّه والدايَ بالتبنّي لأخي. فحتّى ذلك الحين اعتبرتُ أنّهما يُحبّانه تمامًا كما يُحبّاني.

حزنتُ كثيرًا بعد أن راحَ يوسف إلى مكان يجهله الجميع ووبّختُ أهلي لأنّهما لَم يبحثا عنه. ماذا لو وقَعَ ضحيّة حادث؟ أين سينام وكيف سيأكل؟

لَم ترَ عَينايَ النوم إلى حين جاءَ أخي بعد ستّة أشهر. عانقتُه بقوّة باكيةً. وظننتُ أنّه عادَ إلى البيت بصورة دائمة، إلا أنّه أتى فقط ليُطمئنني عليه. أبوانا بالتبنّي استقبلاه بِبرودة، لخوفهما مِن أن يكون قد غيّرَ رأيه. إلا أنّه رحَلَ مِن جديد بعد أن قال لي إنّه دخَلَ جامعة حكوميّة، وهو يعمَل عند تاجر لِجمع المال اللازم لِدفع إيجار غرفة وجدَها وكذلك ثمَن أكله وشربه. وهو أقسَمَ لي أنّه بخير ووعدَني برؤيتي بعد فترة.

 


لَم أفهَم سبب برودة هذَين الشخصَين تجاه أخي الوحيد، فهو لَم يكن يومًا ولدًا مُشاغبًا، واجتاحَت قلبي كآبة بانَت للعيان. وفي تلك الفترة بالذات، أخذتُ قرارًا حاسمًا: سألحقُ بِيوسف عند بلوغي الثامنة عشرة! أبقَيتُ الأمر لنفسي، فكنتُ قد شاهدتُ كيف أنّ أبي بالتبنّي يُمكنه أن يكون عنيفًا، وبدأتُ أحلم باليوم الذي أجتمعُ بأخي بصورة دائمة.

بقيَ أخي يزورُني إلى أن حصَلَ على شهادته في الأعمال. وكان قد بقيَ لي سنة واحدة لتنفيذ ما في رأسي. كنّا قد تكلّمنا سويًّا عن الأمر وخطّطنا لحياتنا المُستقبليّة، إلا أنّ أمّي بالتبنّي سمعتنا يومًا وأخبرَت زوجها بالذي ننوي فعله.

بعد ذلك، مُنِعتُ مِن الخروج إلا للذهاب إلى المدرسة ومع مُرافق، ووصَلَ الأمر إلى مَنعي مِن الإجابة على الهاتف أو فتح الباب لأحد. مِن جهة أخرى، لَم يعُد مسموحًا لأخي رؤيتي، وسمعتُ صراخه وأبي بالتبنّي حول الموضوع، وتهديدات مُتبادلة بالضرب أو اللجوء إلى الشرطة. ثمّ سادَ السكوت وعلِمتُ أنّني صرتُ وحيدة في سجني. لَم يكن هناك مِن هواتف خليويّة آنذاك فشعرتُ بانقطاع تام عن الدنيا وعن "نصفيَ الآخر".

وذات يوم، علِمتُ مِن أبوَيّ بالتبَنّي أنّهما اشتكيا على أخي وأنّ الشرطة تبحثُ عنه. إفتعَلتُ شجارًا كبيرًا وتوقّفتُ عن التكلّم معهما إلا لأمور حيويّة. حبَستُ نفسي في غرفتي، وانصبَبتُ على دراستي لأنّ هذا ما أرادَه أخي حتمًا، فهو كان يؤمِن بالتعلّم ونَيل الشهادات.

مرَّت الأشهر والسنوات وصرتُ صبيّة في الثانية والعشرين، ولا خبَر عن يوسف. للحقيقة، تصوّرتُه قابعًا في السجن أو ميّتًا، فلا يُمكن ليوسف ألا يجد طريقة للاتصال بي. كنتُ قد كرهتُ هذَين البغيضَين لِدرجة لا توصَف، لكنّني لَم أكن بشجاعة أخي لِترك المنزل. لحسن حظّي، إطمأنَّ بالهما مِن جانب أخي ولَم يعُد ممنوعًا عليّ الخروج. حصَلتُ على شهادتي في الحقوق وبدأتُ العمَل. كنتُ في تلك الأثناء قد تعرّفتُ في الجامعة إلى شاب رصين ووسيم، وأحبَبنا بعضنا وبدأنا نُخطّط لِمستقبلنا. كنتُ قد وجدتُ فيه وسيلة للخروج مِن ذلك البيت الذي سادَ فيه الحزن والغضب. إضافة إلى ذلك، وضعتُ في حبيبي كلّ الحبّ الذي كنتُ أكنّه ليوسف، وتوقّعتُ منه طبعًا أن يُعطيني الحنان والاهتمام الذي عوّدَني عليه أخي. هل كنتُ سعيدة؟ نعم ولا. فلو عرفتُ فقط ما حلّ بأخي لارتاحَ بالي، حتى لو اقتضى الأمر باكتشاف خبَر موته. كان عليّ أن أعلَم ما حلَّ به!

وذات يوم، رأيتُه. في البدء، لَم أصدّق عَينَيَّ إذ خلتُ أنّني مُخطئة. فذلك الرّجل كان له لحية وشوارب ويرتدي بذّة أنيقة. هو بقيَ واقفًا على حافّة الرصيف المُقابل ينظرُ إليّ بِتمعّن. بعد ذلك، قطَع الطريق ووقَف قبالتي مُبتسمًا. ركضتُ أُعانقُه وأبكي بقوّة صارخةً: "لماذا تركتَني!؟!". نشّفَ يوسف دموعي ورحنا نجلسُ في مقهى حيث روى لي ما حصَلَ له، وأنا استمَعتُ إليه مُمسكة بِيَده لِشدّة خوفي مِن أن أخسره مُجدّدًا:

 

ـ لَم أترككِ يا أختي بل هربتُ إلى الخارج بعدما زارَتني الشرطة. كنتُ سأُسجَن لو بقيتُ أذهبُ لِرؤيتكِ، إذ كنتِ آنذاك قاصرًا وتحت وصاية هذَين الشخصَين. إضافة إلى ذلك، أبونا بالتبنّي يعرفُ رئيس شرطة المدينة شخصيًّا وبإمكانه أذيّتي. كان عليّ الحفاظ على نفسي وحرّيّتي مِن أجلكِ. لِذا، وبعد أن أخبرتُ التاجر الذي أعملُ لدَيه بما يجري لي، بعثَني إلى الخارج حيث له فروع. عملتُ بكّد وجهد، وسرعان ما تقدّمتُ لأصبح مسؤولاً في الفرع ومِن ثمّ أُديره.

 

ـ لكنّني لَم أعُد قاصرًا منذ سنوات، لِما لَم تعُد؟

 

ـ كان عليّ تأمين مُستقبلنا يا أختي، فلا يجوز أن تعيشي بظروف لا تليقُ بصبيّة مثلكِ. كنتُ أعلَم كَم أنّكِ تتعذّبين، إلا أنّه عذاب مؤقّت فستأتين معي حين أعودُ إلى المهجر.

 

ـ حقًّا؟!؟ يا إلهي، ما هذا الخبَر العظيم!

 


ثمّ تذكرتُ حبيبي، فكنتُ قد نسيتُ أمره أثناء استماعي لقصّة أخي واختفَت البسمة عن وجهي. سألَني يوسف عن حزني المُفاجئ، فأخبرتُه أنّني أنوي الزواج مِن شاب أحبَبتُه. سادَ سكوتٌ طويل، إذ استوعبَ أخي أنّه ضحّى وصَبرَ سدىً، وأنا فهمتُ أنّني لن أكون برفقته كما طالما حلِمتُ. بكينا سويًّا واتّفقنا أن نرى بعضنا يوميًّا حتى عودته إلى الغربة. ثمّ رحتُ البيت حيث أكملتُ البكاء لوحدي.

أطلعتُ حبيبي على الذي حصَل، فهو كان يعرفُ قصّتي مِن أوّلها، وفرِحَ لكَون يوسف حيًّا وطليقًا. إلا أنّه خافَ أن أعدُل عن الزواج منه. في الواقع، لَم أكن أعلَمُ بالفعل مَن سأختارُ، لِذا رحتُ يوميًّا ألتقي بِيوسف ليقصّ عليّ مُغامراته، وأنا بدوري كلّ ما مرَرتُ به. تفادَينا التكلّم عن موضوع الهجرة أو زواجي، كي نُحافظ على فرحة لقاءاتنا. عرضتُ عليه أن يتعرّف إلى حبيبي إلا أنّه رفضَ ذلك قائلاً: "لا يا أختي، إن رأيتُه فلن يبقى لي أمل، إذ أنّ وجوده في حياتكِ يُصبحُ حقيقة لا مفرّ منها." إحترمتُ إرادته وعملتُ جهدي للاستمتاع به قدر المُستطاع.

إلا أنّني رأيتُ في إحدى الليالي حلمًا لا أعرفُ كيف أُفسّرُه: كنتُ في حديقة جميلة مُحاطةً بالورد والعصافير، حين انتبهتُ إلى أنّني فتاة صغيرة جالسةً على أرجوحة. كنتُ سعيدة للغاية وأضحكُ مِن قلبي. وإذ بي أسمعُ صوت امرأة آتيًا مِن خلفي، وفهمتُ أنّها تدفعُ بي بِرفق لأتأرجَح. بقيتُ أنظرُ أمامي، وبالرغم مِن أنّني لَم أرَ وجه تلك السيّدة، شعرتُ بأنّها أمّي.

ثمّ هي قالَت لي: "إذهبي مع يوسف يا حبيبتي... لدَيكِ أخٌ واحد ومكانكِ معه. ستُحبّين مرّات عديدة إلى أن تجدي رفيق حياتكِ الحقيقيّ... لدَيكِ أخٌ واحد." ولحظة استدَرتُ، إستفقتُ مِن النوم. هل أنّ المرحومة أمّي حقًّا تدخّلَت أم أنّ عقلي الباطنيّ أظهَرَ لي ما كنتُ أتجنَّب الاعتراف به؟ لستُ أدري، إلا أنّني قرّرتُ الانصياع إلى ما سمعتُه في نومي. فكانت تلك السيّدة على حقّ، فبالرّغم مِن أنّ حبيبي شابٌ ممتاز، إلا أنّه في آخِر المطاف إنسان غريب عنّي، ومَن يدري ما يُخبّئه لي الزمن معه؟ إضافة إلى ذلك، لا أتصوّر أبدًا أنّه كان سيُضحّي مِن أجلي كما فعَلَ يوسف.

لِذا، وبأسف شديد، قطعتُ علاقتي بحبيبي. أظنُّ أنّه كان يعلَم أنّ ذلك سيحدثُ، وأشكرُه على تفهّمه الوضع وعلى تمنّيّاته لي بالتوفيق والسعادة.

ويوم زفَّيتُ الخبَر السّار لأخي، إنهالَت دموعه بِغزارة، وقال لي ما قالَته لي المرأة في الحلم: "ستُحبّين مِن جديد، لا تخافي".

سافَرتُ مع أخي بعد أن تمّ تحضير الأوراق اللازمة وتركتُ البيت. كنتُ قد أخبرتُ والدَيّ بالتبنّي عمّا أنوي فعله ثم أضَفتُ:

 

ـ لا يسعُني سوى شكركما على الذي فعلتُهما مِن أجلي منذ طفولتي، فلَم ينقصني شيء... سوى أخي. يا ليتكما فهمتُما مدى حاجتي إليه وحبّي له، ويا ليتكما أحبَبتُماه حقًّا كما على أيّ أهل أن يفعلا. لكنّه كان بالنسبة لكما عبئًا فُرِضَ عليكما تحملتُماه فقط لأنّكما أردُتما الحصول عليّ. ليس ذلك وحسب، بل أنتَ يا أبي دفعتَه للرّحيل مِن البيت ومِن ثمّ هدّدتَه بالسّجن. لماذا هذا الغضب والشرّ المجّانيّ؟ سأُعطيكما مِن أخباري لو شئتُما ذلك. شكرًا مُجدّدًا.

 

كان الجميع على حق، فبعد وصولي ذلك البلد بِسنة، وقعتُ في الحبّ وتزوّجتُ وأنجَبتُ وسكنتُ مع عائلتي بالقرب مِن يوسف.

وبعد سنوات طويلة على تركي البلَد وزواجي وتزويج ولدَيّ، لَم يستطِع شيءٌ أو أحدٌ أن يُفرِّق بيني وبين أخي!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button