لن أخجل من حقيقة أبي

كبِرتُ بلا أب بعدما ماتَ المسكين في الغربة بحادث سَير كبير. حزِنَ قلبي للغاية، لأنّني لَم أتوقّع عدَم رجوعه مِن سفرته، بل انتظرتُه ليأتي كالعادة مِن أوروبا مُحمّلاً بالهدايا لي ولأمّي.

مِن حسن حظّنا، أنّ والدي كان قد وضَعَ الكثير مِن المال جانبًا، فهو كان تاجرًا ماهرًا يُصدّرُ ويستوردُ البضائع، لِذا لَم تضطرّ أمّي للعمل وبقينا نعيشُ حياة كريمة. إلا أنّ ذكر والدي ظلّ يُرافقُني بشكل يوميّ، فلقد افتقدتُ لوجود رجل في البيت.

فعَلَت أمّي المستحيل لملء هذا الفراغ، إلا أنّ علاقتنا بدأَت تسوء عند بلوغي سنّ المراهقة، وصِرتُ أتشاجرُ معها باستمرار حول معظم الأمور. وأتذكّرُ أنّ في كثير مِن الأحيان تمنَّيتُ أن تكون هي التي ماتَت بدلاً مِن أبي، ليس لأنّني أكرهُها، بل لأنّها لَم تُحسن لعب دور الأب بل صارَت تُمارس عليَّ سلطة لَم تكن تملُكها.

حسدتُ صديقاتي على آبائهم، وأصبحتُ أحبُّ التواجد وسط عائلتهم لأشعر بالأمان. ولاحقًا، حين أحببتُ لأوّل مرّة، إخترتُ رجلاً يكبرُني بخمس عشرة سنة، إلا أنّ تلك العلاقة لَم تنجَح طبعًا، فشعوري لحبيبي كان مثل الذي تشعرُ به إبنة تجاه أبيها.

بقيتُ أفتّش عمَّن يُعطيني ما ينقصُني، حتى انقلبَت حياتي رأسًا على عقب حين علِمتُ أشياءً لَم يكن يجدرُ بي أن أعرفُها.

حصَلَ ذلك خلال إحدى مُشاجراتي مع والدتي. فهي كانت قد سئمَت مِن معاندتي لها والصّراخ بها كلّما وجّهَت لي ملاحظة أو حتى أعطَت رأيها بما يخصُّني، وحاولَت، ربمّا للمرّة الأخيرة، إعادتي إلى صوابي. لكنّني كنتُ فعلاً قد توقّفتُ عن اعتبارها مسؤولة عنّي وكنتُ أنظرُ إليها نظرة احتقار. ووسط صراخنا الذي اعتادَ عليه جيراننا، وبعد أن قلتُ لها إنّها ليست بنافعة، أجابَتني:

 


ـ لستُ بنافعة؟ وهل أبوكِ هو بنافع؟

 

ـ لا تأتِ على ذكره! فهو كان أفضل رجل بالعالم وأبًا مثاليًّا!

 

ـ مثاليًّا؟ دعيني أضحكُ! إن كان بهذا القدر مِن المثاليّة، فلِما ليس هنا الآن؟

 

ـ ما هذا السؤال السخيف؟ لأنّه ميّتٌ!

 

ـ لا بل هو جبان!

 

نظرتُ إلى أمّي مُستفسرة، إلا أنّها تراجعَت عن قولها:

 

ـ أقصدُ أنّ المسكين ماتَ... وتركَنا لوحدنا.

 

ـ لَم يكن ذلك قصدكِ... ولماذا تكلَّمتِ عنه بصيغة الحاضر؟ أجيبي! ما الذي يدورُ؟ مِن حقّي أن أعرف! تكلّمي أو أرمي نفسي مِن الشرفة!

وركضتُ إلى الشرفة لأخيف والدتي، وهي بدأَت تتوسّل كي لا أقفزَ. وبعد أن رأَت أنّها على وشك فقدان وحيدتها، قالَت لي:

 

ـ حسنًا... تعالي نتكلّم. لكن ما ستسمعينَه لن يُعجبكِ وأمامكِ فرصة للتراجع.

 

ـ أبدًا! أريدُ الحقيقة وما سأفعلُ بها هو شأني!

 

جلَسنا في الصالون وبدَت أمّي متوتّرة للغاية. إنتظرتُ حتى هدأت وبدأَت بالكلام:

 

ـ أبوكِ... كان مُختلفًا... أعنّي أنّه كان... يا إلهي، كيف أقولُ لكِ ذلك...

 

ـ لَم أعُد طفلة يا أمّي، فأنا في الثانية والعشرين مِن عمري. أكملي.

 

ـ حسنًا... لَم أكن على علم بحقيقة أبيكِ حين تزوّجنا، بل بعدما وُلِدتِ بقليل. فهو كان زوجًا رائعًا وأبًا فرِحًا بابنته. لكنّني اكتشفتُ صدفة أمر مكالمات هاتفيّة ورسائل غراميّة مع... رجل.

 

ـ ماذا؟!؟ هل وصَلَ كرهكِ لأبي إلى درجة توسيخ ذكراه؟

 

ـ دعيني أكمل. حين واجهتُه، حاولَ أبوكِ إقناعي بأنّ ذلك الشخص هو امرأة، مُفضّلاً أن أعتقد أنّه يخونُني مع أنثى على أن أعرف أنّه... مثليّ.

 

ـ أبي مثليّ؟!؟ أنتِ حتمًا تمزحين! فلقد تزوّجكِ وأحبّكِ وأنجبَني. لَم أعد أريدُ الإستماع إلى افتراءاتكِ!

 


ـ بل ستبقين هنا وسأكملُ لكِ كلّ ما حصل. لقد تعِبتُ مِن تلقّي اللوم والغضب، وحان الوقت لأرتاح أخيرًا.

 

ـ أكملي إذًا.

 

ـ إكتشَفَ أبوكِ ميوله الجنسيّة متأخّرةً وخلال إحدى سفراته إلى أوروبا. وهو وجَدَ أنّ هذا ما كان يُناسبُه وأنّه لَم يكن يجدرُ به جزّي إلى زواج فشِلَ بعد سنوات قليلة. حاوَلَ والدكِ إخفاء هذه الميول قدر المُستطاع كي لا يؤذيني ويؤذيكِ، وصارَ يذهبُ إلى حبيبه بين الحين والآخر. لكن عندما اكتشفتُ الحقيقة، لَم يعُد بإمكانه البقاء معنا، فمِن جهة لَم يعُد هناك مِن سبب للعب دور الزوج المُحبّ، ومِن جهة أخرى لَم أكن لأقدر على تحمّل وجوده بقربي. لِذا قرّرنا أنّ مِن الأفضل له أن يرحل. وهو حتى اليوم يُرسلُ لنا المال وكلّ ما نُريدُه ويُتابعُ أخباركِ عن كثب، وأنا أبعثُ له باستمرار صوَركِ وأروي له أخباركِ.

 

ـ وقلتما لي وللجميع إنّه مات؟!؟ هذا هو الحلّ الأنسَب بنظركما؟ أن أربى بلا أب، مُعتقدةً أنّه لقيَ مصرعه بطريقة رهيبة وفي قارّة أخرى؟!؟

 

ـ أجل يا حبيبتي... تصوّري حياتكِ لو علِمتِ بحقيقة أبيكِ. ولو عَلِمَ الناس... لَما كانوا ليرحموكِ.

 

ـ أبي هو أبي كيفما كان... وما شأني بميوله الجنسيّة؟ لستُ زوجته. بل إبنته.

 

ـ لَم يشأ أبوكِ أن تحتقريه يومًا، بل فضَّل أن يبقى ذكرى جميلة لدَيكِ.

 

ـ أين هو الآن؟

 

ـ في أوروبا مع... مع ذلك الرجل.

 

ـ لا يزالان سويًّا؟

 

ـ أجل ولقد تزوّجا، فذلك مسموح حيث هما. إسمعي يا ابنتي، إنسِ أمر أبيكِ وتابعي حياتكِ.

 

ـ هذا لن يحصل! لقد اكتشفتُ أنّ أبي حيٌّ للتوّ، وتريدين أن أنساه؟ أبي هو الذي أعطاني الحياة، ولا شيء يقدرُ على تغيير ذلك، ومِن حقيّ رؤيته ومُعانقته وتقبيله. أنتِ لستِ مِن دمه ولحمه، فما هو إلا غريبٌ إلتقَيتِ به يومًا صدفة. أمّا بالنسبة لي، فهو أوّل وجه رأته عَينايَ. أريدُ الذهاب إليه.

 

حاولَت والدتي منعي مِن السّفر إلى أبي، إلا أنّني بقيتُ مصرّة، فما مِن شيء كان سيقفُ بيني وبين لقاء لطالما اعتبرتُه مُستحيلاً.

أخذتُ بعض المال، وطرتُ إلى أبي مِن دون أن أخبرُه بمجيئي لأنّني خفتُ أن يتهرَّبَ منّي.

حين قرعتُ باب شقّة أبي، فتحَ لي رجل في العقد السادس مِن عمره وسألَني بالفرنسيّة مَن أكون. أجبتُه أنّني إبنة زوجه. إحتارَ الرجل للأمر، لكنّه أدخلَني ونادى أبي. وقَفنا نحن الثلاثة في الصالون بصمت، كلّ واحد منّا يُفكّر بالموقف وبما سيقولُه. لِذا بدأتُ بالكلام:

 

ـ بابا... أعرفُ كلّ شيء ولا داعٍ لأن تشرَحَ لي شيئًا. إكتشفتُ الحقيقة لوحدي، فلا تغضب مِن أمّي. كيف لكَ أن تختفي هكذا وتحملني على العَيش يتيمة الأب؟

 

ـ فعلتُ ذلك مِن أجلكِ يا صغيرتي... أنتِ فتاة وسمعتُكِ كانت ستتلطّخ إلى الأبد. ميولي أقوى منّي، فهكذا أنا، لكنّ حياتكِ أمامكِ. تصوّري لو بقيتُ معكِ وأمّكِ وعرِفَ الناس بأمري، ماذا كان ليحصل لكما؟ قرّرتُ الرّحيل عنكما بشرف، أي بالإدّعاء أنّني متُّ. سامحيني ولا تحكمي عليّ.

 

ـ لقد سامحتُكَ لحظة عرفتُ أنّكَ حَيّ، ولن أحكُمَ على الذي أعطاني الحياة وحاوَلَ جهده الحفاظ عليها.

 

ركضتُ إلى أبي واستطعتُ أخيرًا أن أشعر بدفئه بمعانقة طويلة. بكينا سويًّا وانضمّ إلينا زوج أبي.

مكثتُ مع أبي طوال الصيف وكنتُ أسعد إبنة في العالم. والغريب بالأمر أنّني لَم أعُد غاضبة مِن أمّي بل صرتُ أتّصلُ بها يوميًّا لأطمئنها عليّ.

ويوم مغادرتي، وعَدتُ والدي أنّني سأعود كلّما أُتيحَت لي الفرصة، وجعلتُه يعِدُني بأن يبقى على اتّصال بي بصورة دائمة.

صحيحٌ أنّ حياة أبي قد تُعتبر شاذّة، لكنّ ذلك شأنه وحسب. لستُ بموقع يسمحُ لي بالحكم عليه، بل هذا يعودُ لخالقه وحسب. وكلّ ما أستطيع فعله هو الإستمرار بحبّه والإستمتاع بوجوده، ولو مِن بعيد، في حياتي. فالجدير بالذكر أنّ والدي لَم يتغيّر أبدًا، بل بقيَ الرّجل نفسه الذي عرفتُه وأحبَبتُه والذي يُمكنُني الإتّكال عليه. مثليّته تكمنُ في اختيار مَن يُحبّ فقط، فهكذا أشخاص يولَدون مُختلفين ويُجبَرون على الإدّعاء لارضاء المُجتمع، فيعيشون تعساء طوال حياتهم ويُتعِسون، عن غير قصد، مَن هم حولهم.

إستطعتُ أخيرًا الوصول إلى توازن نفسيّ سليم، وها أنا متزوّجة مِن شاب بمثل عمري وننتظرُ مولودنا الأوّل. زوجي على عِلم بِميول أبي، فلستُ بوارد أن أخجَلَ به يومًا.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button