لم أعرف السعادة...

حياتي سلسلة مآسٍ سببها أب غير مسؤول وأنانيّ، ودهر انقلَبَ عليّ وعلى اخوَتي وأخواتي.

كلّ شيء بدأ حين توفّيَت والدتي. كانت المسكينة قد تزوّجَت مِن أبي حين كانت في الخامسة عشرة، أو بالأحرى زوّجوها أهلها رغمًا عنها إلى رجل لم يكن يريد إلا أداة متعة ومَن يُحضّر له أكله ويُنجب له الذريّة. هل أحبَّها يومًا؟ هو يقول نعم، ولكنّني لا أعتقد ذلك، ولم يتسنَّ لي أن أسألها لأنّها غادرَتنا باكرًا جدًّا، أي عندما كنتُ في الخامسة مِن عمري تاركةً وراءها تسعة أولاد.

بكيناها كثيرًا، لأنّنا اعتقدنا كلّنا أنّ المرض لن يقوى عليها، كما قال لنا أبي آملاً أن تعود إليها عافيتها وتواصل خدمته، ولكنّها وجَدَت مكانًا أفضل بكثير: الجنّة. أقول الجنّة لأنّها كانت ملاكًا، فلم يسمعها أحد يومًا تتذمّر مِن كثرة الولادات أو العمل لإدارة أسرة كبيرة.

وبعد سنة على التمام، أخبرَنا أبي أنّه واقع في غرام صبيّة جميلة وأنّه سيتزوّجها وتصبح أمّنا الثانية. وقَعَ الخبر علينا كالصاعقة، فلم نتصوّر أن تُستبدَل أمّنا هكذا، أيّ بهذه السرعة والسهولة، ولكنّنا كنّا صغارًا لنستنكر ونعارض.

وجاءَت عايدة إلى البيت، وصُعِقنا لصغر سنّها فبالكاد كانت أكبر مِن أختنا الكبرى.

لا ألوم عايدة على معاملتها السيّئة لنا، لأنّها خافَت مِن العَيش والتعامل مع تسعة أولاد ليسوا منها، فأخَذَت موقفًا عدائيًّا منّا لتحمي نفسها مِن"القبيلة"، كما أسمَتنا. أمّا أبي، فلم يفعل شيئًا لمعالجة الموضوع، بل وقَفَ متفرّجًا وشيء واحد بباله: جسد زوجته الشابّة.

وكما حصل مع أمّي، بدأَت زوجته تنجب الولد تلو الآخر، وضاقَ البيت بنا طبعًا، وخفَّ الأكل والشرب فلم يكن لدَينا سوى معيل واحد.

 


مِن المعلوم أنّ القلّة تولّد الشجار والمناكفات، فباتَ البيت أشبه بساحة معارك بين الجميع، خاصّة في موعد الوجبات، فكان علينا الانقضاض فعليًّا على الأكل لنسبق غيرنا. مشهد محزن للغاية بقيَ محفورًا في ذاكرتي حتى اليوم.

وحين أنجَبت عايدة ثالث ولد، أي بعد ثلاث سنوات على قدومها، أخَذَها والدي إلى منطقة بعيدة وعاشَ معها ومع أولادهما هناك. مِن أين أتى بالمال لذلك؟ مِن الذي سيُوفّره بعد أن قرَّرَ قطع المصروف عنّا.

لا أظنّ أنّ الله سيُسامحه على عمل كهذا، فمَن يترك تسعة أولاد وحدهم لا يحظى ببركة خالقه.

كانت أختنا الكبرى في الرابعة عشرة، أي أنّها لم تكن قادرة على العمل، لِذا ضحَّت بنفسها مِن أجلنا وقبلَت أن تتزوّج فقط لنعيش، بعد أن اشترطَت على الرجل الذي أرادَها أن يُخصّص مبلغًا شهريًّا لنا.

قبِلَ العريس بشروط أختي، لأنّه كان في الأربعين وكان يهوى الفتَيات الصغيرات، إلى حين لم تعد تناسب ذوقه أي بعد ثلاث سنوات. عندها أعادَها إلينا مع ولدٍ أنجبَته منه.

هل أنّ الناس قبيحون إلى هذه الدرجة أم أنّنا لم نلتقِ سوى بِأبشعهم؟

وضعَت أختي ولدها معنا وذهبَت تعمل، ولحقَت بها أختي وأخي أي الأكبر سنًّا فينا. وأنا بقيتُ أربّي الباقين مع أنّني كنتُ لا أزال في الثالثة عشرة وكان العبء كبيرًا عليّ، فلم أذِق طعم الطفولة كسائر الأولاد، ولم يكن لدَيَّ ألعاب أو هوايات لأنّني كنتُ دائمًا حزينة وخائفة وجائعة. كان الغد يُشكّل تهديدًا، فلم أكن أعلم ما كان يُخبئه لي بعدما رأيتُ كلّ الويلات، ولم أعِش مراهقتي لأنّني لعبتُ دور الأمّ باكرًا جدًّا.

كان مكتوبًا لنا أن نعيش ونجتاز كلّ المحَن، ولكن بعدما كبرنا وبدأَت تستقّر حالتنا بفضل إخوَتي وأخواتي الذين كانوا يذهبون إلى العمل حين يصبحون قادرين على ذلك. وبعد سنوات، لم نعد نشعر بالجوع ولكنّنا لم نجد السعادة.

أنا بقيتُ في البيت أهتمّ به وبهم، فكنتُ قد أصبحتُ كما ذكَرتُ الأم التي افتقدوها. ولكنّني لم أجد أمًّا بديلة ولا أبًا، كنتُ انسانة جبانة وتعيسة أكتفي بالقليل وأخشى الأفظع.

لم يسأل والدنا عنّا يومًا، ولم أفهم كيف لإنسان أن ينسى تسعة أولاد هكذا، حتى لو كان ذلك بسبب امرأة، بل فَعَل ما لم نتوقّعه أبدًا: جاء بعد سنين طويلة يُطالبنا بالبيت. كان ينوي رمينا في الشارع ليسكن مكاننا مع زوجته وأولاده السّبعة.

ولكنّه لم يتوقّع أبدًا أنّنا سنقف بوجهه هكذا. كنّا قد كبرنا، خاصّة اخوَتي، واكتشَفنا حقيقة الرّجل البشعة. خافَ والدنا منّا وعادَ بسرعة مِن حيث أتى بعد أن هدَّدناه وشتَمناه.

في تلك الليلة طلَبتُ مِن الله أن يأخذني إلى حيث هي أمّي وذلك لكثرة اشمئزازي مِن حياتي. ولكنّ العليّ لم يُحقق طلَبي لأنّه كان يعلم ما سيحدث لي لاحقًا.

وقَعتُ في الغرام مرّة أو اثنتَين ولكنّني لم أرتبط رسميًّا بأحد، ربمّا لشدّة خوفي مِن حياة زوجيّة مماثلة للتي حظيَت بها والدتي، لا بل كرهتُ صنف الرجال بأسره الذين كنتُ أعتبرهم كاذبين ولا يُريدون سوى شيء واحد: الجنس.

تزوَّجَ معظم أولاد البيت، منهم مَن وجَدَ السعادة ومنهم مَن أقدَمَ على ذلك مِن كثرة التعب واليأس، وأنا بقيتُ كعادتي مكاني متذرّعة باختي الصغيرة وأخي اللذَين لم يتزوّجا.

 


تدفّقَ المال علينا لأنّ إخوتي وأخواتي كانوا يُخصّصون لنا معاشًا شهريًّا، ولكنّني لم أنعَم بهذا الرخاء، فلم أكن أخرج لألبس الفساتين ولم يكن لدَيَّ أصدقاء لأتباهى أمامهم بأيّ شيء. عشتُ فقيرة كما تعوَّدتُ. وسرعان ما غادَرَ أخي وأختي ليُؤسّسا بدورهم عائلة، ووجَدتُ نفسي لوحدي. لم أكن أمانع، فلطالما عشتُ وحيدة في رأسي وقلبي، ولم يفهم أحد اصراري على العيش هكذا.

لماذا تأثَّرتُ أكثر مِن باقي الأولاد بما جرى لنا؟ ربمّا لأنّني أكثر حساسيّة منهم، أو لأنّني كنتُ في المرتبة الوسطة أي في موقع دقيق.

ماتَ أبي عندما صِرتُ في الثلاثين مِن عمري، ولم أبكِ عليه طبعًا ولم أفرح، بل كان الخبر كأنّه لا يعنيني أبدًا. تعرَّفتُ إلى أولاده في المأتم ووجدتُهم لطفاء وحسب. أمّا عايدة فكانت تحاول استقطاب عاطفتنا بعدما كبرنا، على أمل أن نفهم موقفها منّا. وعند انتهاء مراسيم العزاء إختفوا كلّهم... إلى الأبد.

وقبل أن أعود إلى بيتنا الفارغ سمِعتُ أحدًا يُناديني باسمي. إستدَرتُ ووجَدتُ رجلاً طويل القامة يبتسم لي قائلاً:

 

ـ هذا أنا، رياض... رياض! أنسيتِني؟

 

ـ رياض... آه! جارنا القديم! ألم تغادر مع عائلتكَ للعَيش في العاصمة؟

 

ـ صحيح، منذ حوالي العشرين سنة، ولقد عُدتُ وأعيش الآن في الحيّ الموازي... لوحدي، مثلكِ.

 

ـ لوحدكَ؟ ألم تتزوّج؟ وكيف علِمتَ أنّني لوحدي؟

 

ـ تزوّجتُ وطلّقتُ.

 

ـ وترَكتَ أولادكَ المساكين... كلّكم سواء! تنجبون وترمون!

 

ـ مهلاً! لم يرزقني الله أولادًا وأدفع لطليقتي نفقة شهريّة... عرفتُ أنّكِ لوحدكِ لأنّني سألتُ عنكِ فور عودتي... لم أجرؤ على مكالمتكِ لأنّ الجميع قال لي إنّكِ عدائيّة مع الرجال، ولكنّني لم أستطع عدم إلقاء التحيّة عليكِ.

 

ـ ولِما تسأل عنّي؟

 

ـ لأنّني كنتُ... أقصد عندما كنّا صغارًا كنتُ... معجبًا بكِ وخَطَرَ ببالي... أقصد بما أنّنا...

 

ـ لا تكمل! أنا إنسانة مجروحة... خذلَني الناس وخَذَلَتني الحياة... أنا اليوم أعيش لأنّني لم أمت... هناك حزن لا يُفارق قلبي وفراغ لا يملأه شيء.

 

ـ وما أدراكِ؟

 

ـ ماذا تقصد؟

 

ـ وما أدراكِ أنّ لا أحدًا يُمكنه ملء هذا الفراغ؟ إسمعي... لم أكن سعيدًا مع زوجتي...

 

ـ أتكلّم عن تجارب قاسية جدًّا وليس عن زواج فاشل... أنتَ لا تعلم...

 

ـ بلى أعلم، فلقد عرفتُ ما جرى بكم وأنا آسف لذلك. سأزوركِ غدًا.

 

وأدارَ ظهره ومشى. لم أنَم تلك الليلة وأنا أفكّر بالطرق للتخلّص مِن رياض، فلم أكن مستعدّة للمخاطرة بفقدان الرّاحة التي وصَلتُ إليها أخيرًا. ولكن عندما فتَحتُ له الباب في اليوم التالي، ورأيتُ بسمته وكميّة الحنان الموجودة في عَينَيه، نسيتُ مخاوفي كلّها.

أنا اليوم زوجة رياض ولدَينا ولدَان، وكلّما أنظر إلى عائلتي الجميلة أرتعب لمجرّد التفكيّر بأنّني كدتُ أمّر قرب هكذا سعادة، وأشكر ربّي ألف مرّة لأنّه لم يستجب لطلباتي وأعطاني القوّة للإيمان بغدٍ أفضل.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button