لماذا رماني والداي في الميتم؟

عندما خرجتُ مِن المَيتم، كان شيء واحد يشغل بالي: إيجاد اللذَين تخلّيا عنّي وجعلاني أقضي سنينًا طويلة في مكان لا محبّة فيه ولا رحمة. فلحظة فتحتُ عَينيَّ على الدنيا، وأنا أُعرَف بـ "الفتاة اليتيمة" حتى خلتُ حقًّا أنّ والديّ فارقا الحياة وأنا طفلة رضيعة. إلا أنّ المسؤولة عن المؤسّسة، وبمحاولة منها لمحو ما فعلَته بي طوال سنوات، قالَت لي إنّني لستُ يتيمة الأبوَين بل هما رمياني لأسباب لم تعرفها... وامتلأ قلبي بالغضب وبرغبة قويّة للانتقام.

ثمّ أمّنَت المؤسّسة لي مسكنًا وعملاً بسيطًا كنادلة، وكان ذلك ما يلزمني للتحضّر للبحث عن والدَيَّ ومواجهتهما.

بدأتُ حياتي الجديدة بحماس لم يغِب عن أعيُن زملائي في المطعم، وخاصّة مديري الذي أثنى على اجتهادي وأعطاني علاوة بعد أقل مِن سنة مِن بدئي العمل. لكنّ اندفاعي هذا كان سببه نقمتي على الصنف البشريّ بأسره، ولم ألاحظ إعجاب الطاهي بي الذي كان ظاهرًا للجميع. فيوم قالت لي إحدى زميلاتي إنّ جمال مُغرَم بي، أجَبتُها بنبرة قاسية: "مَن يكون جمال هذا؟ وما دخلي أنا بغرامه لي؟ لدَيّ أولويّات أخرى، ولا يهمّني أبدًا أن أكون محطّ حب أحد... على كلّ الأحوال، لا أؤمِن بالحب بتاتًا، فالناس سيّئون وقلبهم بسواد الليل، لكنّهم يلبسون أقنعة عديدة لغشّ بعضهم البعض". ومنذ ذلك الحديث، لم يعد أحد يُكلّمني عن الطاهي أو عن أيّ أمر آخر، بل ابتعدوا عنّي لكثرة حقدي على البشريّة.

قصدتُ عنوان سكن والدَيَّ التي انتزعتُه مِن مديرة المؤسّسة. بالطبع كانا قد رحلا منذ سنين طويلة، ولم أتوقّع أبدًا أن أجدهما في ذلك الحَيّ الجميل، لكنّني نويتُ أن أسأل الجيرة عن الثنائيّ الذي أنجبَ طفلة ومِن ثمّ اختفى. قَرَعتُ أبوابًا كثيرة لكن مِن دون جدوى. وحين ظننتُ أنّني فقدتُ الأمل، خطَرَ ببالي سؤال الذين يسكنون في المكان نفسه الذي وُلدتُ فيه. للحقيقة لم أعتقد ولو للحظة أنّني سأجد ما أبحث عنه، إلا أنّني كنتُ مخطئة. فالسيّدة التي فتحَت لي الباب قالَت لي:

 

ـ بالطبع أعرفهم! فالذي تسألين عنه هو عمّي! أدخلي.

 

كانت رجلايَ ترتجفان مِن هول الصّدمة، وبالكاد استطَعتُ المشي لدخول المكان الذي أبصرتُ فيه النور. جلستُ على أريكة جميلة، بجمال باقي الأثاث، وتأكّدتُ أنّ هؤلاء الناس أثرياء.

سألَتني المرأة لماذا أبحث عن عمّها وزوجته، ولم أكن أعرف ما أقولُه لها لأنّني لم أتوقّع أن أجد أحدًا بهذا القرب لي. لِذا تمتمتُ بضع كلمات غير مفهومة ومِن ثمّ قلتُ لها:

 

ـ زوجة عمّكِ كانت صديقة المرحومة أمّي، وسمعتُها مرارًا تتكلّم عنها. وخطَرَ ببالي التعرّف إليها لتخبرني عن الأيّام التي قضَتها معها.

 


ـ أنا آسفة مِن أجل أمّكِ... وآسفة مِن أجلكِ لأنّ زوجة عمّي توفّيَت منذ خمس سنوات... بمرض خبيث.

 

ـ يا إلهي... وماذا عن زوجها؟

 

ـ لا يزال حيًّا طبعًا فهو ليس كبيرًا بالسنّ. إن شئتِ، سأعطيكِ رقمه وعنوانه، ولكن أشكّ بأنّه قادر على مساعدتكِ... فلطالما كان كثير السفر.

 

ـ سأتدبّر أمري... شكرًا. سؤال أخير: هل كان لدَيهما أولاد؟

 

ـ أنجبا طفلة لكنّها ماتَت بعد ولادتها بقليل... ولم يرغبا بالانجاب بعد ذلك، مِن كثرة حزنهما عليها.

 

خرجتُ ركضًا مِن منزل إبنة عمّي، وقصدتُ غرفتي في الشقّة التي أتقاسمها مع زميلاتي في المطعم. بكيتُ كثيرًا لأنّني توقّعتُ أن تكون قصّة والدَيَّ مأساويّة، أي أنّهما كانا فقراء أو مريضَين وفضّلا التخلّي عنّي لأحظى بحياة أفضل. وعوضًا عن ذلك، كانا مقتدرَين. وسألتُ نفسي لماذا فعلا ذلك بي ولماذا قالا للناس إنّني متُّ.

كنتُ ممسكة بالورقة الصغيرة التي كتبَت عليها المرأة المعلومات المتعلّقة بأبي، ولم أشأ إفلاتها وكأنّها مرساة نجاتي الوحيدة. هل كنتُ جاهزة لملاقاة ذلك الرجل؟ أجل، فأنا استعدَّيتُ لتلك اللحظة منذ ما أدركتُ أنّني رُميتُ ككيس قمامة أزعجَت رائحته أصحاب المنزل.

إتصَلتُ بأبي ورويتُ له قصّة إبنة صديقة زوجته، وصدّقَني ودعاني إلى منزله قائلاً إنّ كل شيء متعلّق بزوجته يستحق العناء. ومن صوته الحزين، شعرت بحسرته على ما فقد.

يا لَيته شعَرَ بنصف هذا الكمّ تجاهي!

كان أبي رجلاً وسيمًا ولكن مكسورًا. وحين نظَرَ إليَّ قال لي: "شكرًا على مجيئكِ يا آنستي... يا للصدفة! لدَيكِ عينا زوجتي... أدخلي!"

 

بدأتُ أسأله عن زوجته وكيف تعرّف إليها، واخترَعتُ تفاصيل صداقتها مع أمّي المزعومة. لكن عندما ذكرتُ له أمر ابنته المتوفّاة، تغيّرَت ملامحه كليًّا وطلَبَ منّي عدم سؤاله مجدّدًا عن الأمر. ضحكتُ بسرّي لسخرية الموقف وتابعتُ حديثي معه.

بعد حوالي الساعة وحين فرَغَ منّا الكلام، قلتُ له:

 

ـ سأقول لكَ الحقيقة الآن لأنّني لم أعد قادرة على سماع تلك الترهات... إبنتكِ لم تمت بل هي حيّة تُرزق، هل تعرف كيف أعلم ذلك؟

 

ـ لا داعٍ لهذا الكلام المجرّح... إبنتي ماتَت بعد ولادتها بأيّام قليلة... لماذا تقولين هذه الأشياء المؤلمة؟

 

ـ إسألني كيف أعلم أنّها لم تمت!

 


سَكَتَ أبي مطوّلاً وبدأت شفاهه ترتجف، وبالكاد استطاعَ قول هذه الكلمة:

 

ـ كيف؟

 

ـ لأنّني أنا ابنتكَ... إبنتك نفسها التي رمَيتَها أنتَ وزوجتكَ في مكان رهيب طوال ثماني عشرة سنة... كيف استطعتُما فعل ذلك برضيعة؟ ما الإثم الذي اقترفتُه لأستحقّ ذلك؟ أجبني!

 

ـ يا إلهي! هذا أنتِ؟ هذا أنتِ؟ صحيح... عَيناكِ، إبتسامتكِ... وكأنّني أرى حبيبتي أمامي.

 

ـ حبيبتكَ! وأنا؟ ألم أكن حبيبتكَ؟

 

ـ بلى... أحببتُكِ بكلّ جوارحي، فأنتِ جزء منّي.

 

ـ لماذا إذًا؟ لماذا؟!؟

 

ـ لماذا؟ بسبب حبيبتي، أمّكِ.

 

ـ ألم تحبّني هي؟

 

ـ لا... بل خافَت منكِ ومِن العلامة الموجودة على فخذكِ الأيسر.

 

ـ تتذكّر العلامة والجهة أيضًا لكنّكَ نسيتَني؟

 

ـ لم أنسَكِ يومًا بل تعلّمتُ العَيش مِن دونكِ... هكذا أرادَت أمّكِ.

 

وما دخل العلامة بالتخلّي عنّي؟

 

ـ كانت أمّكِ متشائمة جدًّا، وتعتقد بأمور يجدها باقي الناس سخيفة جدًّا... كانت إحدى قارئات البخت اللواتي كنَّ تتردَّدنَ إلى منزلنا، قد قالَت لها إنّ خرابها وخراب زواجنا سيأتي بِيَد مَن يحمل علامة على فخذه الأيسر.

 

ـ تقول لي بكل وقاحة إنّ أمّي رمَتني بسبب ذلك فقط؟

 

ـ للأسف.

 

ـ وأنتَ؟ قبلتَ معها بهذه البساطة؟

 

ـ للأسف... إسمعي، كانت أمّكِ هشّة جسديًّا ونفسيًّا، لكنّني كنتُ أحبّها إلى درجة لا توصف... كانت عالمي بأسره، وحين قالَت لي حين وُلدتِ إنّ علينا التخلّص منكِ وإلا قتلَت نفسها، إضطررتُ للقبول.

 

ـ لا أصدّق أذنيَّ! أنتَ رجل متعلّم ومثقّف! كيف تصدّق هكذا سخافات؟

 

ـ لم أصدّقها بل صدّقتُ أمّكِ حين قالت إنّها ستنتحر، وفضّلتُ وضعكِ في مؤسّسة على رؤية حبيبتي ميّتة. على الأقل أنتِ ما زلتِ على قَيد الحياة أمّا هي...

 

ـ لا تزال تحبّها؟!؟

 

ـ أكثر مِن أيّ وقت... المسكينة قضَت آخر أيّامها في مصحّ للأمراض العقليّة. قلنا للناس إنّها تعاني مِن مرض خطير يلزمه علاج طويل، لكنّ حياتها انتهت باكرًا... يا للخسارة!

 

نظرتُ إلى الرجل الجالس أمامي، ولم أستوعب أنّه يتأسّف على زوجة أقنعَته برمي طفلته. لم تكن أمّي وحدها المجنونة، بل كان أبي أيضًا مجنونًا... بها. ثنائيّ مريض شاء القدر أن يُرسلني إليهما لأشقى لوحدي. وفي تلك اللحظة بالذات، أدركتُ أنّ لحياتي معنىً آخر عليّ اكتشافه، إذ لا بدّ أن تكون طريقي قد رُسمَت لسبب ما.

رحلتُ مِن بيت أبي مِن دون أن أودّعه. على كلّ حال، هو لم ينتبه إلى رحيلي لكثرة غرقه في حزنه وذكرياته مع حبيبة عمره.

مشيتُ في الطريق أبكي وأضحك ممّا اكتشفتُه. ضحكتُ لأنّني أصبحتُ حرّة أخيرًا، حرّة كالطائر الذي فُتحَ له باب القفص. حرّة لأطير إلى آفاق لم أتصوّرها موجودة، بعد أن قضيتُ حياتي بين جدران المَيتم القاتمة.

أيتّها الحياة... ها أنا قادمة!

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button