لكل ماكر عقابه!

كنتُ أنتظر بفارغ الصبر موعد لقائي بغنوة، لأنّني كنتُ أجدُ الفرَح معها وسط الأزمات العديدة التي كنتُ أواجهُها. وحدها إبتسامتها المُشرقة كانت قادرة على تزويدي بالتفاؤل اللازم للمثابرة. فالحقيقة أنّ تلك الصبيّة كانت تحبُّني لشخصي وتتمتّع بقناعة لَم أرَ مثيلاً لها. أحبَّتني فقيرًا واكتفَت بالقليل لمجرّد التواجد معي. لِذا أقسمتُ بأن أفعَلَ المستحيل لإسعادها وتأمين حياة كريمة لها.

لَم تكن غنوة جميلة بالمفهوم التقليديّ بل إنسانة ذات ملامح عاديّة وقوام مُعتدل، وكنتُ سعيدًا بذلك إذ أنّني لَن أضطرّ يومًا لِحَجب المُعجبين عنها كما قد يحصل مع فتاة جميلة وجذابّة. على كلّ الأحوال، هي كانت عاقلة وهادئة وتعلم ما ومَن تُريد.

بقيتُ على العهد الذي قطعتُه، أيّ إجتهدتُ بدراستي الجامعيّة وبالعمَل حتى لو أرهقَني ذلك، وتحسّنَت أحوالي بعض الشيء وصرتُ أرى ضوءًا في آخر النفَق. فما مِن أحد يُحبّ العَيش في القلّة وعدَم الإستمتاع بما تُقدمه لنا الحياة، وكنتُ مُصرًا على أن تنعَم غنوة ولاحقًا أولادنا بحياة جميلة ومُريحة. فلقد أبقَيتُ عمدًا في بالي أيّام صغري حين كنتُ أنام جائعًا، وأحلمُ بأنّني جالسٌ على مائدة مليئة بالأطعمة الشهيّة لأستفيق وسط الليل على أصوات بطني الفارغ؛ وكان عليَّ أيضًا أن أُحقّق أمنية أمّي العزيزة بأنّ أبنيَ لنفسي مُستقبلاً أفضل بمجهودي الخاص.

وفجأة فتحَ لي القدر ذراعَيه بسفرة إلى بلد عربيّ شقيق غنيّ بالفرَص والآمال، فودّعتُ أهلي وحبيبتي واعدًا إيّاهم بالا أخذلهم أبدًا. عملتُ هناك ليلاً نهارًا مِن دون أن أشعر بالتعَب لكثرة حماسي، فلَم يكن مِن الوارد أبدًا أن أُضيّعَ هكذا فرصة وصفتُها بالذهبيّة!

بقيتُ على تواصل مع ذويّ وخاصّةً غنوة التي لَم تنفكّ عن تشجيعي وتزويدي بجرعات أمل كنتُ بحاجة إليها للمواصلة، وصرنا قادرَين على التحدّث جدّيًّا بالزواج والإنجاب. حلمُنا كان أن يأتي يومٌ ونعيش تحت سقف واحد، لنستيقظ في الصباح ونرى بالقرب منّا وجه الآخر.

بعد حوالي السنة زرتُ البلد مُحمَّلاً بالهدايا للجميع ولحبيبتي بخاتم خطبة لَم أتصوّر يومًا أنّني قادر على شرائه. فراتبي، الذي كنتُ أتقاسمه مع أهلي، كان يُخوّلُني شراء الأشياء الجميلة، على الأقل بمنظور شخص كان فقيرًا. إلا أنّني كنتُ واثقًا مِن أنّني سأتقدّمُ في عمَلي لشدّة إجتهادي وأنضمُّ أخيرًا إلى قائمة الناس المُرتاحين الذين لا يخافون مِن الغد.

خطبتُ غنوة رسميًّا وعدتُ أدراجي وقلبي مليء بالفرَح، بعدما ارتاح بالي وحصلتُ مِن خطيبتي على قبلتي الأولى.

بدأَت غنوة بالتغيّر بعد الخطوبة مُباشرةً، فهي طلبَت منّي أن أُدَبّر لأخيها وظيفة في البلد الذي أنا فيه. لَم أجد في الأمر شيئًا غريبًا فهم أيضًا مِن ذوي الدخل المحدود إلا أنّ مقوّمات أخيها لَم تكن مطلوبة، فلاقَيتُ مِن جانب خطيبتي إمتعاضًا وصفتُه بالمُبالَغ به، وعملتُ على إرضائها حتى تُسمعَني عبر الهاتف كلمات لطيفة مِن جديد.

مرَّت ستّة أشهر وحان موعد زيارتي الثانية للبلد وفرِحَت غنوة للغاية لِفكرة رؤيتي مُجدّدًا. لكنّها أوصَتني بِجلب معي الحلى الذهبيّة لها ولأمّها. كنتُ سأفعل مِن دون أن تقول شيئًا لكن ليس لأمّها، فاستغربتُ الأمر وهي أجابَت:

 


ـ إنّها أمّي! ولقد تعِبَت مِن أجل تربيتي، ألا يحقُّ لها أن تُكافأ؟!؟

 

ـ أفهَم ذلك حبيبتي لكن...

 

ـ لكن ماذا؟ لَم أعهدكَ بخيلاً أم أنّكَ ادّعَيت الكرَم حين جئتَ في المرّة السابقة؟

 

ـ لستُ بخيلاً لكنّني أعملُ ليلاً نهارًا لأتمكّن مِن الزواج منكِ. وعليّ الإهتمام بأهلي أيضًا.

 

ـ أمّي هي بمثابة أمّكَ!

 

ـ لكنّني لن آتي لأمّي بالذهب بل بالهدايا. أنا آسف يا غنوة، لن أجلِب الحلى سوى لكِ.

 

إنقطعَت إتصالات غنوة وبالكاد أجابَت على هاتفها في المدّة التي سبقَت عودتي، وقرّرتُ إصلاح الأمور بشراء أقراط صغيرة لأمّها، فخطيبتي كانت الوقود الذي يُشعلُ حماسي على العمَل بعيدًا عن بلدي. وعندما رأَت غنوة الأقراط، نظرَت إليّ باحتقار لن أنساه وقالَت:

 

ـ هذه ليست لسيّدة ناضجة بل لفتاة صغيرة أو مولودة جديدة. ماذا تحسبُنا؟

 

ورمَت العلبة بوجهي فامتلأَت عينايَ بالدموع مِن شدّة خجلي، خاصّة أنّ أهل خطيبتي كانوا موجودين حولنا. أخذتُ العلبة وتمتمتُ بضع كلمات ثمّ عدتُ إلى البيت. بكيتُ في الطريق لانّني لَم أعُد أعرف أين ذهَبَ حبّ غنوة لي وقناعتها، وسألتُ نفسي إن كنتُ قد أخطأتُ بالإختيار أم أنّ البُعد أثَّرَ على أعصاب حبيبتي. كان يجدرُ بي طبعًا فسخ خطوبتي واستدراك الأمور قبل تفاقمها، إلا أنّ غنوة كانت حبّي الأوّل.

قضيتُ بضع أيّام في البلد رأيتُ خطيبتي خلالها مرّات قليلة، وحاولتُ استعادة حبّها لي لكنّني اصطدمتُ بنظراتها الغاضبة. عدتُ إلى العمل والحزن يُثقلُ قلبي.

فكّرتُ مليًّا بالذي حدَث فاستنتجتُ أنّ عليّ الزواج مِن حبيبتي في أقرَب فرصة كي يرتاح بالها، فهي حتمًا قلقة ومهمومة لإمكاني التعرّف إلي غيرها خلال مكوثي في الغربة ونسيانها. طبعًا ذلك لَم يكن واردًا إلا أنّها لَم تكن تعلَم ذلك. لِذا أخبرتُ خطيبتي عمّا يجولُ في بالي وهي أجابَت:

 

ـ حسنًا... إبعَث لي النقود لأشتري فستان العرس وكلّ ما يلزم.

 

فاجأتني برودتها إذ توقعتُ منها أن تصرخ مِن الفرَح وتُسمعَني كلمات حبّ. سكتُّ عن الأمر وأرسلتُ لها ما تُريدُه. ومنذ ذلك اليوم بدأَت تتالى الطلبات وتأجيلات موعد العرس تحت ذرائع مُختلفة في كلّ مرّة. أخذتُ قرضًا مِن العمل على راتبي لأنّ غنوة أرادَت الأفضل، ناسيةً أنّني لَم أصِر غنيًّا بل لا أزالُ موظّفًا عاديًّا. هل تصرّفاتها كانت نابعة مِن نيّة تعزيز صورة نجاحي للناس... أم فقط أنّ نَفس خطيبي كانت جائعة ولا يُشبعُها شيء؟ عدتُ وتذكّرتُ كيف أنّ غنوة كانت تحبُّني حين كنتُ لا أملكُ شيئًا فاطمأنَّ قلبي مِن جديد.

قبل موعد ذهابي إلى البلد بأيّام معدودة إتصَلَ بي أبي قائلاً:

 

ـ عليكَ البقاء حيث أنتَ يا بنيّ.

 

ـ لماذا؟ ما الأمر؟!؟ أنتَ تعلَم أنّني ذاهب لأتزوّج ولا يجوزُ تأجيل حدَث كهذا.

 


ـ أقول لكَ إنّ عليكَ البقاء حيث أنتَ.

 

ـ يا إلهي... هل حدَث مكروه لأحد منكم؟ أو لغنوة؟!؟

 

ـ بل العكس... لقد تزوّجَت غنوة مِن غيرك.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ لقد سمعتَني جيّدًا.

 

ـ إن كانت هذه دعابة فَ...

 

ـ سأتّصلُ بكَ غدًا. أنا آسف.

 

أقفلَ والدي الخط قبل أن أسمعَ غصّاته، فأسرعتُ طبعًا بالتكلّم مع غنوة إلا أنّ جوّالها كان مُقفلاً. إتصلتُ بأهلها وأجابَت أمّها. فقالَت:

ـ غنوة مشغولة بعض الشيء.

 

ـ سمعتُ خبرًا... هل صحيح أنّها... أعني... قيل لي إنّها تزوّجَت.

 

ـ أجل... ذلك صحيح... أنصحُكَ بعدَم الإتصال مُجدّدًا. لَم تكن إبنتي مِن نصيبكَ.

 

ـ لَم تكن مِن نصيبي؟!؟ بلى! بلى!

 

أقفلَت المرأة الخط بوجهي فبدأتُ بالبكاء. لَم أنتظر مُكالمة مِن أبي بل أخذتُ أوّل طائرة إلى البلد، ورحتُ إلى اهلي لأستفسر عمّا جرى. قالَت لي أمّي:

 

ـ تفاجأنا جميعًا بالخبَر... أنا آسفة فكلّنا نعلَم كم أنّكَ تحبُّها... علِمنا أنّها كانت على علاقة مع أحد.

 

ـ على علاقة؟ مستحيل! متى وكيف وبِمَن؟

 

ـ على ما يبدو هي كانت تراك وترى شابًّا آخر في الوقت نفسه، وهذا منذ البدء.

 

ـ منذ البدء؟ هي ليست حتى جميلة!

 

ـ يا بنيّ... الفتيات الجميلات لسنَ بحاجة إلى المكر والتمثيل فباستطاعتهنّ الحصول على ألف شاب.

 

ـ لكنّني سافرتُ مِن أجلها وجلبتُ لها ما أرادَته وكنّا سنتزوّج! لماذا اختارَته هو عليّ؟!؟

 

ـ عليكَ أن تسألُها هي.

 

ـ لكنّها لا تُجيب!

 

ـ هي في شهر عسلها.

 

ـ الذي دفعتُ أنا مصاريفه! يا إلهي! كيف حدثَ ذلك وماذا سأفعلُ بنفسي؟

 

ـ هكذا أمور تحصل يا بنيّ... الحياة صعبة وأليمة... لكن أنظر إلى الجانب الإيجابيّ.

 

ـ أيّ جانب إيجابيّ؟!؟

 

ـ لقد سافَرتَ إلى الخارج ولدَيكَ وظيفة جيّدة وراتب جيّد. لولا غنوة لمَا سافَرتَ. ولا تنسَ أنّكَ علِمتَ بحقيقة خطيبتكَ قبل أن تصير زوجتكَ. فتصوّر لو تزوّجتَها وأنجبتَ منها وهي بقيَت على علاقة بالشاب الآخر.

 

ـ صحيح ذلك يا أمّي.

 

ـ نشِّف دموعكَ يا بنيّ واحمد ربّكَ فهو أدرى بمصلحتنا.

 

ـ لكنّني أحبُّها يا أمّي!!!

 

ـ ستنساها وستحبّ مجدّدًا، لكنّكَ ستعرف حينها كيف تختار وستؤلّف عائلة جميلة وتعيش سعيدًا. سترى، فالأمّهات دائمًا على حقّ.

 

بالفعل أنّ أمّي كانت على حقّ وحدَثَ كلّ ما تنبّأَت به لي.

ماذا حدَثَ لغنوة؟ صرَف زوجها كلّ المال والحلى التي أعطَيتُها إيّاها على المَيسر وعادَت خطيبتي السابقة إلى الفقر هي وزوجها وابنهما. لقد طمِعَت بي واستغلَّت حبّي لها واختارَت غيري... وهذا كان عقابها!

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button