لقد سامحتك يا حبيبي

كان قد مضى على زواجنا عشرون سنة ولَم ننجب. ونحن لَم نحاول حتى جلب طفل إلى الدنيا بسبب حالتي الصّحيّة التي ساءَت بعد أشهر مِن الزفاف. فلقد ورثتُ مِن عائلتي مرضًا صعبًا ومؤلمًا لا يظهر إلا عند بلوغ سنّ الرشد، ولا يُصيبُ سوى ولد مِن أربعة. وكنتُ أنا التي حمَلَت ذلك الإرث البشع مِن دون أن أعرف، لأنّ الأطبّاء أكّدوا لي مرارًا أنّ لا خطَبَ بي ويُمكنني خوض حياة طبيعيّة.

وعندما بدأَت تظهر عليّ العوارض، علِمتُ أنّ القدر اختارَني لأعيش وأموت مثل جدّتي. أرعَبني الأمر إلى أقصى درجة، فلقد شاهدتُ كيف عانَت تلك المرأة لسنين طويلة، وكيف ارتاحَ قلبها عندما قيل لها إنّ أيّامها باتَت معدودة، فصارَ الموت بالنسبة لها خلاصها الوحيد. بالطبع عرضتُ على جلال زوجي أن يتركني بعدما شرحتُ له ما ينتظرُه معي، إلا أنّه أصرّ على مواكبتي، وأكَّدَ لي أنّ الطبّ تقدّمَ كثيرًا وأنّ حالتي لن تكون شبيهة بحالة جدّتي. لكنّه كان مُخطئًا بالرغم مِن أنّه فَعَل حقًّا المستحيل لإراحتي نفسيًّا وعاطفيًّا وجسديًّا.

قرار عدم الإنجاب جاءَ منّي، فكيف لي أن أمرّر مرضي لأعزّ مخلوق لديّ؟ قَبِل جلال بهذا القرار على مضض، فهو كان يحلم بأن يبني عائلة معي.

وصار المشفى بيتي الثاني، وبات الأطبّاء والممّرضات عائلتي، فزياراتي لذلك المكان الذي أصبحتُ أمقتُه، كانت لا تُحصى. لذلك انتقلنا للعَيش بالقرب منه وغيّرَ زوجي عمله للسّبب نفسه.

والذي كان يؤلمني أكثر مِن أيّ شيء، كان المنحى الذي أخَذَته حياة زوجي الذي لَم يرَ يومًا هنيئًا معي، بالرّغم مِن ادّعائه بأنّه ليس تعيسًا أبدًا. لكنّني كنتُ أعلم أنّ لا أحد يُمكنُه تحمّل العَيش بهكذا طريقة. فإلى جانب عدم إنجابنا، سرعان ما صرتُ غير قادرة على القيام بواجباتي الزوجيّة مهما كانت. وبالرّغم مِن ذلك، بقيَ جلال إلى جانبي يُشجّعُني ويهتمّ بي ويُحبّني. إلا أنّ هذا الحبّ كان يُؤلمني ويزيد مِن تعَبي.

 


إستغرَبَ جميع مِن حولي كيف لزوج أن يتحمّل هذا الكمّ مِن العذاب، فمِن المعروف عامّة أنّ المرأة هي التي تضحّي مِن أجل زوجها وليس العكس. لكن كان مِن الواضح أنّ جلال هو مِن القلائل.

مرّت السنوات ببشاعة، ولا أذكر كَم مِن مرّة تمنَّيتُ أن أموت ليس فقط لأرتاح مِن أوجاعي، بل لأعطي زوجي حرّيته ليعيش حياة طبيعيّة. إلا أنّ الله لم يشأ أن أموت، وبقيتُ أشكّل لجلال وعائلتي عبئًا ثقيلاً.

وبعد عشرين سنة... مات جلال بحادث سَير. لن أستطيع وصف شعوري آنذاك، فقد كان مزيجًا مِن الحزن والغضب. إذ كيف لإنسان يتمتّع بصحّة ممتازة أن يرحل قبل مريضة مثلي؟ أين العدالة في ذلك؟ بكيتُ كثيرًا، ودخلتُ قسم الطوارئ لشدّة حزني، واستسلمتُ للموت على أمل أن ألحَق بالذي أعطاني أجمل أيّام عمره.

وبالطبع لَم أمت فأنا الآن أسردُ لكم قصّتي! واضطرِرتُ للقبول بمشيئة الله. لكن بعد مراسم دفن جلال، بدأت تصل إلى مسمعي الكثير مِن القصص المُختلقة عن زوجي، ومعظمها شنيعة جدًّا. لَم أعِر أهميّة لتلك الثرثرة وأسفتُ أن تُشوَّه هكذا سمعة رجل عظيم. ووسط ألَمي الشديد، جاءَت تزورُني إحدى جاراتنا، وقالَت لي بكلّ وقاحة:

 

ـ لا تأسفي على زوجكِ يا عزيزتي، فهو لَم يكن أفضل مِن سواه مِن الرجال... صحيح أنّه بقيَ إلى جانبكِ طوال كلّ ذلك الوقت، إلا أنّه أسَّسَ لنفسه عائلة.

 

ـ ما هذا الكلام؟ ألا تخجلين مِن نفسكِ؟

 

ـ لستُ مَن عليها أن تخجل مِن نفسها، بل جلال، رحمه الله.

 

ـ أصمتي! إيّاكَ أن تتكلّمي بالسّؤ عنه!

 

ـ كَم أنّكِ بريئة! ماذا لو قلتُ لكِ إنّني أعرف إسم زوجته وعنوانها ؟

 

ـ أنتِ كاذبة وليس في قلبكِ رحمة! الرجل مات وأنا مريضة، كيف لكِ أن تخترعي هذه القصّة وترويها لي وأنا بهكذا حال؟!؟

 

ـ لا أريدُكِ أن... أن ترحلي يومًا وأنتِ تجهلين الحقيقة.

 

ـ وتتكلّمين عن موتي أيضًا؟ أيّة إنسانة أنتِ؟

 

ـ سنموت جميعًا! لا تغيّري الموضوع الآن. سأعطيكِ كلّ التفاصيل لأنّني أحبّكِ.

 

ـ بل لأنّكِ تحبّين الثرثرة وتدمير حياة الناس!

 

وأعطَتني عنوة إسم الزوجة المزعومة لجلال، ولم ترحل إلا بعد أن طردتُها مِن بيتي. لكنّني تفاجأتُ بإسم المرأة التي يُقال إنّها أخَذَت مكاني لأنّني كنتُ أعرفُها، فهي إحدى ممرّضات المشفى وكانت قد اهتمَّت بي مرارًا، ومِن جرّاء ذلك، وُلِدَت بيننا مودّة قويّة. هل يُعقَل أن تكون جارتي على حقّ؟ فكيف لها أن تعرف إسم الممرّضة وعنوانها، فهي لَم تزرني يومًا في المشفى.

حاولتُ نسيّان هذه المعلومة إلا أنّني لَم أستطع، فالموضوع كان خطيرًا للغاية، فهو يعني أنّ جلال كاذب وخبيث وخائن. وكي أعرف الحقيقة، قصدتُ المشفى مدّعية بتعرّضي لنوبة جديدة. كان لا بدّ أن أقابل منافستي.

فور وصولي غرفتي في المشفى، جاءَت الممرّضة لاستقبالي وللاطمئنان عليّ. إبتسَمتُ لها رغمًا عنّي وتبادلنا بعض الأحاديث. لَم أكن أعلم مِن أين أبدأ، فلو كانت تلك المرأة بريئة، ستغضب منّي للغاية أو تسخر منّي.

 


لكنّها فتحَت موضوع موت جلال مُعربة أسفها الشديد لِما حصل له:

 

ـ كان زوجكِ إنسانًا عظيمًا... لقد شاهدتُه لمدّة عشرين سنة وهو يُواكبكِ مِن دون ملل إلى هنا ويبقى معكِ ممسكًا بيدكِ.

 

ـ صحيح ذلك... رجل عظيم. أيّ رجل آخر كان قد راحَ يتزوّج ويُنجب.

 

عند قولي ذلك، إصفرّ وجه الممرّضة. لكنّني تابَعتُ:

 

ـ ولو فعَلَ ذلك، لاعتبرَتُه رجلاً خبيثًا وكاذبًا ولذهَبَ ما فعَلَه مِن أجلي سدىً.

 

ـ لا تقولي ذلك! كان يُحبّكِ للغاية. لَم أرَ رجلاً يُحبّ زوجته بهذه القوّة.

 

ـ مَن يُحبّ لا يغدر.

 

ـ قد تكون عند بعض الرجال رغبة بالإنجاب قويّة جدًّا، فمِن المؤسف أن يتركوا هذه الدنيا مِن دون ورثة ومَن يحمل اسمهم.

 

ـ سأكون بغاية الصراحة معكِ وأسألُكِ... هل تزوّجكِ جلال حقًّا وأنجَبَ منكِ؟

 

حاولَت الممرّضة ترك الغرفة لتفادي الإجابة، إلا أنّني صرختُ بها:

 

ـ لن أتركُكِ بسلام إلى أن تُجيبي. سأعود إلى هنا وسأعاود سؤالكِ. على كلّ حال، مِن واجبكِ إخباري الحقيقة، فأنتِ تعلمين حالتي أكثر مِن أيّ أحد.

 

ـ أحيانًا مِن الأفضل ألا نعرف ما قد يُؤثّر في نظرتنا للأمور والناس. زوجكِ كان يُحبّكِ كثيرًا وهذا ما يهمّ.

 

ـ لكنّه ليس بكافٍ. أريدُ معرفة الحقيقة. لا أريدُ أن أموت والشك يسكنُ عقلي وقلبي. أرجوكِ... أرجوكِ.

 

أخَذَت الممرّضة كرسيًّا وجلسَت عليه بالقرب منّي. سكَتت لثوانٍ طويلة ثمّ قالَت:

 

ـ لَم آخذ زوجكِ منكِ وهو لَم يكفّ عن حبّكِ. آنذاك كنتُ أريدُ أولادًا وهو أيضًا. فحياتي كما ترَين لا تسمح لي بالخروج والتعرّف إلى رجال، والذين أصادفُهم هنا هم إمّا أطبّاء لا يُريدون سوى اللهو معنا أو مرضى بالكاد يستطيعون الكلام أو المشي. وفي إحدى المرّات، أخذتُ أتكلّم مع جلال عن المرض والحياة والموت. ووجدنا أنّ بيننا قواسم مشتركة في ما يخصّ هذه المواضيع. ومرّة تلو الأخرى، صرنا نجلس سويًّا ونتكلّم أكثر. أنا لَم أحبُّه بل حصلتُ منه على أغلى ما عندي اليوم: ولَدي. صحيح أنّنا اضطررنا للتقرّب جسديًّا كي أنجب، إلا أنّها كانت مسألة خالية مِن أيّة عاطفة. قد يكون صعبًا عليكِ استيعاب ما أقولُه، لكنّها الحقيقة. أبقَينا زواجنا سرًّا طبعًا، وصارَ جلال يزورُني فقط ليجلس مع إبنه ويُداعبه ويجلب له ما يحتاجه، فراتبي لَم يكن كافيًا للإهتمام برضيع. وكبر إبني وهو يُحبّ أباه ويحترمُه، وتقبَّلَ غياباته بعدما قلتُ له إنّ جلال إنسان مشغول جدًّا ويُسافر كثيرًا. ولقد عوّضتُ لابني هذا النقص بإعطائه الحنان الكافي. هل كنتُ أفضّل أن يكون لي زوج محبّ وموجود معي طوال الوقت؟ أجل. لكنّني قبلتُ بما حصل لي ولم أتذمّر. إسمعي، جلال لَم يُحبّ سواكِ، فأنتِ سكَنتِ قلبه وعقله منذ أوّل نظرة. هل أخطأ بالزواج منّي؟ لا أدري. وأقسمُ لكِ أنّني ردّدتُ مرارًا أنّني أتمنّى لو أحبّني أحد هكذا. كلانا خسرنا جلال، لكن إبني هو أكبر الخاسرين لأنّه لَم يعرفه جيّدًا ولن يتسنّى له ذلك بعد اليوم. أعلم أنّ حديثي سيقلب عالمكِ تمامًا، لكن فكّري بالأوقات التي قضَيتِها مع جلال، وكيف أنّه أعطاكِ القوّة لتستمرّي وتحاربي المرَض. هو ليس خبيثًا ولا كاذبًا، بل رجل أعطى حبّه وحياته لامرأة، وذريّته لأخرى. لو خُيِّرتِ، ماذا كنتُ ستختارين؟

 

ـ الحبّ طبعًا.

 

ـ أحسنتِ، فلا شيء يُضاهي الحب. سأتركُكِ الآن، وإن شئتِ سأقول لممرّضة أخرى أن تهتمّ بكِ بدلاً منّي.

 

ـ مهلاً! أريدُ رؤية ابنكِ... إبن جلال.

 

فكّرَت الممرضّة بطلَبي لأيّام طويلة قبل أن تجلب لي ابنها المراهق إلى البيت. ولحظة دخوله، خلتُ حقًّا أنّني أرى جلال أمام عَينَيّ لكثرة التشابه بينهما. طلبتُ منه الأذن بمعانقته وتحرّك شيء في قلبي حين اقترَب منّي. لبرهة شعرتُ أنّه إبني وامتلأت عينايَ بالدموع. نظرتُ إلى الممرّضة بامتنان وابتسَمتُ لها، فقد أعطَتني أجمل الهدايا وأثمَنها: أثر زوجي المتوفّي.

بقيَ إبن جلال يزورُني باستمرار وكنتُ أنتظرُ قدومه على أحرّ مِن الجمر. لَم يعرف الصبيّ مَن أكون، فلا حاجة لذلك. إكتفَيتُ بالقول إنّ والده هو ابن عمّي وإنّنا كنّا قريبَين جدًّا مِن بعضنا.

أنا اليوم في المرحلة الأخيرة مِن حياتي، وأنتظرُ بفارغ الصّبر أن ألحق بجلال، على أمل أن يجمعُنا الله مجدّدًا. وحين أصبحُ برفقته، سأقولُ له كَم أنا سعيدة لأنّه ترَكَ لي خلال سنتَين كاملتَين قطعة مِن ذاته... وسأقولُ له مُبتسمة: لقد سامحتُك يا حبيبي.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button