لغزٌ حيّرَني

منذ صغري وأنا أهوى الكتب والقراءة. ففي حين كان أولاد جيلي يلعبون في الحدائق أو في شارعهم، كنتُ أفضّلُ البقاء في البيت للإختلاء مع "أصدقائي"، أيّ كتبي. فلحظة ما أبدأ بتصفّح تلك المجلّدات، كنتُ أدخلُ عالمًا بعيدًا عن الذي أعيشُ فيه. فالجدير بالذكر أنّ أجواء البيت كانت صعبة للغاية، بسبب الخلافات العديدة التي حوّلَت والدَيَّ إلى أعداء. وكان نهاري مليئًا بالصراخ والعتاب والمكائد للإيقاع بالآخر، لِذا كنتُ ألجأ إلى غرفتي وأُقفلُ الباب خلفي، وأغوصُ في مغامرات أبطال أقوياء يُجيدون إصلاح العالم ومشاكل الناس.

وعندما صرتُ شابًّا، تغيّر نوع قراءاتي ليُصبح أكثر جدّيّة، ويشمل مواضيع مُختلفة. وصارَت لدَيَّ معرفة واسعة تفوقُ بأشواط التي يملكُها أبناء سنّي. وهذا الأمر بالذات خلقَ فجوة بيني وبينهم، فمِن جانبي لَم أجِد ما أقوله لهم، ومِن جانبهم بدأوا يهابوني وينقمون على الذي أسموه "الموسوعة البشريّة". فالناس عادةً لا يُحبّون مَن يُشعرهم بنقص ما.

وهكذا كبرتُ وحيدًا، لكنّ الأمر لَم يُزعجني بل أشعَرَني بالأمان. حياتي العاطفيّة كانت طبعًا معدومة، ووصَلَ الأمر بوالدَيَّ إلى الإعتقاد بأنّني لا أهوى الجنس اللطيف بل الرجال. حاولتُ أن أشرَحَ لهما أنّ قلبي لَم يدقّ بعد وأنّ ذلك قد يحصلُ يومًا، إلا أنّهما ألصقا بي صفة "الشاذ" على الأقل ضمنًا، فكنتُ أرى ذلك في نظراتهما لي المليئة بالتساؤلات والإستنكار وأحيانًا الإشمئزاز.

لِذا، حين بدأتُ حياتي العمليّة، فضّلتُ الإنتقال للعيش لوحدي حتى لو كان ذلك سيُكلّفُني راتبي بأكمله. وعندما قلّ مدخولي بشكل مقلق، فتّشتُ عن عمل ثانٍ ووجدتُ سعادتي في المكتبة الوطنيّة أشغلُ فيها منصب "حافظ المكتبة الليليّ". فكان الكثير مِن الطلبة والباحثون يأتون ليلاً لتصفّح الكتب والمراجع، وأنا كنتُ أساعدُهم على إيجاد مرادهم... وكَم كنتُ سعيدًا!

بقيَت علاقتي بوالديَّ فاترة لا بل باردة، فهما لَم يُحاولا تغيير رأيهما بي إلا إذا أتى يوم وتزوّجتُ فيه.

 


كنتُ قد بدأتُ العمل في المكتبة منذ بضعة أشهر، حين لاحظتُ شيئًا غريبًا يجري خلال مناوبتي. فكان مِن ضمن مهّماتي التأكّد مِن أنّ الكتب عادَت إلى مكانها وأنّها مصفوفة بالتراتبيّة، إلا أنّني اكتشفتُ ذات ليلة كتابًا ليس في مكانه، بالرغم مِن أنّني مرَرتُ في ذلك الصفّ بالذات وكان كلّ شيء في مكانه. والغريب في الأمر هو أنّ المكتبة كانت قد أقفَلت أبوابها ولَم يكن هناك أحد سوايَ. ردَدتُ الأمر إلى خطأ مِن قِبَلي ونسيتُ الموضوع... إلى أن حصَلَ الأمر نفسه بعد أيّام قليلة. هل فقدتُ عقلي أم أنّ عَينيَّ تلعب أدوار عليّ؟ ردَدتُ الكتاب إلى مكانه، وتحقّقتُ مِن أنّه ليس نفسه الذي رأيتُه المرّة السابقة بل ينتمي إلى المجموعة ذاتها. مِن بعد ذلك، وعدتُ نفسي أن أُبقي عينًا على هذا القسم ومَن يختار كتبه منه.

وبدأَت ما أسَميُها "لعبة الفأر والقطّ" التي استمرَّت حوالي الثلاثة أسابيع كنتُ سأجنُّ خلالها، إلى أن أمسَكتُ بالفاعل... أو بالأحرى الفاعلة. ولأصل إلى تلك النتيجة، إستعَنتُ بأحد الطلاب، فطلبتُ منه المكوث مكاني في نهاية الدّوام بينما ذهبتُ أختبئ في آخر المكتبة وراء كومة كتب كانت قد وصلَتنا ولَم يتسنّ لي بعد وضعها على الرفوف. حينها، رأيتُ صبيّة حسناء تمشي على رؤوس أصابعها حاملة كتابًا بيدها. تلفَّتَت يمينًا وشمالاً ومِن ثمّ وضعَت الكتاب مكانه، وأخذَت آخرًا لتذهب به إلى مكان لا يراها فيه أحدٌ. بقيتُ حيث أنا لدقائق طويلة، ومِن ثمّ تسلَّلتُ وراءها صارخًا: "لقد كُشِفَ أمركِ!". إرتعبَت المسكينة ووضعَت يدها على قلبها وهي ترتجف مِن الخوف. شعرتُ بالخزيّ إلا أنّني عدتُ ونظرتُ إليها بغضب سائلاً:

 

ـ ما الذي تفعلينَه هنا في هذا الوقت؟ ولماذا هذا التسلل الليليّ؟ على الأقل أعيدي الكتب إلى مكانها الصحيح!

 

ـ أنا آسفة سيّدي... آسفة. لَم أقصد الإزعاج لكن...

 

ـ لكن ماذا؟ تعالي في النهار أو في الأمسية واقرئي ما تشائين مِن الكتب، ففي آخر المطاف هذه مكتبة وهي مُخصّصة لهذا الغرض بالذات. لماذا إذاً هذا التستّر؟

 

ـ لدَيّ أسبابي الخاصّة يا سيّدي ولا أظنّ أنّكَ ستفهمُها.

 

ـ جرّبيني، فقد أفهمُها جيّدًا.

 

وفجأة إمتلأت عيناي الصبيّة بالدموع، وخفتُ أن أكون قد قسوتُ عليها إلا أنّها كانت تبكي مِن جرَّاء ما يحصلُ لها. فهذا ما قالَته لي:

 

ـ وُلِدتُ لعائلة ترفضُ العلم وتختبئ في الجهل ربمّا لتبرير كلّ ما يُمكنُهم اقترافه... كلّهم هكذا... إلا أنا، الأمر الذي خلَقَ لي متاعب عديدة لأنّهم خالوا أنّني أتشاوف عليهم و...

 

ـ وصاروا يُحاربونكِ أو يبتعدون عنكِ... أعلمُ ذلك، فالشيء نفسه حَصَلَ لي. تابعي مِن فضلكِ.

 

ـ أين كنتُ وصلتُ؟ آه... فحين طلبتُ بأن أُكملَ دراستي، أي دخول الجامعة، أسرعوا بمحاولة تزويجي. إلا أنّني استعملتُ حيلاً عديدة لإفزاع العرسان إلى حين يئسَ أهلي منّي وباتوا يعتقدون أنّني إمّا أُعاني مِن خطب أو أنّني ملعونة، وتراجعوا عن فكرة تزويجي.

 

ـ لكن ما الذي تفعلينَه في المكتبة ليلاً؟!؟

 

ـ إصبر قليلاً! خلتُكَ تحبّ التشويق، فأنتَ تقضي ساعات طويلة بين الروايات.

 

ـ أنا مُغرَم بالتشويق حقًّا، إلا أنّها أوّل مرّة أعيشُه في الحقيقة، حتى أيّام قليلة كنتُ أعتقدُه موجودًا فقط في القصص وعلى صفحات الكتب.

 


ـ يا لَيتكَ...

 

ـ يا لَيتني ماذا؟

 

ـ لاشيء، لاشيء.

 

ـ يا لَيتني أدعُكِ وشأنكِ وأختفي مِن حياتكِ؟

 

ـ بالعكس! أعني... أنتَ قد تكون الوحيد الذي يفهمُني، فالذي يجمعُنا هو حبّ القراءة والمعرفة.

 

ـ لَم تُجيبي بعد عن سؤالي... ما الذي أتى بكِ إلى هنا وبهذه الطريقة؟

 

ـ لقد تسجّلتُ سرًّا في الجامعة، ولا أستطيع دائمًا إختراع الحجج لحضور الحصص، لذلك آخذها مِن زميلة لي. هي تخبّئها في هذا القسم مِن المكتبة بالذات، بين صفحات الكتب. وأنا آتي لأخذها وأدرسها.

 

ـ لماذا لا تُسلّمُها لكِ يدًا بيَد أو خلال النهار؟

 

ـ أهلي يُراقبوني طوال الوقت. كنتُ آتي نهارًا إلى هنا، إلا أنّ المسؤول عن المكتبة هو قريب لنا وقد أخبَرَ أهلي بأنّني آتي يوميًّا، لِذا صِرتُ أفضّلُ المجيء ليلاً.

 

ـ آه... الآن فهمتُ. أريني ما تدرسين ولا داعٍ بعد اليوم للإختباء. فسأؤمّنُ لكِ الظروف المناسبة للدرس ولن أخبر أحدًا!

 

ضحِكَت الصبيّة وأرَتني موضوغ درسها، وساعدتُها بفهم بضع نقاط بفضل معرفتي الواسعة. وصارَت سمَر تأتي إلى المكتبة كلّ يوم خلال فترة المساء، فأُجلسُها بالقرب مِن مكتبي وأُجيبُ عن أسئلتها حول درسها.

وفي أحد الأيّام، دخَلَ شاب والشرّ يتطايَرُ مِن عَينَيه صارخًا: "أين تلك الفاسقة؟ سأقتلها!". أوقفتُه عند الباب وسألتُه ماذا يُريدُ وما هو أهمّ مِن ذلك، لماذا هذه الألفاظ البذئية. نظَرَ إليّ وكأنّني مِن كوكب آخر وقال:

 

ـ أنتم المثقّفون لطفاء أكثر مِن اللزوم... أبحثُ عن أختي، رأيتُها تدخل إلى هنا. سأقتلُها!

 

ـ ستقتُلها لأنّها دخلَت مكتبة عامّة؟!؟

 

ـ أجل فلقد اكتفَينا مِن حركاتها! ستتزوّج مِن أوّل رجل يتقدّم لها.

 

ـ عظيم! إذًا سأصبحُ صهركم قريبًا! فأنا الآن أتقدّمُ لها... ما رأيكَ؟

 

ـ لست أدري... لقد فاجأتَني... إن كنتَ جادًّا في كلامكَ، فسنُعطيكَ إيّاها بكل سرور... لكنّها ليست طبيعيّة، أعنّي أنّ لا بأس بها لكن...

 

ـ لا أُبالي، سآخذُها كما هي. أعطِني عنوانكم وسآتي غدًا لطلَب يدها رسميًّا.

 

كانت فرحة ذلك الشاب لا تُقاس، ورأيتُه يبتسمُ لفكرة التخلّص مِن أخته.

وبعدما أعطاني العنوان ورحَل، رحتُ أبحثُ عن سمَر التي اختبأت لحظة رأت أخاها يدخلُ المكتبة، وكانت قد سمعَت حوارنا فسألتني:

 

ـ ماذا فعلتَ؟!؟ حين لا تذهب إليهم غدًا سيصبّون غضبهم عليّ ولن أستطيع إكمال دراستي!

 

ـ ومَن قال إنّني لن أذهب. سمَر... أظنّ أنّنا وُلِدنا لبعضنا، فمسار حياتنا مُتشابه وكلانا تعرَّضَ ويتعرّضُ للأذى مجّانًا... وخلال الفترة الأخيرة، صِرتُ مُتعلّقًا جدًّا بكِ وأنتظرُ قدومكِ على أحرّ مِن الجمر.

 

ـ لكن دراستي!

 

ـ سنتزوّج وتُكملين دراستكِ بشكل طبيعيّ، ولن نُنجب قبل أن تحصلي على شهادتكِ. ما رأيكِ بذلك؟

 

عانقَتني سمَر مطوّلاً وهمسَت في أذني: "كنتُ واثقة مِن أنّني سأجدُ يومًا إنسانًا مثلكَ... ومثلي."

 

تزوّجنا وبعد سنتَين نالَت سمَر إجازتها، وهي حامل الآن. أساعدُها بتحضير الدكتوراه، وسأساعدُها أيضا بإبننا لأنّني فخور بأن تكون زوجتي إنسانة مُتعلّمة ومُثقَّفة، وأريدُها أن تحقّقَ جميع أحلامها... فهذا هو الحبّ.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button