لعِبتُ بالنار

بالطبع كنتُ أعرفُ أنّ ربيع جارنا يُراقبُني مِن شبّاك غرفته الذي يطلُّ مُباشرة على شبّاك غرفتي. إلا أنّ الأمر كان مُسليًّا للغاية ومُضحكًا في مُعظم الأحيان. فالجدير بالذكر أنّني كنتُ صبيّة جميلة وجذّابة، بينما كان ربيع شابًّا لا يمتُّ للوسامة بِصِلة، بسبب نظّاراته السّميكة والبثور التي تغطَّي وجهه. وإلى جانب شكله، كان جاري خجولاً ويفتقدُ إلى الثقة بالنفس التي تبحثُ عنها الفتيات. بكلمة، لَم يكن لِربيع ولو فرصة ضئيلة بِدخول قلبي. في الواقع، كنتُ أشفقُ عليه، فقد أكون الصبيّة الوحيدة التي يراها، لأنّه كان قليل الخروج ويبقى في غرفته طوال الوقت يدرسُ ويُطالع، الأمر الذي جعلَه يُركّز كلّ انتباهه على تحرّكاتي في المبنى قبالته. ومع الوقت، صارَ ربيع جزءًا مِن حياتي اليوميّة وبدأتُ ألعبُ لعبة لَم أتوقَّع أبعادها.

كنتُ أقفُ على الشرفة وأنظُرُ إلى السّماء حالمةً، مُرتدية قميص نومي وكأنّني لا أعلم بوجوده، وأُبقي ستائر غرفتي مفتوحة طوال الوقت. قد تجدون الأمر شرّيرًا، إلا أنّني كنتُ آنذاك فتاة يافعة تُريد ممارسة إغرائها على شاب في مثل عمرها، مِن مسافة آمنة. فالكلّ كان يعرفُ أنّ جاري إنسان مُسالم لا يُفكّر سوى بالدّرس، وبالكاد يستطيع إلقاء التحيّة على جيرانه، ولكن بعد أن يحمرّ وجهه ويتلعثَم لسانه.

كانت قد مضَت حوالي الثلاث سنوات على هذا النحو، حين التقَيتُ بربيع وجهًا لوجه في دكّانة الحَي، وتصرّفتُ وكأنّني لا أعرفُه بتاتًا، الأمر الذي أراحَه، فقد كان حتمًا خائفًا مِن معرفتي بأمر مُراقبته لي. أخذتُ حاجات البيت، ومرَرتُ بالقرب منه ضاربةً بكتفه. إعتذرتُ منه، وهو وقَفَ مكانه وكأنّه صَنَمٌ. ضحكتُ في سرّي، وخرجتُ مِن الدكّانة راضية عن الذي فعلتُه. فقد كنتُ قد مارستُ عليه إغوائي له... مرّة أخرى.

لكن ما لَم أكن أعرفُه في ذلك السنّ، هو أنّ الناس ليسوا كما نراهم أو يدّعون. فلَم يقُل لي أحدٌ إنّ الغرور يُعمي صاحبه، ولقد تعلّمتُ الدّرس رغمًا عنّي.

مرَّت السنوات وكبرتُ، وصرتُ أكثر جمالاً بعد أن عرفتُ كيف أظهرُ أنوثتي، وصارَ لدَيّ العديد مِن المُعجبين. لكنّني لَم أكن بصدد الإرتباط، وإكتفَيتُ باللعب بهم كما يلهو القطّ بالفئران. أبقيتُ ربيع مُعلّقًا بأدنى حركة أقومُ بها في غرفتي، لأنه لَم يُبارح مكانه طوال ذلك الوقت بل زادَ درسًا بعد أن دخَلَ كليّة الطبّ. كيف علِمتُ باختصاصه؟ مِن الهيكل العظميّ الذي كان معلّقًا على باب خزانته وأدوات المختبر الموضوعة على طاولته. أمّا أنا، فاختَرتُ التمثيل والإخراج، الأمر الذي كنت أهواه منذ صغري.

 


وبعد تخرّجي بقليل، حَدَث أمر غير متوقّع: خرَجَ ربيع أخيرًا مِن صمته وعزلته يوم وقَفَ على شبّاك غرفته ونظَرَ إليّ مُباشرة. كانت نظراته غريبة، خاصّة أنّه كان قد خلَعَ نظّارته واستطعتُ أخيرًا رؤية عَينَيه. للحقيقة لَم أعرف ما أفعلُه فهو كان قد فاجأني، لِذا وقفتُ قبالته أحلّلُ الوضع. عندها تكلّمَ جاري:

 

ـ مرحبًا!

 

ـ مرحبًا.

 

ـ إسمي ربيع وأعيشُ هنا.

 

ـ أهلاً بكَ... إسمي صونيا وأعيشُ هنا.

 

ـ أعلمُ ذلك، فنحن جيران منذ سنوات عديدة. عليّ العودة إلى درسي، فأنا أعمل على مشروع مهمّ.

 

ـ ما هو؟

 

ـ إنّها مفاجأة.

 

ـ لي؟

 

لَم يُجِب بل دخَلَ غرفته وأسدَلَ الستائر، الأمر الذي لَم يفعله مِن قبل. كانت تصرّفاته غريبة للغاية، وشعرتُ بفضول كبير. ما الذي غيَّرَ جاري هكذا؟ هل لأنّه كان قد كبر ونضج وصار على وشك أن يُصبحَ طبيبًا؟ أردتُ معرفة المزيد، خاصّة أنّني وجدتُ ربيع جذّابًا جدًّا بحلّته الجديدة... وصرتُ أنا التي تُراقبُه.

بدأتُ أنتظرُ أن يفتَحَ ربيع ستائر غرفته، الأمر الذي لَم يعُد يحصل إلا نادرًا. وعندما كان يطلُّ عليّ، كان يُلوّحُ لي بيَده ويبتسمُ مِن دون أن يقول شيئًا. كنتُ أردّ التحيّة وأنتظرُ منه بضع كلمات، إلا أنّه كان يعود إلى عمله السرّيّ.

وبعد ستّة أشهر على هذا النحو، قرَّرَ ربيع أخيرًا أن يطلّ مِن شبّاكه. وقال مُفتخرًا:

 

ـ لقد انتهَيتُ. أصبحَت المفاجأة جاهزة.

 

ـ هل ستقولُ لي ما هي؟

 

ـ لا بل سترَينَها بعَينَيكِ.

 

ـ أرِها لي! لقد أثَرتَ فضولي!

 

ـ إسمعي... لقد ذهَبَ والدايَ إلى القرية لقضاء بضعة أيّام عند جدّتي، والبيت صارَ خاليًا. تعالي غدًا في مثل هذا الوقت.

 

ـ أذهب إليكَ وأنتَ لوحدكَ في البيت؟

 

ـ أجل، فنحن جيران وهذا ما يفعلُه الجيران عادةً. ألا تُريدين رؤية المفاجأة؟ لن يأخذ الأمر وقتًا طويلاً، أعدُكِ بذلك.

 

كيف قبلتُ أن أذهب إليه؟ لستُ أدري. فالأمر كان مُنافٍ لكلّ التعليمات التي تلقَّيتُها مِن أهلي وحتى للمنطق العام. لكنّ الغموض الذي لفَّ جاري مؤخّرًا جعلَني أتوق لكشف سرّ هذا الإنسان الذي أصبَحَ جزءًا مِن حياتي. كان الأمر وكأنّني أعرفُه مِن دون أن أعرفُه.

وفي اليوم التالي، ومِن دون أن أخبرَ أحدًا بما أنوي فعله، دخلتُ المبنى المُقابل وصعدتُ السلالم ودقَّيتُ باب شقّة ربيع. فتَحَ لي جاري وهو يرتدي برنصًا أبيضًا ووجدتُ الأمر مُثيرًا للغاية. فهناك هالة تُحيطُ بالأطبّاء، وشعرتُ بالأمان على الفور.

 


قدَّمَ ربيع لي كوبًا مِن الشاي، إلا أنّني رفضتُ بتهذيب لأنّ وقتي كان ضيّقًا، بعد أن قلتُ لأهلي إنّني ذاهبة إلى الدكّان. لِذا أدخلَني جاري إلى غرفته التي رأيتُها لأوّل مرّة مِن الداخل. كانت مليئة بالأدوات الطبّيّة، وسألتُه على الفور إن كان الهيكل العظميّ المُعلّق على الخزانة حقيقيًّا أم لا. إبتسَمَ ربيع وأجابَني بهدوء: "بالطبع إنّه حقيقيّ، يا عزيزتي، فالناس يموتون كل يوم، ونحن ندرسُ ما تبقّى منهم لنتمكّن مِن فهم أسرار الحياة... والموت." إقشعرّ بدنَي لدى سماعه يتكلّم عن الموت بهذه البساطة، إلا أنّني اعتبرتُ أن الأطبّاء مُعتادون على ذلك.

وفي زاوية الغرفة، أي في مكان لا أستطيع رؤيته مِن غرفتي، رأيتُ كرسيًّا ضخمًا تخرجُ منه أسلاكٌ عديدة. إبتسَمَ ربيع وقال لي بفخر:

 

- مُفاجأتكِ!

 

لَم أفهم قصده لِذا أخَذَ يشرحُ لي:

 

ـ عقل الإنسان أمر معقدّ للغاية... ففي الدّماغ تبصرُ الأفكار والمشاعر النور... مسألة كهربائيّة بحتة... ليس القلب هو الذي يُحرّكُ مشاعرنا بل الدّماغ... وهذا بالتحديد إختصاصي... الدّماغ. لقد راقبتُكِ يا صونيا لفترة طويلة للغاية وصرتُ أعرفُكِ عن ظهر قلب. وبعد دراساتي العميقة في الطبّ، صرتُ أعرفُ كيف يشتغلُ دماغكِ. أنتِ إنسانة مميّزة بالفعل وكلّ ما ينقصُكِ هو بعض التعديلات.

 

ـ ماذا تقصد؟ لَم أفهم حاجتُكَ إلى كلّ هذا الكلام.

 

ـ سأشرحُ لكِ. أرأيتِ هذا الكرسيّ؟ كلّ ما عليكِ فعله هو الجلوس عليه، وأنا سأوصلُ بكِ هذه الأسلاك وأديرُ تيّارًا كهربائيًا إلى دماغكِ. لن تتألّمي كثيرًا، لكن كان عليكِ شرب الشاي الذي عرضتُه عليكِ. سأحاولُ العمل إذًا مِن دون مُخدّر... لَم أحسب حساب ذلك. على كلّ الأحوال، عندما أقطعُ التيّار، ستشعُرين بحبّ عميق لي. لقد درستُ الموضوع مطوّلاً وأنا متأكّد مِن النتيجة. لا تخافي، أنتِ بين أيدٍ أمينة.

 

نظرتُ إلى ربيع بإمعان لأرى إن كان يُمازحُني، لكنّني أدركتُ أنّ الأمر كان حقيقيًّا. وشعرتُ بخوف لَم أتصوّره مُمكنًا، فأنا واقفة أمام إنسان مجنون يُريدُ أن أجلس على كرسيّ كهربائيّ وتمرير تيّار في دماغي! هل كنتُ أحلمُ أم أنّ ساعتي دقَّت؟!؟ وما أخافَني الأكثر، كان هدوء ربيع، فهو كان فعلاً مُقتنعًا بالذي ينوي فعله، ولَم يتصوّر حتى أنّني سأرفضُ عرضه. وهذا بالذات الذي أنقَذَ حياتي. فبالرّغم مِن أنّني كنتُ أرتجفُ مِن الخوف قلتُ له:

 

ـ مفاجأة جميلة يا ربيع تدلُّ على عبقريّتُكَ وعلى تمسّككَ بي، الأمر الذي خَلَقَ في قلبي إعتزازًا كبيرًا.

 

ـ أشكرُكِ على هذه الكلمات. لنبدأ عمليّة التحوّل إذًا.

 

ـ مهلاً يا ربيع! فقد يفشلُ مشروعكَ وترى جهودكَ تذهبُ سدىً.

 

ـ لماذا؟

 

ـ لسبب بسيط. فلقد قلتُ لأهلي إنّني قاصدة الدكّان وعائدة إلى البيت على الفور. وعندما لا أعودُ، سينشغلُ بالُهم طبعًا ويذهبون للتفتيش عنّي. لو علِمتُ مدى عبقريّة إختراعكَ، لقدّمتُ عذرًا آخرًا لأهلي، كذهابي إلى صديقتي لقضاء النهار عندها. إسمَع... لدَيّ فكرة... سأعودُ بسرعة إلى البيت، وأخترعُ لوالدَيّ قصّة تمنحُنا مزيدًا مِن الوقت... إنتظرني هنا.

 

ـ وإن لَم تعودي؟!؟

 

ـ لا أعود؟ ألا ترى مدى حماسي؟

 

لو لَم يكن ربيع مجنونًا لَما اقتنَعَ بكلامي، بل كان قد أقعدَني بالقوّة على الكرسيّ الكهربائيّ. ولو لَم أنجَح بإخفاء خوفي العميق وراء بسمتي، لكنتُ الآن إمَّا ميّتة أو فاقدة العقل، بعد أن يُمرّر جاري تيّارًا كهربائيًّا في دماغي.

سادَ سكوت خلتُه لن ينتهي حين قال ربيع:

 

- حسنًا... سأكون بانتظاركِ.

 

إبتسمتُ له ثانية وتمتمتُ:

 

- دقائق قليلة!

 

سرتُ ببطء نحو الباب كي أبدو طبيعيّة، ومِن ثمّ هروَلتُ على السلالم.

ركضتُ كالمجنونة إلى مبنانا، ودخلتُ بيتنا وأنا أصرخُ:

 

- أنجدوني! أنجدوني!

 

راحَت الشرطة إلى غرفة ربيع بعد أن أبلَغَ عنه أبي وأخذوه للتحقيق. جاءَ والداه مِن القرية ودافعا طبعًا عن إبنهما. لكنّ الشرطة لَم تجد دليلاً قاطعًا على ما كان ينوي ربيع فعله بي، بعد أن قال لهم إنّ الكرسيّ كان مشروعًا يودّ تقديمه للجامعة. كادَ ذلك المجنون أن يُفلتَ مِن العدالة لو لَم أتذكّر أمر المنوّم في الشاي. وبعد أن حلّلوا محتوى الفنجان، تمّ القبض على ربيع. إلا أنّ الدلائل كانت ضعيفة واستطاعَ أهل ربيع إخراجه بكفالة حتى موعد المُحاكمة. خفتُ كثيرًا على نفسي طبعًا، لكنّ جاري المجنون إّختفى بعد أيّام معدودة.

عشنا بالرّعب وذهبتُ وأهلي إلى منزل إستأجرناه في قرية معزولة بانتظار معرفة مكان وجود ربيع، إلى حين قيل لنا إنّ والدَيه هرّباه إلى وجهة غير معروفة عبر معبَر غير شرعيّ على الحدود. وحتى اليوم، أي بعد مرور خمس عشرة سنة على تلك الأحداث، لَم نسَمع عنه خبَرًا.

لقد تأثرّتُ كثيرًا بما كادَ أن يحصل لي، وتغيّرَتُ بشكل ملحوظ، فلَم أعدُ أرى الناس كما هم بل كمصدر أذىً لي. ولزمَني وقت طويل لأستعيد حياة شبه طبيعيّة. لمتُ نفسي كثيرًا على ما حصَلَ، إلا أنّ الطبيب النفسيّ الذي أجرَيتُ معه جلسات عديدة قال لي إنّها كانت مسألة حظ بحتة، فكَم مِن الناس يُفكّرون ويتصرّفون مثل ربيع؟ صحيح أنّني لعِبتُ بالنار، لكنّ هذه النار كانت بركانًا مِن العقد النفسيّة إنفجَرَ بوجهي وكادَ أن يبتلِعَني.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button