لعنة حماتي (الجزء 2)

دخَلتُ بيت سمير وقلبي مليء بالتفاؤل. كنت قد قبِلتُ الزّواج مِن رجل أرمل لدَيه ثلاثة أولاد، أوّلاً لرغبتي بإعادة بناء نفسي ونسيان خذلان رضوان لي والابتعاد عن حماتي ومكرها، وثانيًا بسبب الضغوط العائليّة عليّ، فمِن المعروف أنّ المرأة المطلّقة تصبح عبئًا على باقي العائلة التي تسرع بتزويجها تجنّبًا لكلام الناس.

أحبَّني أولاد سمير ورأوا فيّ أمًّا ثانية وأنا بادلتُهم هذا الشعور الجميل، ولن أنسى أبدًا يوم نادوني "ماما" لأوّل مرّة، لأنّني بكيتُ مِن الفرَح وخلتُ فعلاً أنّني وجَدتُ أخيرًا السعادة المنتظرة، خاصّة عندما علِمتُ أنّني حامل مِن جديد، فقد كانت الحياة أخيرًا تعطيني كلّ ما لدَيها في آن واحد.

ولكن، مرّة جديدة، حصلَت تعقيدات لأنّ حملي لم يكن بمكانه ولم يعش جنيني. خضَعت لعملية إجهاض وبقيتُ في المشفى لأيّام أبكي على حظّي السيّئ.

وعند عودتي إلى البيت، كان زوجي قد سألَ عن ظروف طلاقي وأحوال زوجي السّابق وزوجته الثانية فاطمة. لِذا قال لي بغضب كبير:

 

ـ أنتِ امرأة مريضة ولهذا السبب فقط زوّجوكِ لي... أرادَت عائلتكِ التخلّص منكِ بسرعة وإلصاقكِ بمَن يرضى بكِ! والدليل الأكبر على ذلك هو أن زوجة طليقكِ حامل الآن! نعم لقد سألتُ عنكِ وعن عائلة زوجكِ، وكان يجدر بي فعل ذلك قبل أن أتزوّج مِن مصيبة مثلكِ!

 

حاوَلتُ إفهامه أنّ لا دخل لي بالذي يحصل، وأنّني حتى لو لم أنجب له فإنّني أهتمّ به وبأولاده الذين عادوا يُحبّون الحياة بسبب وجودي بينهم، ولكنّه كان قد كرهَني إلى درجة التخلّص منّي.

وهكذا، وبعد تسعة أشهر على زواجنا، قام سمير بتطليقي بالرّغم مِن أنّني حمِلت منّه مجدّدًا. لم يتكبّد حتى عناء الانتظار ليرى إن كنتُ سأنجب أم لا، أرادَ أن ينساني كما فَعَلَ الذي سبَقَه.

 


عدتُ إلى منزل أخي وأسرَعَ سمير بالزواج مِن أخرى، وكان أسمها فاطمة. وفي تلك اللحظة، تذكَّرت تحذير حماتي السابقة عندما قالت لي إنّ زوجي الثاني سيُطلّقني بعد تسعة أشهر وإنّ اسم فاطمة سيظلّ يُلاحقني حتى مماتي.

وبالرّغم مِن اشمئزازي منه، بقيتُ على تواصل مع سمير لأنّ المحكمة كانت قد حكَمَت عليه بالاهتمام ماديًّا بحملي، وسألتُه لماذا أهدى مهرًا لفاطمة بينما أهداني أنا خاتمًا فقط. عندها أجابَني بكلّ بساطة:

 

ـ لأنّها عذراء وأنتِ كنتِ مطلّقة.

 

وأدرَكتُ أنّني كشأن سائر نساء مجتمعي، مجرّد سلعة يُدفَع ثمنها حسب حالتها... حزِنتُ على وضعي كامرأة وكأم، وأقسَمت أن أربّي ولَدي على احترام النساء كأشخاص وليس كأشياء. أقول إبني لأنّ ما كان في بطني كان صبيًّا، وصلّيتُ كثيرًا كي لا أفقده هو الآخر، ولم يعد يهمنّي أبوه ولا سائر الرجال ولا حتى لعنات حماتي، أرَدتُه أن يعيش وأن أضمَّه إلى صدري وأسمَع دقّات قلبه الصغير.

وبدأَت مسيرتي الصعبة مع طبيبتي التي صمَّمَت على متابعتي عن كثب، فصارَت تأتي لزيارتي أسبوعيًّا. وعندما علِمَ سمير أنّ الجنين لا يزال على قَيد الحياة، تعجَّبَ كثيرًا وباتَ يتّصل بي يوميًّا وينتظرني في عيادة الطبيبة عند كلّ زيارتي لها، متحجّجًا بأنّه المسؤول عن التكاليف الطبيّة.

كنتُ أتلقّى حِقَنًا بشكلّ أسبوعيّ، وتحمَّلتُ كلّ العلاجات ليحيا ابني. كنت خائفة جدًّا ولكن مصرّة على إعطاء الحياة ولو مرّة في حياتي. مرَّت الأشهر بصعوبة وبطء رهيب، وجاء أخيرًا يوم الولادة التي كانت ستُجرى قيصريًّا، ووافاني سمير إلى المشفى طالبًا منّي السماح:

 

ـ لا أدري لماذا طلّقتكِ... لطالما كنتِ زوجة ممتازة... أَحبَّكِ أولادي ولم تسيئي يومًا معاملَتهم لا بل كنتِ أمًّا حقيقية لهم... أَحبَّكِ جميع أفراد عائلتي وأصدقائي... صدّقيني عندما أقول لكِ إنّني لا أحبّ فاطمة زوجتي الجديدة... سامحيني أرجوكِ.

 

ـ لا... لن أسامحكَ ولن أسامح زوجي الأوّل، فلَم يرحمني أيّ منكما مع أنّني يتيمة والله أوصى بالأيتام... أرَدتُ زوجًا عطوفًا يُشعرني بالأمان وأنتَ خذلتَني كما فَعَلَ الذي سبقكَ... تأتي إليّ الآن باكيًا لأنّكَ أدرَكتَ أنّني سأنجب أخيرًا... وأنت لم تساندني يوم أجهَضتُ بل ركَضتَ تجد لنفسكَ الأعذار لتستبدلني بسرعة ببضاعة جديدة... في البداية صدَّقتُ حماتي عندما لعَنَتني، لأنّني كنتُ في موقف ضعف وأريد تفسيرًا لعدَم تمكّني مِن الانجاب... صدَّقتُ السحر والشعوذة ونسيتُ أنّ الله وحده يستطيع منح الحياة... ما حَصَل لي عند زوجي الأوّل كان واضحًا لِمَن أرادَ النظر في الأمور بمنطق: حماتي كانت تكرهني ولعِبَت برأس زوجي، مستعينة بوضعي الصحيّ إلى أن كرَهَني هو الآخر ووجَدَ امرأة أخرى... كنتُ بحاجة إلى علاج بسيط لو قمتُ بتلقّيه كما فعلتُ الآن لأنجبتُ منذ الأوّل... لعنة تحت اسم فاطمة؟ دعني أضحك! نصف نساء البلد إسمهنّ فاطمة! وكونكَ تزوّجتَ مِن إحداهنّ ليس سوى صدفة، فأرجوكَ ألا تأخذ ذلك عذرًا لكَ وتدّعي أنّكَ لا تفهم ما أصابكَ! كلّ ما في الأمر أنّكَ أرَدتَ امرأة مِن دون مشاكل صحيّة لتثبِتَ مِن خلالها رجوليّتكَ وقدرتكَ على الإنجاب... لدَيكَ ثلاثة أولاد، فما حاجتكَ إلى أولاد آخرين؟ كان لدَيكَ زوجة مُحبّة ومتفانية... هنيئًا لكَ بعروسكَ الشابّة!

 


وعندما وضعوا إبني على صدري، بكيتُ وبكَت الطبيبة والممرّضات اللواتي كنّ على علم بقصّتي. بكينا أمام معجزة الحياة وأمام مستقبلي الذي أخَذَ منعطفًا جديدًا بوجود هذا المخلوق الجميل والرّقيق.

عدتُ إلى بيت أخي مرفوعة الرأس أخيرًا، وعندما تعافَيتُ كليًّا وبفضل مساعدة زوجة أخي لي، إستطَعتُ أن أفكّر بوضوح بمستقبلي أنا وابني. وكانت تلك أوّل مرّة أكون فيها سيّدة قراري، فمنذ ما ولِدتُ لم أشعر بأنّني مستقلّة وأنّ عليّ تقرير باقي حياتي لوحدي، ويا للشعور الجميل! لأوّل مرّة أشعر بكياني كإنسانة وليس كابنة أو أخت أو زوجة. لِذا طلَبتُ مِن أخي أن يُعطيني قسمًا مِن الأرض التي بنى عليها منزله، وبعتُ ما كنتُ أملك مِن ذهب وأغراض شخصيّة وبدأتُ ببناء مسكن صغير مؤلّف مِن غرفة نوم ومنافعها، وكان ذلك كافيًا لي ولإبني الحبيب.

وكي أعيش بكرامة إلى حين أجد عملاً، إستعَدتُ راتب تقاعد المرحوم أبي الذي كنّا قد عشنا مِن دونه بفضل أعمامي.

والجدير بالذكر أنّ فاطمة زوجة رضوان لم تكن بحامل، بل أدَّعَت ذلك ولم تنجب حتى اليوم، وفاطمة زوجة سمير لم تنجب هي الأخرى. أين لعنة حماتي مِن ذلك؟

إبني اليوم في الثانية مِن عمره، وأحبُّه أكثر مِن أيّ شخص في العالم لأنّه هدَف حياتي، وكلّما أنظر إليه أرى معجزة حيّة أمامي.

جاءَ الكثير لطلَب يدي، وبقيتُ أرفض لأنّ هناك مِن يسكن بالي... وقلبي، وهو الشاب نفسه الذي أحبَبتُه عندما كنتُ مراهقة.

كان قد زارَ أخي بعد طلاقي الأوّل مُعربًا عن نيّته الزواج منّي، ولكنّ أهله لم يُوافقوا على ذلك، فغادَرَ إلى فرنسا تاركًا كلّ شيء وراءه. وبعد طلاقي الثاني، عادَ مِن الغربة وحاولَ مجدّدًا إقناع أهله بي إلا أنّهم رفضوا مجدّدًا. ودَّعَني بحزن وسافَرَ واعدًا بأنّه سيأخذني إليه مع ابني عندما تتحسّن أحواله لنتزوّج هناك.

هل أصدّقه بعدما خذَلَني اللذَين سبقاه؟ هل سيَفي بوعده لي؟ لا أملك الجواب، ولكنّني حتى ذلك الحين سأتابع حياتي مع ولدي، وأنظر أمامي إلى مستقبل قد لا يكون فيه رجال.

 

حاورتها بولا جهشان

المزيد
back to top button